الاصلاح وجدل الداخل والخارج

ممانعة مبطّنة أم رغبة مؤجلة

(السعودية نموذجاً)*

 

 د. فؤاد إبراهيم 
Email: fouad@saudiaffairs.net

 

 

في البداية أتقدم بالشكر الجزيل لادارة مركز القدس للدراسات السياسية ومؤسسة كونراد إديناور والمنظّمين لهذا المؤتمر، والذي نرجو أن يدشّن قاعدة لفهم أفضل لموضوع الاصلاح، وشروطه، وآلياته.

 تمهيد:

وهبت حوادث الحادي عشر من سبتمبر المختمر السياسي في المجتمع السعودي زخماً إستثنائياً، وكان لهذا المختمر إتجاهان متنافران: الاول، راديكالي عنفي يستلهم من الروح القتالية لابن لادن وشبكة تنظيم القاعدة، والثاني، إصلاحي سلمي يستلهم من القيم الديمقراطية المشاعة عالمياً، ويضم بداخله طيفاً من القوى السياسية من تحدّرات ايديولوجية وإجتماعية متباينة. وقد بدأ الاتجاهان يعملان بصورة متزامنة في التعبير عن أهدافهما، وتجسيد وجودهما على المسرح السياسي المحلي، فبينما كانت الجماعات المسلّحة تهيء لأول موجة عمليات إنتحارية ضد المنشآت المدنية في الرياض، كانت القوى الاصلاحية تعقد جلساتها التنسيقية لتسليم أول عريضة لولي العهد السابق والملك الحالي عبد الله في يناير 2003، والتي كانت بعنوان (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) وقد تضمنت محاور الاصلاح المقترحة بالتشديد على حاجة الدولة الى دستور فاعل، واصلاح النظم التعليمية والقضائية، وتشكيل مؤسسات منتخبة، وفصل السلطات، وحرية التعبير، وفتح باب الحوار على نطاق وطني واسع لمناقشة المشكلات الاقتصادية والامنية والاجتماعية والسياسية التي تواجه الدولة. وقد أعقب ذلك تسليم اربع عرائض أخرى من قبل التيار الاصلاحي وبعض إشتقاقاته والتي تلتقي في مطالبها عند السقف الذي حددته العريضة الاولى. ولكن في الخامس عشر من مارس 2004 واجه التيار الاصلاحي عملية مباغته أوقفته بصورة حازمة وصارمة، بعد اعتقال الرموز الفاعلة في التيار الاصلاحي.

في ضوء المتغيرات الدراماتيكية الجارية بعد سبتمبر 2001، برزت قضية الاصلاح بوصفها المستور الداخلي غير المنجز، والذي كان يجد فرصته النادرة في الاستعلان المتقطع في ظروف سياسية إستثنائية، كما حصل في الستينيات من القرن الماضي، وأزمة الخليج الثانية عام 1991 وصولاً الى زلزال سبتمبر 2001.

لقد ظّل الاصلاح مطلباً داخلياً طيلة العقود الماضية، فيما كان الخارج مستبعداً بطواعية تامة، حيث كان منهمكاً في ترسيخ تحالفاته الاستراتيجية مع الداخل، ولم يكن الاصلاح وارداً بأي حال في أجندته.. ولكن الصحوة المتأخرة للخارج، على وقع الدوي العنيف لزلزال سبتمبر، نبّه على أهمية التفكير الجاد في قضية الاصلاح بوصفه بديلاً وخيار ضرورة من أجل درء المزيد من الكوارث غير المتوقعة. ومن هنا بدأ يطرح الخارج في سياق إشكالي جدلي كونه ينطوي على تهديدات متخيّلة أو واقعية للنظم السياسية العربية.

ندرك تماماً حجم الضغوطات التي تعرضت لها المملكة العربية السعودية عقب هجمات سبتمبر، حيث كان الاعلان عن ضلوع خمسة عشر مواطناً سعودياً من أصل تسعة عشر إنتحارياً في تلك الهجمات، قد فجّر حملة انتقادات داخل الولايات المتحدة وفي العالم عموماً، وأصبح مجمل مؤسسات الدولة وسياساتها الدينية والتعليمية هدفاً مباشراً لحملة انتقادات واسعة النطاق، حيث صوّرت المملكة وكأنها مخصباً نشطاً للارهاب والتطرف، أو على حد توصيف موراويك في الهيئة الاستشارية في البنتاغون في يوليو 2002 أن المملكة هي (بؤرة الشر). إن تلك الضغوطات نجمت عن تصورات أولية لا تخلو في بعض الاحيان من إستجابات انفعالية تمليها بعض المؤسسات اليمينية المتطرفة داخل الولايات المتحدة لجهة إحداث تغييرات راديكالية في النظام السياسي السعودي. غير أن تلك الضغوطات المنفعلة بدأت تأخذ لاحقاً هيئة مشاريع اصلاحية ذات معالم محددة مؤسسة على إعادة تقييم للعلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الشرق الاوسط. ففي كلمة للرئيس الاميركي جورج بوش في السادس من نوفمبر 2003 قدّم مقاربة جديدة للمنطقة ملفتاً النظر الى ستين عام من الدعم للديكتاتوريات في الشرق الاوسط التي لم توفّر الأمن للأميركيين، وأن الولايات المتحدة ستتبنى من الآن فصاعداً استراتيجية تقدمية من الحرية في الشرق الاوسط. وقد أعاد الرئيس بوش تجديد دعوته في قمة الناتو في استانبول في يونيو 2004، حيث شدد على أن قمع الاحتجاج الداخلي يفضي الى زيادة وتيرة التطرف، وكان يشير في ذلك الى أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة.

 

مقدمات ضرورية

ـ لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحدها المنبّه الوحيد الى ضرورة الاصلاح الشامل في النظام السياسي والمؤسسات التعليمية والدينية والقضائية، فقد نبّهت النشاطات السياسية السابقة ثم العرائض فيما بعد الى كل ذلك قبل أن تنطلق مبادرات الاصلاح من الخارج. إذن،  فالاصلاح ليس مطلباً آنياً وليس وليد مفاعيل خارجية أو متغيرات سياسية فجائية، بل ترافق مع سيرورة الدولة منذ ولادتها،  وإن كانت وتيرة المطلب الاصلاحي تطوّرت تدريجياً.

ـ إن الموقف من الخارج المكافىء للغرب يرتد الى نهايات القرن الثامن عشر حين بدأ أول احتكاك حضاري مباشر بين الشرق والغرب، وحيث جرى فصل التقدم الحضاري الغربي عن مشروعه السياسي التحديثي. وبحسب تصريح وزير سعودي سابق (لقد نجحنا في إستيراد التكنولوجيا بدون أيديولوجيا)، فهناك إرادة على تجزئة الخارج، بمعنى الاستقواء به تقنياً وعسكرياً وأمنياً لدعم استقرار النظام السياسي دون استعارة مفاهيم الخارج في الحداثة ومتوالياتها الليبرالية والديمقراطية. فالخارج يغدو مقبولاً في كل شيء الا في الاصلاح، أي حين يراد من النظام السياسي التنازل عن جزء من امتيازاته، أو حين يكون الخارج داعماً لاستقراره واستبداده، ولكن حين يكون الخارج عامل ضغط في موضوع الاصلاح تحديداً فإنه يصبح مرفوضاً. فثمة مزايدات مبتذلة حول رفض الاصلاح حين يفرض من الخارج وهي تأتي في سياق الممانعة الرسمية.

ـ حين الحديث عن الخارج تتدفق سلسلة من الصور الذهنية: غزو افغانستان واسقاط حكومة طالبان واحتلال العراق والاصطفاف خلف اسرائيل في اغتصاب الأرض، الغرب ككتلة حضارية قطبية بميراثها الاستعماري.

إن عقدة الخارج تعني للثوري العربي الاستعمار الاميركي والامبريالية الغربية وللسلفي الديني يعني الغزو الثقافي الغربي الصليبي، ولكن حين يتحرر مفهوم الخارج من ملابساته تلغى الفاصلة بين الداخل والخارج، وينظر الى العالم بوصفه دائرة واحدة تصخب بالتفاعلات السياسية والفكرية والحضارية سيما في ظل الثراء الاتصالي الكثيف.

ـ ليس لدينا تقاليد إصلاحية حقيقية، فالتغييرات الشكلية التي طالت نظام الحكم كانت تجري في سياق تسوية داخل السلطة ذاتها أي بين أفراد النخبة الحاكمة، وبالتالي فإن الاصلاح يبدو منبوذاً في الحد الأول. ولأن الاصلاح المكافىء الايديولوجي للديمقراطية يحمل في طياته موحياته الخارجية، وبالتالي فإن الربط بين القوى الاصلاحية والخارج يصبح مدركاً. وإستطراداً، فإن وضع انعدام التقاليد الاصلاحية المحلية مع خارجية المفهوم الاصلاحي يكون هناك مجال رحب للقلق من خلفيات المطلب الاصلاحي.

وفي هذا السياق ترد الممانعة السلفية كمضاد تقليدي لكل ماهو حديث وديمقراطي. فقد تمظهرت السلفية السياسية في تجربة الانتخابات البلدية، فأعطت دليلاً إضافياً للقائلين بقابلية اختطاف الديمقراطية من قبل الاتجاهات الاصولية المتطرفة، فقد أفادت الجماعات السلفية من الانتخابات البلدية التي جرت قبل عام في اعادة انتاج ذاتها سياسياً وايديولوجياً وترسيخ نزعتها الاقتلاعية،  حيث أظهرت اللهجة السياسية السلفية ممثلة في شعارات وحملات وخطابات الناخبين جنوحاً نحو تطويق العملية السياسية بحيث تكون خاضعة بالكامل للتيار الديني السلفي، ولذلك فهو يشارك في الانتخابات من باب سد الذرائع وأجندة الاولويات ودفع الضرر الأكبر، وليس ايماناً بشرعية الانتخابات كآلية للحكم والادارة.

يقول الشيخ صالح آل الشيخ وزير العدل السعودي بأن (الدستور و البرلمان و الديموقراطية ليسوا من الإسلام، وأن هذه الافكار لا تتماشى مع الاسلام وأن الحكم في الدين لله سبحانه و ليس للناس وما على الرسول إلا البلاغ). كما رسم مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حداً صارماً في مسار الاصلاح، وقرر بأن (الإصلاح لن يكون إلا بدين الإسلام) واصفاً من يشكك في ذلك بأنه (العدو)، وأن إصلاح الأمة لا يكون إلا بدين الإسلام وبقيادة تطبق هذا الدين وتنفذ شرع الله. فهنا يوضع الاصلاح كأحد مصادر انقسام المجتمع، ويستبطن في الوقت ذاته إتهاماً لدعاة الاصلاح بوصفهم دعاة فرقة وإنقسام.

إن هذا النص يحتوي بصورة مكثّفة على مكوّنات الخطاب الديني الرسمي، فهو يصدر عن عقيدة تنزيهية نهائية يفترض تمثّل مرجعية عليا ووحيدة للدولة والمجتمع، واحتكار حق تفسير النص الديني كما يملي نسقاً صارماً في العلاقات الداخلية بين الفئات الاجتماعية المختلفة وبين المجتمع والسلطة، كما توصم دعاة الاصلاح بعناوين مختلفة بأنهم سعاة لتمزيق الصف وإشاعة الفوضى والكراهية.

تلتقي تلك التصريحات الحاسمة والصارمة مع اعتقاد راسخ لدى بعض أفراد الطبقة الحاكمة بأن النظام القائم يجسّد الحكم الصالح بالمعنى الشرعي، ولذلك نجحت هذه بفعل الاسناد الديني الكثيف والمتواصل في إخماد ظواهر السخط العام السلمية منها والعنفية. وكما تخبرنا التجارب السابقة، فإن اللجوء الى الخطاب الديني يتم لمواجهة مشكلات لا يراد حلها بطريقة سياسية وتقنية، كونها ترتطم بمشروعية السياسات العامة.. فقد لجأت الطبقة الحاكمة الى المؤسسة الدينية لتسوية الصراع على السلطة في الستينيات، وجرى إقحام المؤسسة الدينية لحل اشكالية الاستعانة بالقوات الاجنبية في حرب الخليج الثانية، وفي مواجهة التيار الديني السلفي المطالب بإصلاح الحكم، وحين صدر قرار إجماعي في منتصف مارس من العام الفائت بكبح حركة الاصلاح كان متوقّعاً أن يلعب علماء الدين دوراً عاضداً.

  ـ ثمة اتفاق شبه معلن على حتمية تبني الخيار الاصلاحي ولكن الاختلاف على التوقيت وكمية الجرعات الاصلاحية المطلوبة. ففي الورقة التي قدّمها وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في الجنادرية في ديسمبر 2004 الماضي حول المشاركة السياسية في المملكة، جاء: (إن غياب المشاركة السياسية الفاعلة هو المفضي إلى توالي الأزمات وهو المؤدي إلى تعميق التشوهات وهو المتسبب في فقدان القدرة على مواجهة التحديات. وبدون تطوير فعلي للمشاركة سيبقى العالم العربي يعيش في الماضي والتاريخ وستخسر الأجيال القادمة رهان المشاركة في صنع المستقبل). وأضاف: (يتطلب تطوير المشاركة السياسية أن نملك الجرأة اللازمة لممارسة النقد الذاتي البناء وإعادة النظر في ثقافتنا السياسية السائدة، والتغلب على العوائق التي تضعف قدرتنا على الابتكار والتكيف). وانتقد الأمير ما أسماه بالأوهام الرائجة التي تدعو الى تأجيل المشاركة السياسية بحجة مواجهة العدوان الخارجي ويضيف: (من الغريب أن تتم التضحية بالمشاركة السياسية والتي تعد مطلباً قائماً بذاته بسبب هذه الحجج الواهية والأوهام الخاطئة في حين تؤكد جميع التجارب التاريخية والمعاصرة أن المشاركة الشعبية هي التي تعزز القدرة على مواجهة التحديات الخارجية). بمعنى أن التحديات الخارجية لا يمكن مواجهتها (إلا بالاعتماد على قوة الجبهة الداخلية ومتانة الوحدة الوطنية ورسوخ الشرعية السياسية وهذه بدورها تعتمد اعتماداً واضحاً على وجود مشاركة سياسية فاعلة ومجدية).

إن هذه التصريحات المفعمة بالأمل والتصميم بقدر ما تبعث على الارتياح فإنها في الوقت ذاته لا تمثل رؤية إجماعية، الى جانب كونها تلفت الانتباه الى ممانعة مبطّنة إزاء تأثيرات الخارج في تسيير دفة الاصلاح. في المقابل، هناك ما يبرر خوف الطبقة الحاكمة من الاصلاح السياسي عموماً، فثمة أخطار حقيقية محدقة بوحدة الدولة، وأن تبني الاصلاح بصورة عملية قد يفضي الى إضعاف بنية السلطة، أو هكذا الشعور الذي ينتاب النخبة الحاكمة، ولكن الخوف يتم إستعماله أحياناً كمبرر لنبذ خيار الاصلاح بأي حال.

 

الثقافة المحلية والخارج

إن الاتجاه المتنامي نحو مشاريع الدمقرطة في الشرق الأوسط بعد أزمة الخليج الثانية، وما لحقها من تطورات أثار سؤالاً مفتعلاً داخل دوائر أكاديمية وسياسية حول التوافق بين الاسلام والديمقراطية، متزامناً مع الضخ الإعلامي الكثيف المصاحب لتزايد قوة حركة الاحياء الديني خلال فترة إحتلال الكويت عام 90ـ91، إضافة الى المشاركة المتنامية للحركات الاسلامية في العمليات الانتخابية في عدد من البلدان العربية والاسلامية: الاردن، مصر، اليمن، الجزائر، والمغرب وغيرها.

إن إحدى المجادلات الجوهرية حول الاصلاحات السياسية تتمحور حول أن الاصلاحات باتت رغم كل ما يقال عن معوّقات سياسية ودينية تحظى بقبول إن لم يكن بترحيب القيادة السياسية، الى درجة الزعم بأن الحكومة السعودية تبذل جهوداً حقيقية من أجل تمهيد السبيل للبدء بالإصلاحات والحريات العامة. فثمة أمل بزغ قبل نحو سنتين منذ أن أطلق الملك عبد الله مبادرات إصلاحية طموحة على مستوى الوطن العربي، وطرحها على القمة العربية، ومازال الطريق طويلاً لتحقيق المنجز الاصلاحي المؤجل والمأمول.

 ولكن من جهة أخرى، فإن الاصلاحات المطلوبة تستهدف بدرجة أساسية الانصهار في التقاليد السعودية والشريعة المتبّعة من قبل النظام.. فهناك نزوع تقليدي لدى الطبقة الحاكمة لجهة الاستجابة للمطالب المتنامية بالدمقرطة مع عدم إضعاف السلطة التقليدية.

فالسؤال هنا ليس حول ما إذا كان الاسلام متطابقاً مع الديمقراطية، في محاولة تضليلية واضحة. فالتاريخ، حسب جون أوسبيسيتو وجيمس بسكاتوري، يكشف عن أن الأمم والتقاليد الدينية قادرة على إمتلاك تفسيرات أيديولوجية متعددة وإعادة توجيه لهذه التقاليد، حسب شروط الزمان والمكان. وحتى إذا كانت الثقافة السائدة في بلد ما هي في مستوى ما عائقاً للديمقراطية، فإن الثقافات التاريخية هي ديناميكية وليست ساكنة بحيث تعيد شحن ذاتها بعناصر تطوير من خارجها دون أن تفقد قدرتها على البقاء والتميّز، وبالتالي فإن الاعتقادات المهيمنة والسلوك السائد في المجتمع تخضع للتغيير. وفيما يتم الحفاظ على عناصر الاستمرار، فإن الثقافة السائدة في المجتمع قد تختلف بصورة ملحوظة عما كانت عليه قبل جيل أو جيلين سابقين حسب صموئيل هانتغتون.

على الجانب الآخر، هناك سؤال يدور حصرياً حول مشيئة القيادة السياسية في السعودية حيال تطوير إصلاحات تقوم على التعبئة والاستيعاب بغية إدماج الجماعات الجديدة في السياسة. فبناء على المقاربة العقلانية، يمكن للمرء القول بأن الحاصل النهائي من هذين الاصلاحين (التعبئة والاستيعاب) سينتج عن خسارة رجال السياسة الحاليين لجزء هام وجوهري من السلطة. فالتعبئة كأسلوب إصلاحي لاتبدو محتملة حين تقارن مع خطوات في الكويت والبحرين وحتى قطر. فالقيادة السياسية لا زالت ترى بانها تحكم مجتمعاً منقسماً وهذا يشكل أحد مصادر قوتها وتماسكها، وليس هناك أيضاً إرادة لدى رجال السياسة في المملكة العربية السعودية لاستيعاب الجماعات الجديدة لأن ذلك يعني تفتيت السلطة الى أجزاء، وقد يؤدي الى تفكيك الدولة في حالة إختلال ميزان القوى في المستقبل بفعل تكسير السلطة.

يبقى تحقيق التوازن الداخلي إجتماعياً وثقافياً ضرورياً من أجل تحقيق أهداف السلطة والسكان سواء بسواء، فالحكومة يجب أن تسعى للمحاربة ضد كافة أنواع إحتكار الفكر. فهي الآن أمام فرصة تاريخية لتطوير نظام تعليمي قادر على تلبية حاجات العصر ومجابهة تحدياته، وهكذا تشجيع حرية الصحافة وزيادة حقوق المرأة، وإطلاق المؤسسات الأهلية نحو المساهمة الفاعلة في بناء المجتمع المدني، إضافة الى موضوعات أخرى ضاغطة.

إن المجتمع يجب أيضاً أن يبدأ في إصلاحات راديكالية على المستوى الاجتماعي الى جانب الاصلاح السياسي. فالكتّاب والمفكرون يجب أن يصبحوا جزءاً من الحوار الاجتماعي العام، والذي يقوم على التسامح إزاء الأفكار المختلفة. كما أن الجامعات بحاجة الى أن تفتح الأبواب أمام طلابها للقيام بنشاطات سياسية واجتماعية، وفي الحد الأدنى يفترض أن يمتلك الطلاب الحق في تشكيل إتحادات طلابية. فهذه من شأنها أن تعلمهم فكرة (الفعالية الاجتماعية) وكيفية تنظيم نشاطات حضارية سلمية داخل الجامعات. أفكار كهذه من شأنها أن تساعد الجيل القادم على خلق وهكذا المشاركة في مجتمع أهلي سلمي ومنتج، بدلاً من الموت السادي في أفغانستان أو أي مكان آخر من أجل أهداف لا يدرك أغلبهم خلفياتها الحقيقية.

نقول ذلك كله مع إدراكنا التام بأن مسار التحوّل الديمقراطي لم يعد مجهولاً لدى السلطة، وإن مازالت فئات إجتماعية تجهل بعض أبعاده بسبب غياب ثقافة سياسية مؤّصلة ومشاعة، فمازال تداول الافكار الديمقراطية في لحظته الناشئة، ولم يصل الى مرحلة يكون السكان قادرين على الافصاح عن تطلعاتهم المنشودة في عبارات دقيقة وواضحة. إن تعميم الثقافة الديمقراطية مازال أمراً شديد الالحاح من أجل رفع مستوى الطلب الشعبي على الديمقراطية، فلا يكفي وجود نخبة سياسية تناضل حتى الانهاك من أجل هدف عام، ولا يكفي أن يصل حدود تطلع النخبة الى مستوى إيصال الصوت المطلبي، فالعمل السياسي الجاد يتجاوز حدود إبلاغ الرسالة لأهل الحكم، بل يتطلب فيما يتطلب تعميماً أفقياً وعمودياً، أي السعي الى استضافة المجتمع بكامل فئاته وتنوعاته السياسية والايديولوجية في العمل المطلبي لمزاولة الضغط من أسفل، مع مواصلة الضغط من أجل تحقيق التغيير من أعلى.

 

القلق من الخارج: مشروع ومفتعل

يمكن الزعم، إبتداءً، بأن الخارج ليس نزيهاً بالمطلق وهناك من التدابير الاحتياطية المطلوبة إزاء الخارج حين يوضع في سياق تقييم واسع لمجمل استراتيجياته وتعالقاته وإضبارته السياسة واخيراً أجندة مصالحه.

ثمة قناعة صلبة وراسخة في الدوائر الاكاديمية الغربية وبخاصة الاميركية تفيد بأن كراهية الغرب هي نتاج تدخل القوى الغربية في حياة الشعوب العربية، والتي بدأت منذ استعمار الجزائر عام 1830، ومصر عام 1882 والمغرب عام 1912 وصولاً الى غزو افغانستان 2002 واحتلال العراق 2003.

في المقابل، هناك صورة اخرى متوازنة، حيث نجد أن بلداناً ذات ميراث حضاري وتاريخي ثري مثل مصر وسوريا الكبرى والعراق كانت قادرة على الجمع بين مقت الاستعمار والاعجاب الخالص بالتقدم، فهذه الامم تبدي تفهّماً صادقاً للتقدم باعتباره خاصية منفصلة عن مشروع التغريب. إن البديل عن ذلك هو إبداء الاعجاب دونما تمييز بين الاستعمار والتقدم، والذي يمثل ظاهرة إذلالية وازدرائية قد تؤول الى موت أشياء كثيرة تشمل العزة والكرامة.

إن كراهية الاستعمار تعتبر ظاهرة اعتيادية، صحية، وايجابية، وإن أي بديل عنها سيكون مخزياً ومذّلاً. ومهما يكن من أمر، فإن هذه البلدان في المنطقة الآمنة في طول تاريخ الحضارة ليس لديها نفور من التحديث والتقدم وبالتأكيد لا تحمل كراهية للاجانب، إنها ببساطة لا تريد أن يكون التقدم متساوقاً وموازياً للتغريب، وهذا يعتبر موقفاً ايجابياً وهو يشير الى الكرامة والحكمة معاً.

اليوم والولايات المتحدة محاطة بسحابة كثيقة من الشكوك والاتهامات بسبب عدوانها على العراق وسلوكها السياسي الدولي غير القانوني وغير الأخلاقي تعيد تشغيل الاسطوانة الديمقراطية مجدداً وهذه المرة بلغة صارمة وجازمة.

وبقدر ما يبعث الحديث عن الديمقراطية الأمل بولادة مشروع اصلاحي بمضامين فاعلة، فإن السلوك السياسي الأميركي غير الديمقراطي وخصوصاً خلال السنوات الأخيرة يثير قدراً من الارتياب. فمازالت الادارة الاميركية ومن خلفها مؤسسات بحثية وأكاديمية تربط بدرجة وثيقة بين المصالح الحيوية الأميركية وتشجيع الديمقراطية، فالقضية بالنسبة لهم لا تتعلق فحسب بدرجة كفاءة شعوب الشرق الاوسط للممارسة الديمقراطية بل الى ما تشكّله الديمقراطية من مصلحة أو مضرّة بالنسبة للولايات المتحدة. ولطالما نكصت الادارة الأميركية عن تبني خيار ديمقراطي في الشرق الأوسط لأن الخبراء والباحثين المساهمين في تشكيل أجواء القرار السياسي الأميركي يرون بأن الديمقراطية تحمل أخطاراً جمة على المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، ولذلك كان الرأي المجمع عليه وسط عدد كبير من الباحثين الأميركيين من الاتجاه اليميني المتشدد بأن الديمقراطية قد تؤدي الى اختطاف السلطة وسقوطها بأيدي المتطرفين، ولطالما أيضاً أستثنيت السعودية من الاجندة الديمقراطية الأميركية بناءً على مدعيات قريبة من هذه.

في المقابل، فإن الربط بين إشاعة مفاهيم الديمقراطية والاصلاح وبين الحرب على الارهاب يبدو في المستوى النظري منطقياً ولكن الإشكال والتشكيك يأتيان من التعريف الأميركي للإرهاب، والإزدواجية في التطبيق. لا شك أن نشر الديمقراطية وسيلة حمائية لأمن الولايات المتحدة، وهو مكوّن أساسي في فلسفة نشر الديمقراطية. فبعد عقود طويلة، كانت فيها الولايات المتحدة تعتقد بأن المصالح الإقتصادية هي الحاكمة، انشغلت خلالها بدعم الديكتاتوريات في كل العالم، والتي تبيّن بحسب فحوى كلام الرئيس بوش بأنها صانعة نموذجية لمناخ يساعد على نمو الارهاب. إذن، هناك مصلحة مرجوّة من دعم وتشجيع الديمقراطية في الشرق الاوسط وبخاصة في الدول المؤهلة لتخريج كتائب المتطرفين الذين يشيعون أجواء الهلع داخل المجال الحيوي للمصالح الاستراتيجية الاميركية.

وهكذا ندرك مما سبق، إن دعم الاصلاح في الشرق الاوسط برز في سياق أزمة في العلاقات بين الولايات المتحدة وبعض دول الشرق الاوسط وبخاصة السعودية، ثم انتقلت الى الحرب على الارهاب بمعنوناته المؤدلجة.

يطرح الاصلاح كأحد أدوات الحرب على الارهاب، وبالتالي فهو يقدّم كحل للخارج بدرجة أولى، تماماً كما أن الاحجام عن ونبذ فكرة دمقرطة الشرق الاوسط بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي وفي عقد التسعينيات بخاصة كان حلاً وخياراً للخارج.

يقول احد الاصلاحيين السعوديين: (أن الغربيين.. يريدون ديمقراطية حسب مزاجهم، ديمقراطية مسيطر عليها، تأتيهم بأشخاص على مزاجهم، هم يريدون ديمقراطية لا تفيد المشاركين فيها بقدر ما تفيد القيمين عليها (أي هم) ومثل هذا الأمر وجدناه في أماكن أخرى من العالم العربي والإسلامي وقد نشهد مثيلاً له في العراق في قادم الشهور.. بهذا المعنى تصبح الديمقراطية غشاءً رقيقاً لممارسة أعمال غير ديمقراطية).

هذا الرأي يمثّل جزءاً من القلق المستعلن والمشروع لدى القوى الاصلاحية التي تنظر أحياناً بإرتياب الى دور الخارج في دعم الاصلاح السياسي، وبالتالي تقع على عاتق الخارج مسؤولية تقديم رسائل اطمئنان ليس للحكومات فحسب بل وللقوى الاصلاحية في المنطقة، التي نالها من التلطيخ والتشهير.

فهناك حاجة لانضاج الشروط الداخلية للاصلاح عن طريق التشجيع على إنشاء المزيد من المنظمات الاهلية، وإقامة دورات تدريب من قبل مؤسسات وهيئات مستقلة توفر أشكال الدعم المطلوبة لجهة إشاعة ثقافة الاصلاح وتدريب المرشحين لمناصب سياسية.

ملخص القول، إن الإصلاح نتيجة عمل تراكمية في المجتمع ونتيجة تطور في عقلية رجال الحكم وكذلك تطور الظروف المحيطة بالدولة. انه، بكلمات أخرى، حصيلة تظافر عوامل خارجية وداخلية، اقتصادية وسياسية وأمنية، ولكنه ـ أي الإصلاح ـ لم يكن يوماً رهناً بإرادة المسؤول وصانع القرار.

 

الاصلاح: فاعل خارجي

الحديث عن الخارج ليس جديداً، فهو يُشهر تارة كسلاح في وجه قوى التغيير المحلية، ويطرح تارة أخرى من قبل قوى التغيير نفسها امتثالاً لموقف مبدئي وايديولوجي. ولكن السؤال يبقى دائماً: ماهي خيارات التغيير وإمكانية نجاحها من الداخل؟ بالنظر الى تجارب النضال السلمي والثوري معاً في البلدان العربية والتي أخفقت جميعها في إحداث تغييرات جوهرية في أي من الانظمة السياسية. ولأن النظام السياسي في الشرق الاوسط مكّن نفسه بفعل الاكتساح الواسع للشأن العام، والامساك بإحكام بمصادر القوة في المجتمعات العربية، فإنه مطمئنّ بدرجة كافية الى قدرته على لجم أصوات التغيير الصادرة من الداخل، وقادر أيضاً على إخماد بؤر التغيير عن طريق إستعمال الاجهزة الأمنية الباطشة التي تمرّست طويلاً في كيفية قمع التحرّكات الشعبية السلمية، الى حد أن هذا النظام نجح في إماتة الاحساس لدى الشعوب العربية بقدرتها على المشاركة في بناء حياة أفضل. ولذلك، فحين تتوسل حكومة عربية ما بخيار التغيير من الداخل تدرك بأنها ستنجح في الهروب من قدر التغيير الشامل والجذري وأنها ستقرر مقدار ما تهبه. ثم أي تغيير من الداخل وقد ضاقت الانظمة العربية حتى من النشاطات المطلبية السلمية، واعتبرتها مساساً بالوحدة الوطنية وخرقاً للاجماع، ولكن حين يأتي التغيير من الخارج، فإن هذه التهمة تصبح ساقطة جغرافياً وسياسياً لأنها تأتي من خارج حدود الوطن، ومن قوة أكبر وزناً وأشدّ تأثيراً وتحقق ما عجز الداخل عنه، وحينئذ تصبح العمالة للخارج، والارتباط بالخارج لاغية لأن الخارج سيأتي بنفسه للداخل لا عبر اتفاقيات دفاع استراتيجي، ولا مواد استهلاكية، ولا صناعات ثقيلة وخفيفة، ولا بعثات عسكرية وأمنية، ولا مناهج تعليمية، ومنظومة معرفية وفكرية، ولا انترنت ومحطات فضائية تلفزيونية، ولا ولا.. فهذا الخارج كان مرحّباً به في كل الاوقات وعبر هذه المنتجات، ولكن حين يأتي الخارج لينال من السلطة يكون مستهجناً فحينئذ يعتبر الخارج مساساً بالوحدة الوطنية والشريعة الاسلامية وباقي الكليشات الجاهزة.

ـ لا يمكن إنكار دور الضغوطات الخارجية في سلسلة الاصلاحات التي حصلت في المملكة العربية السعودية وفي دول المنطقة عموماً، وبلا شك فإن الانتخابات البلدية، والتغييرات الحاصلة في المناهج الدينية، والحرية النسبية في الصحافة، والتفكير بصوت مسموع في تهيئة المرأة للعب دور في الحياة السياسية والاجتماعية دع عنك الاستجابة لشروط الانضمام لمنظمة التجارة العالمية.. هذه وغيرها بقدر ماكانت مطالب محلية فهي أيضاً تحققت بفعل ضغوطات خارجية مباشرة او غير مباشرة.. فالخارج المراد الانعتاق منه لا يزال فاعلاً في صناعة القرار وفي المعادلة السياسية الداخلية، فنحن لا نتحدث عن خارج معزول أو مقطوع الأثر، فهذا الخارج يشارك الدولة في مصالح استراتيجية، ومن حق القوى الوطنية الاصلاحية أن تثمّر هذا الخارج في لعب دور إيجابي في عملية التحول الديمقراطي وفق شروط محلية حقيقية وليست مزعومة.

تخبر التصريحات الرسمية بأن مناوئة الاصلاح السياسي تصدر عن موقف من أجندة أميركية لشرق أوسط كبير. فمنذ إعلان واشنطن عن بعض ملامح هذه الاجندة، التزمت عدد من الحكومات العربية الصمت حيال الاصلاح في الداخل، فيما بدأت تطلق تصريحات تعارض أي دور للعامل الخارجي في العملية الاصلاحية، وقد وافق على ذلك بعض دعاة الاصلاح إنطلاقاً من موقف قومي أو ديني.. ولربما سعت بعض هذه الحكومات الى تأجيج النزوع القومي والديني لدى دعاة الاصلاح بغرض مواجهة المشروع الأميركي الشرق الأوسطي.

ولا شك أن موقفاً مناوئاً للعامل الخارجي يلتقي عند رغبة مؤكدة لدى الغالبية العظمى من الشعب، ولكن من شأنه إدحاض مجهود التيار الاصلاحي الذي لم تفتر عزيمته في المجاهرة بمطالبه الثابتة والواضحة باجراء اصلاح شامل وفوري في البلاد. إن التصريحات الرسمية بقدر ما تهدف الى تبرئة ذمة الدولة من التورط في المخططات الخارجية، فإنها أيضاً تقذف دعاة الاصلاح وتثير الريبة حول نواياهم وتحركاتهم، بحيث تخرج الصورة النهائية وكأن دعاة الاصلاح ما هم الا مجموعة من العملاء الذين يسعون الى تمهيد الطريق للتدخلات الاجنبية في البلاد. إن تحليلاً كهذا كان يجب على التيار الاصلاحي أن يجحده بصورة علنية ومتصلة، من أجل إسقاط أحد الاسلحة التي يتم استعمالها بإسراف للهروب من المسؤولية..

 

 

 

الاصلاح كمشروط داخلي

ثمة معطى لافت خلال العقدين الماضيين أن المتغير السياسي الاقليمي يستحث الداخل على النهوض والمطالبة بالاصلاح. ولكن الانشغال حد الذهول بالمتغير الآني يمارس في أحيان عديدة دوراً تضليلياً يغمر معه الحقيقة الكامنة في الضجيج الطافح على السطح. لاشك أن النشاط الاصلاحي الذي شرع في انطلاقة نوعية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم يكن محثوثاً بوحي المتغير السياسي الطارىء حين نهب زلزال سبتمبر حزمة مكثفة من الضوء والاهتمام الدولي. ومن الصحيح بمكان الزعم أن تلك الحوادث خلقت بيئة خصبة للافصاح عن المطالب الاصلاحية المستترة بفعل عوامل داخلية وخارجية، وبخاصة التحالف الاستراتيجي الصلب بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، الا أن تصدع بنى التحالف وانكشاف الانظمة امام ذاتها والعالم ساهم الى حد كبير في انتظام قوى اجتماعية وسياسية متنافرة او لنقل متباعدة في هيئة تيار إصلاحي يتبنى مطالب مشتركة ذات بعد وطني ويتوسل بآليات سلمية تحظى بقبول محلي ودولي.

ان درجة التأهيل التي بلغها المجتمع في المملكة العربية السعودية تعتمد بصورة رئيسية وجوهرية على شروط تحول داخلية، سعياً للانتقال الى الديمقراطية. ويمكن الفات النظر الى هذه الشروط بصور عاجلة لفحص إمكانية مستوى التأهيل الداخلي للممارسة الديمقراطية كأحد تعبيرات التحوّل الاجتماعي، والتي تشي أشكالها ودرجات انفعالاتها بذروة الوعي لدى مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة، كما تنبّه الى استكمال شروط الانعتاق من أغلال الهيمنة بأشكالها المختلفة.

يلزم الالتفات الى أن خط الانتقال الى الديمقراطية في أي بلد قد يكون موحداً، فثمة شروط واضحة ومحددة لا بد من تحققها كيما يكفل خروج مولود ديمقراطي مكتمل النمو. في مقابل هذه الشروط هناك قوى وتيارات معاكسة تحاول إبطال مفعول شروط الانتقال السلمي والهادىء نحو الديمقراطية، وإن كانت تلك المحاولات تفقد بمرور الوقت القدرة لأن في ذلك إيقافاً للزمن. وبحسب أنصار نظرية التحديث، فإن  ثمة عدة عوامل تسهم في الانتقال الى الديمقراطية منها:

1 ـالتعليم: فمساهمة التعليم في عملية الانتقال الى الديمقراطية لا تعني فقط إنخفاض نسبة الأمية في مجتمع ما، وعليه إرتفاع تعداد المتعلمين، بل بما يحمله الانخفاض والارتفاع من مدلولات سيسيولوجية وثقافية وقيمية وسياسية وحتى إقتصادية، فالتعليم يسهم بدرجة فعّالة في تشكيل المجتمع وإعادة صياغته وفق متطلبات جديدة راهنة ومستقبلية.

 فدور التعليم في الانتقال الى الديمقراطية، كما تشير معطيات عديدة ينبىء عنه العدد الكبير من المتعلمين، وتالياً إنفتاح ما يربو عن نصف السكان في المملكة على قيم وأفكار وتقاليد مختلفة، الأمر الذي سبب شرخاً غير قابل للرتق في النظام القيمي المحلي. فالديمقراطية لا تنشأ في مجتمعات تسودها الأمية بالمعنى الضيق والواسع للكلمة، وإنما يتوقف تبرعمها وترعرعها على وجود قاعدة عريضة من المتعلمين تكون قادرة على وعي المفاهيم الحديثة وطرق التعامل معها ووسائل حمايتها. التعليم يفرز نخباً حديثة بمفاهيم ومعايير وقيم مختلفة، تميل الى إقصاء النخب التقليدية (العشائرية والدينية) وتشرعن نفسها وفق منظومة مختلفة من المبررات. 

 2 ـ التمدين (العمران)

 عملية التمدين كعملية شاملة وممتدة تمثل أحد التجسيدات البارزة للتحولات الذهنية (إضافة الى التحولات الاقتصادية والاجتماعية) في المجتمع، وبالتالي فهذ العملية تسهم في إرساء أسس نظام ثقافي وقيمي جديد. إن برامج التمدين هذه ساهمت بدرجة نشطة في التحول الاجتماعي والعبور بالسكان من نظام معيشي واجتماعي الى آخر، فحسب احصائيات وزارة الشؤون البلدية والقروية في بداية عام 1990 فإن 75 بالمئة من سكان السعودية تم توطينهم، وأن 22 بالمئة يعيشون في القرى و3 بالمئة هم من الرحل.

فحتى منتصف الثلاثينات لم تكن هناك مدن بالمفهوم الحقيقي، سوى في الحجاز: مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف، وما عدا ذلك يعد في حكم البلدات towns أو القرى villages. وفي أوائل الخمسينيات لم يكن هناك سوى مدينة واحدة يصل عدد سكانها الى مائة ألف نسمة هي مكة المكرمة.

ويمكن إدراك دور التحضر أو التمدين في عملية الانتقال نحو الديمقراطية من الميول المتنامية لدى المتحضرين في النشاط السياسي التغييري، وحسب نداف سافران: (فقد نظر السعوديون الى المتحضرين كعنصر خطر لأنهم يتأهلون تدريجياً لمعارضة نظام الحكم المستند على القبيلة المتمثلة في البدو، وقد ظهرت هذه الحالة في عهد الملك سعود حيث بدأت تتشكل نواة التكنوقراط الحضر، فقد قال عنهم أثناء عزله عن العرش بأن مصدر المشكلة الحقيقي هي المدن ـ جدة ومكة والمدينة والرياض ـ بسبب الناس المتعلمين فيها وطالب بعض مقدميه بأن يحذروهم من مغبة القيام بحركة ثورية ضده، وأنه سيدع القبائل تحاربهم وتمزقهم) .

التحضر، أي الإنتقال والعيش في المدينة، ليس انتقالاً جسدياً محضاً، أو مجرد تغيير في طرق العيش، بل هو عملية تحوّل ذهني وقيمي شديدة، تشمل كل أوجه الحياة تقريباً، من طرق المعيشة والتعليم ونوعية العمل والأفكار والعلاقات العامة والنظرة الى الذات ضمن الإطار الواسع في المدينة أو الدولة. ولهذا، فكلما كان المجتمع ثابتاً مكانياً، كلما كان عرضة للأفكار الحديثة، ولانقلاب المفاهيم، وللحاجة الى التطور وزيادة التطلع والطموح. ولأن المجتمع السعودي يكاد يكون في معظمه اليوم مدنياً (بمعنى حضرياً) ثابت المكان والعيش، خلاف وضعه قبل عقود قليلة مضت، فإن هذا مؤشر واضح الى حقيقة التطور باتجاه التغيير السياسي.

3 ـ التصنيع

ولعل الناتج الأبرز من الدورة الصناعية النشطة التي شهدتها المملكة في السنوات الواقعة بين 1960 وحتى 1990 هو تشكّل الطبقى الوسطى، والتي تضم ما يقرب من 6 ملايين عاملاً  هم إجمالي قوة العمل المدنية، يشكل فيها العاملون في الحقل الزراعي نسبة 10 بالمئة بالمقارنة مع 60 ـ 70 بالمئة في فترة ما قبل الطفرة النفطية. إن ما يلفت اليه النشاط الصناعي هو ما يحدثه من تغييرات ثقافية وإجتماعية وفي نظام القيم والسلوك للأفراد نتيجة تطور الآلة المستعملة وتبدّل المادة المستهلكة، وبالتالي تحوّل النظرة الى الاشياء من مستوى بدائي تنحبس في حدود المصلحة القريبة الى مستوى التطلع نحو التغيير كعملية متصلة بالنظم الاجتماعية والثقافية ووصولاً الى السياسية. وإذا كان التصنيع في الغرب قد ارتبط بنمو الديمقراطية فيه، فإن التلازم هذا يبدو أقلّ حدّّة في هذا العصر، بالنسبة لدول العالم الثالث، فهناك دول غير صناعية نجحت في التحول الى الديمقراطية، كما أن دولاً صناعية كبيرة كانت موجودة الى وقت قريب (الاتحاد السوفياتي مثالاً) كانت بعيدة عن التوجه الديمقراطي.

وعليه فليس كل بلد صناعي هو ديمقراطي، ولكن الصحيح أن كل بلد ديمقراطي يشتمل ضرورة على قاعدة صناعية بدرجة معينة تؤهل الدولة في بناء مؤسساتها، ونظامها الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي تأهيل المجتمع الى مرحلة يكون فيها قادراً على امتلاك آليات استيعاب التحول السياسي السلمي نحو الديمقراطية.

 4 ـ النمو الاقتصادي (المداخيل)

 زيادة مداخيل الدولة من 236 مليون دولار عام 1954 الى 102212 مليون دولار عام 1980 وفّرت قدرة هائلة على تنفيذ خطط إنمائية اجتماعية واقتصادية، وتطلب ذلك توفير ايدي عاملة وتكريس بعض المخصصات المالية للتعليم من أجل اعداد الأيدي العاملة التي ستتولى ادارة العملية الانمائية الشاملة، إضافة الى ما يتطلبه نقصان القوى البشرية في المملكة من حاجة الى عمالة أجنبية قّدّرت حسب الاحصائيات الأخيرة بنحو 6 ـ 8 ملايين عامل.

سمحت الزيادة العالية في الموارد المالية بانفتاح البلاد الى حد كبير أمام الاستثمارات الخارجية. في عام 1974 قدم الى المملكة أكثر من 400 شركة أميركية وأكبر 35 بنكاً في أمريكا، وفي عام 1983 كان في المملكة أكثر من 800 شركة أميركية و30 ألف أميركي، الى جانب عشرات الشركات الاجنبية.

سهل ارتفاع المداخيل سواء على مستوى الدولة أو الأفراد إستيعاب منظومة قيم جديدة جاءت في هيئة معدات بناء، وأثاث، ومستلزمات بيتية، وملابس، وإكسسوارات، وأدوات تجميل، وعطور، ومواد إستهلاكية وأجهزة كهربائية والكترونية وغيرها، فلم يعد للقيم التلقيدية سطوتها الكاملة في إدارة الذوق العام وتشكيل المفاهيم والنظرات، بل صار (المتاع الجديد) يزفّ في موكب دعائي ليحتل مكانه قبل أن يصل فعلياً الى أيدي المستهلكين الغرباء. وهكذا ولّد الانفتاح على القيم الجديدة رغبة شديدة الضراوة من أجل إستيعاب ما يقف خلف المتاع الجديد من قيم ومبادىء، فلم لا تكون الديمقراطية هي مكافأة النمو الاقتصادي.

 5 ـ تشكّل الدولة:

 إن تكوين الدولة الحقيقي بدأ فعلياً في عهد الملك فيصل استناداً الى التطور الملحوظ في المجالين الاقتصادي والاداري قياساً بأوضاع عهدي المؤسس الملك عبد العزيز والملك سعود. فغياب عبد العزيز ثم سعود أديا الى: أولاً: تأسيس جهاز الدولة، وثانياً استغلال أفضل للبترول.  فقبل وصول فيصل الى العرش عام 1964 كانت السعودية لا تزال بلداً فقيراً، فلم تكن مداخيل الحكومة تزيد عن 500 مليون دولار وكانت نسبة كبيرة منها تأتي من مصادر غير نفطية، وبصورة رئيسية الحج. وحتى الازدياد الملحوظ في مداخيل النفط في نهاية الستينات لم يسمح بتحرك إنمائي فاعل مقارنة مع العملية الانقلابية بعد عام 1973. فقد زحفت البلاد من حافة الافلاس الى واحدة من أغنى عشرين دولة في العالم في عشرين عاماً.

لقد أدى التحديث الى توسع في جهاز الدولة الاداري من أجل تنفيذ عدد كبير من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية وتشكيل قوى الأمن من أجل حماية البلاد والنظام.

إن تشكل الدولة وتمأسسها أتاح لها القدرة على استيعاب القيم الحديثة وجعل ممارستها ممكنة، كما أن توطيدها في بنى الدولة يؤدي الى إتقان العمل بها. فالديمقراطية لا تنشأ أو لنقل لا تمارس بصورة صحيحة إذا كانت الدولة غير مكتملة النمو، فمأسسة الدولة بصورة شبه كاملة هي الضمانة الوحيدة لتطبيق الديمقراطية بحسب أصولها.

 6 ـ الثقافة السياسية

 تتولد الثقافة السياسية غالباً من: وجود الأحزاب السياسية المرخصة لمزاولة نشاطات سياسية سلمية، وقادرة على طرح برامج بديلة عن برنامج الحكومة للرأي العام، أو تتولد من المؤسسات التمثيلية مثل البرلمانات بما يسبقها ويصاحبها من تحرك شعبي خلال الحملات الانتخابية.

رغم أن الفترة الممتدة من 1932 وحتى الآن شهدت ظهور أحزاب سياسية وحركات إحتجاج معارضة للحكومة سواء كانت محلية أو خارج الحدود، الا أن الحكومة مازلت ترفض الاعتراف بهذه الأحزاب كواقع يجب التعامل معه والسماح له بالنشاط. ولذلك فإن الادبيات الحزبية الموجّهة في الأصل لتثقيف الجمهور يتم تداولها بالسر، كما الحال بالنسبة لتنظيم الأفراد.

وفي ظل إنعدام تجارب حزبية علنية أو مجالس برلمانية حرة وديمقراطية، فإن مصادر الثقافة السياسية غالباً ما تكون خارجية سواءً تكويناً ونشاطاً أو حتى توجيهاً. وبلا شك، فإن الثقافة السياسية في جانبها النظري بالنسبة للغالبية العظمى من السكان تأتي عن طريق وسائل الاتصال الجماهيري، حيث تمثل الاخيرة مصدر توجيه ثقافي لقطاع كبير من السكان، ففي عام 2002 كان هناك 8 ملايين مستقبلاً للبرامج الاذاعية و 5,8 مليون للتلفزيون، وقد تزايدت هذه النسبة بوتيرة عالية، فيما دخل الانترنت كوسيلة اتصالية متقدمة تجتذب نحو مليوني زائر يومياً في المملكة. وليس ثمة حاجة للقول بأن المواد السياسية المبثوثة عبر وسائل الاتصال هذه كفيلة بخلق مناخات احتجاجية واسعة النطاق. وللتمثيل فقط، فقد نجحت قناة الجزيرة إبان الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر عام 2000 في تأجيج المشاعر القومية والدينية لدى أغلبية السكان في المملكة ضد الكيان الاسرائيلي والانظمة العربية إبان تساقط الشهداء الاطفال والنساء والشيوخ في الضفة الغربية المحتلة برصاص قوات الاحتلال الاسرائيلية، حيث خرج الآلاف في المنطقة الشرقية في مظاهرات استمرت عدة أيام، فيما شهدت المناطق أخرى خضّات شعبية متفرقة في المناطق الوسطى والغربية من المملكة. وهذا يثبت بأن الثقافة السياسية لدى الشارع السعودي قد بلغت درجة من النضج تجعله مؤهلاً  للانخراط في الحياة السياسية.

 7 ـ مؤسسات المجتمع المدني

 يتفق منظرو الديمقراطية بأن مؤسسات المجتمع المدني وحدها الكفيلة بتهيئة ظروف نشأة وصناعة الديمقراطية وهي الضمانة الأكيدة القادرة على حمايتها وصيانتها من غدر الدولة وأعداء الديمقراطية. إن قدرة المجتمع على تخليق مؤسساته الاهلية بوظائفها المختلفة، البعيدة عن سلطان الدولة، تؤهلها لامتلاك المبادرة في تصنيع الديمقراطية وفرضها على الدولة بصورة تدريجية. ورغم أن مؤسسات المجتمع المدني في السعودية لم تستكمل بعد تشكيلاتها النهائية، بحيث تأخذ أبعاداً ثقافية وسياسية واجتماعية أفقية وعمودية، الا أن المؤسسات الحالية في هيئة نوادي أدبية وثقافية ونسوية ورياضية وتجمعات شبابية وحتى مؤسسات دينية ومساجد ومسارح وغيرها تؤكد الميول المتنامية لدى السكان نحو الانضواء في مناشط جماعية قابلة تدريجياً للتمأسس ولعب أدوار تتجاوز الحدود الوظيفية المرسومة لها. وتكشف العرائض المطالبة بالاصلاح من جماعات مختلفة، ومنتديات الحوار التي تعقد في المجالس الخاصة أو حتى على شبكات الأنترنت، وكذلك الاشكال الجماعية الاخرى مثل المظاهرات والتجمهر، هذه وغيرها من أشكال التعبير الجماعية تكشف عن أن مؤسسات المجتمع المدني قد تشكلت في مكان ما خارج الأطر الرسمية وهي تعبير صادق عن ميول السكان.

هناك بطبيعة الحال من يجادلون ضد هذه المقاربة، ويرون بأن هناك متغيرات رئيسية تلعب الدور الأكبر في الانتقال نحو الديمقراطية مثل:

1 ـ الوراثة أي انتقال السلطة من شخص الى آخر حيث أن رأس الدولة يمثل الرمز النهائي والكامل لمجمل النشاط العام للدولة، وهذا ما يجعله الماسك بمفاتيح التغيير. وهذا يعني  قدرة السلطة المركزية الممثلة حصرياً في النظام الملكي على القيام بالاصلاح الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، كما يذهب الى ذلك صموئيل هنتغتون.

2 ـ العامل الخارجي، كالغزو من قبل قوى أجنبية بحيث تفرض نظاماً ديمقراطياً أو شبه ديمقراطي عنوة: ومن أمثلة ذلك: هونج كونج، اليابان، وأفغانستان، وأخيراً العراق، ولكن الديمقراطية التي يأتي بها الاستعمار أو أي قوة خارجية لا تعدو أن تكون ديمقراطية مرهونة بمصالح أجنبية، وما لم تتوفر الإرادة الوطنية والقاعدة الثقافية والإجتماعية الصحيحة فإن أنوية الديمقراطية والليبرالية قد تتآكل بصورة سريعة مع رحيل المستعمر.

3 ـ تحالف مصالح بين قوى سياسية متنافسة يفضي الى ترتيبات داخلية تنتج في المحصلة النهائية نظاماً ديمقراطياً تعددياً. ويضاف الى هذا العامل: الدور الدولي، حيث يمارس المجتمع الدولي سواء في هيئة منظمات دولية أو قارّية أو تحالف سياسي أو عسكري تأثيراً كبيراً على تغيير شكل السلطة في بلد العضو أو الحليف. المثال الأبرز هنا هو مجموعة من الدول العسكرية الأوروبية التي أجبرت على تغيير نظامها السياسي من أجل الدخول في السوق الأوروبية المشتركة (اليونان، البرتغال، وحتى أسبانيا). والآن أمامنا نموذج تركيا التي تطلب انضمامها الى الاتحاد الاوروبي تبني النظام الديمقراطي، ويمكن ضم مثال المملكة العربية السعودية التي نجحت في الحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية.

 

خلاصة

أن المشكلة تكمن الآن في أن التغيير من الداخل ـ الحكومة، مازال مرفوضاً ما لم يكن مفروضاً أو مدعوماً بقوة من الخارج.. إن كل التحركات التي تشهدها عواصم عربية من بينها الرياض تستهدف شرذمة مشروع الاصلاحات السياسية والاقتصادية، وأن سبب فشل قمة تونس التي انعقدت في يومي 29 و 30 من مارس 2003 كان بسبب موقف دول عربية مثل السعودية من (مشروع الشرق الأوسط الكبير)..

إن محاربة دعاة الاصلاح بسلاح العمالة للخارج أو الاندراج في مشروع أميركي لا يقصد به سوى تعطيل مسيرة الاصلاح، وهذا نذير شؤم ورسالة غير مباشرة الى الداخل بأن طريق الاصلاح مغلق الى حين، وأن النوايا ليست معقودة من أجل بدء قريب لتنفيذ وعود سابقة.

إن جوهر المشكلة ببساطة يكمن في رفض الاصلاح سواء كان محرّكه داخلياً أو خارجياً، فهو مرفوض في كل الاحوال. فقبل أن تعلن الادارة الاميركية عن مشروعيها: الشراكة الشرق أوسطية، والشرق الأوسط الكبير، كان دعاة الاصلاح يناشدون الدولة بوضع حد للتدهور في مسيرة المجتمع والدولة، والبدء ببرنامج اصلاحي شامل.

إن إنكار العامل الخارجي في التغيير وتوصيمه يراد استعماله كسلاح دفاعي ضد الاصلاح، وإن الاختباء حول تفسيرات تبدو في ظاهرها منطقية في عملية التغيير بشروط محلية ووفق اعتبارات مجتمعية وسياسية محددة يستبطن رفضاً للاصلاح السياسي المأمول شعبياً والمتساوق مع المطلوب خارجياً.. ويمكن الجزم بأن المتمسكين بخيار التغيير من الداخل هم على نوعين: الاول يرفض الاصلاح مطلقاً لعدم قدرته على القيام به لأن بنية النظام السياسي عاجزة عن تحمّل أدنى تغيير، وبالتالي فإن الاصلاح يكون مقدمة للزوال، والنوع الآخر يقبل بالاصلاح المشروط والشكلي الذي يستبدل الطلاء الخارجي للنظام دون جوهره، فيما يبقي على وحدة السلطة وحزمة الامتيازات المنوطة بالنخبة الحاكمة دون تغيير.

أن سبب رفع شعار (الإصلاح من الداخل) هو مقاومة الإصلاح نفسه، فحتى الضغوط الغربية ومطالبها بالإصلاح لا تختلف ـ في معظمها ـ عما يطالب به المواطنون أنفسهم، والرفض الحكومي ليس نابعاً من غيرة وطنيّة، فمازال هناك إستعداد لتقديم اية تنازلات للخارج في المجالات السياسية والإقتصادية ولكن الإصلاحات السياسية تعتبر تابو، حتى وإن كانت لصالح الوطن والمواطنين.

ومهما يكن، فإن الاصلاح باتت مطلوباً وعن أي طريق جاء.. إن أحداً لن يعارض على حد د. سعد الدين ابراهيم أن تأتي الديمقراطية (على ظهر ناقة أو حمار)، فالمهم هو أن تأتي لتوقف هذا المسلسل البشع من التخلف والاستبداد..

 

 

* ورقة مقدمة الى مؤتمر (نحو شبكه للاصلاح والتغيير في العالم العربي) في عمّان في الفترة من 8- 10 ديسمبر 2005