قراءة أولية لمستجدات التغيير السياسي في السعودية

نحو جبهة وطنية لفرض التغيير

عبد الله الطائي

 

يتميز الوضع الدولي الراهن بأنه ذروة انعطافة تاريخية حادة وانتقالية يحاول فيها وبشراسة القطب الأوحد استمرار سيطرته وهيمنته العسكرية والاقتصادية والمالية على العالم ، حيث أنه وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي وبدء تشكل تكتلات اقتصادية وعسكرية منافسة "أوروبا الموحدة، آسيان، الصين، اليابان" أخذ تحالف المجمع الصناعي العسكري والشركات النفطية الفوقومية المتحالفة مع الصهيونية العالمية يعمل  بفكر رأسمالي أصولي متطرف على فرض هيمنته المطلقة على العالم بأسره. وتأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م كانطلاقة لهذا التحالف لبدء هجومه المجنون على كافة القيم والمبادئ السياسية الأساسية العالمية حتى للرأسمالية ذاتها تحت حجة (مكافحة الإرهاب) حيث خيّر هذا المعسكر العالمَ بين الخضوع لإرادته وتنفيذ توجهاته بالكامل سلميًا وبين معسكر ما يسمى بالإرهاب المراد إخضاعه وتصفيته بالقوة .إن العالم بأسره بما فيه الدول الرأسمالية، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، يعي تمامًا مخطط الهيمنة هذا ولكنه غير قادر حتى اللحظة على كبح جماحه ، فالمسألة لذلك التحالف أشبه بسباق مع الزمن.

إن فرض العولمة اقتصادياً وبأشكالها التي تلائم أساساً رؤية ذلك التحالف ، والمحاولات المكشوفة للسيطرة على النفط العالمي (بحر قزوين، العراق، الصومال، السودان بالإضافة إلى نفط الخليج) وكذلك استعراض واستخدام القوة العسكرية المخيفة لضرب الدول والجماعات.. كل ذلك يعد تهديداً واضحاً للعالم بأسره. إن هذا التطرف الرأسمالي بدأ يخلق التطرف المواجه والرافض له في كل مكان، وما بروز اليمين المتطرف في أوروبا والتطرف في كل العالم الثالث إلا محاولات جنينية لرفض تلك الهيمنة. وتعد منطقتنا أبرز مناطق الصراع بين كافة الكتل الرأسمالية، لذا يظهر فيها بجلاء مدى العنجهية والغطرسة الرأسمالية الصهيونية مما يجعل من أبناء منطقتنا طليعة التطرف والمتطرفين لمواجهة تلك الغطرسة. إن هذه العنجهية لم تكشف لشعوب منطقتنا طبيعة الإمبريالية فحسب، بل كشفت إلى جانب ذلك فشل حكومات المنطقة الذريع في الدفاع عن مصالح شعوبها من ناحية، كما فشلت في إدراك أهمية الديموقراطية كحل لا غنى عنه من أجل بناء مجتمعات وأوطان متماسكة قادرة على الدفاع عن ذاتها والتعبير عن مصالحها وآمالها .

ولا تعد القضية الفلسطينية هنا وكذلك قضية ضرب العراق محوراً للصراع العربي في مواجهة الامبريالية والصهيونية وحسب، بل محوراً للصراع بين كافة التكتلات العالمية، ومحوراً للصراع بين كافة قوى الخير في العالم وبين الرأسمالية. إن ما يجري للمنطقة العربية من مخططات سرية وعلنية مؤاده التغيير الجذري للخارطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها وجعلها تحت الهيمنة الأمريكية الصهيونية بشكل كامل وذلك لضمان بقاء وهيمنة إسرائيل في المنطقة من ناحية، وضمان بقاء السيطرة التامة على نفط المنطقة من ناحية أخرى.

إلا أنه ومع ذلك تنبثق من وسط كل هذا الظلام الدامس مهام وأماني كانت وإلى عهد قريب لا تأخذ الأولوية التي تستحقها، أعني بذلك مهمة الديموقراطية والمشاركة الشعبية والمجتمع المدني التي أصبحت لغة ليس سياسي ومثقفي المنطقة العربية فحسب بل أصبحت مطلب الشارع العربي برمته ، فيما عدا تلك القوى الأصولية الظلامية ذات الخيار المشابه للرأسمالية (مع أو ضد ـ الولاء والبراء).

وبالإضافة إلى ذلك أصبحت أشكال الحكم الشمولية الملكية المطلقة منها والرئاسية والتي كانت في السابق تقتسم الكعكة أو جزءاً منها مع الرأسمالية، غير قادرة ، بل غير مؤهلة، للتعبير عن المرحلة الراهنة التي تتطلب تطبيق كامل ومفضوح لكافة التوجهات الرأسمالية، بما فيها التطبيع الكامل مع إسرائيل والتآمر المكشوف على الشعب الفلسطيني، ومحاربة القوى الإسلامية الأصولية .إن الولايات المتحدة اليوم تريد أن تقيم  أنظمة عربية تصبح فيها البرجوازيات المتحالفة معها صاحبة القرار السياسي والاقتصادي، وتصبح الليبرالية الاقتصادية وبعض الديموقراطيات الشكلية (الطعم) الذي تقدمه لشعوبنا من أجل اصطيادها في شرك الهيمنة وبالتعاون مع عملاء داخليين.

 

الوضع الداخلي

 

إن بلادنا الخاضعة أصلاً للهيمنة الأمريكية، أصبحت الآن ذات صفات تتفرد بها وتختلف عن كافة النظم السياسية في العالم بما فيها الدول الخليجية الأخرى، التي طبقت النصائح الأمريكية بإجراء تغييرات شكلية لكي تنأى بنفسها عن التدخل الأمريكي في شؤؤنها بالقوة أو التآمر.. وعلى رأس تلك التغييرات الأنماط اللبرالية في الإقتصاد والسياسة والعلاقات العلنية وشبه العلنية بإسرائيل، ودعم الولايات المتحدة وحلفائها عسكرياً ولوجستياً في حربها ضد ما تسميه بالإرهاب، من خلال القواعد العسكرية واستخدام موانئها وغيرها.

إلا أن نظام الحكم الملكي المطلق عندنا والذي اكتسب شرعيته أساسًا من خلال علاقته الوطيدة وتحالفه الدائم مع القوى الدينية، غير قادر على فك ذلك الإرتباط لأن ذلك يعني عملياً فقدانه لشرعيته بالإضافة إلى وجود الحرمين الشريفين في بلادنا وتشدقه بالدين بصورة مستمرة، مما يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل عليه أن يخطو خطوات علنية في التحالف مع الولايات المتحدة، سواء كان ذلك لدعم مخططاتها في المنطقة ونسف القضية الفلسطينية ومحاربة الإرهاب المتمثل في الإسلام الأصولي والمخلوق أساسًا من هذا النظام.

وفي المقابل فإن الولايات المتحدة لن تأبه بمشاعر هذا النظام وتراعي ظروفه الحاصة، لأنه هو الذي فرّخ كل من أسمتهم بالإرهابيين سواء كانوا من جنسية بلادنا أو من غيرهم. ومن الجانب الآخر ـ ورغم كل ما قدمه هذا النظام من دعم  لمخططات الامبريالية في العالم وعلى مر العقود السابقة ـ إلا أن المطلوب تحقيقه منه الآن يتعدى إمكانياته السياسية والأمنية، بحيث أصبح وجود نظام جديد في بلادنا ضرورة لمصالح ومخططات الامبريالية في المنطقة (تطبيق مقررات العولمة ، ديموقراطيات شكلية، اعتراف بإسرائيل ، المساهمة في ضرب وملاحقة الإرهاب، ضرب الدول والجماعات المغضوب عليها: سوريا، العراق ، لبنان "حزب الله"...الخ).

إذن فالتغيير في بلادنا قادم لا محالة، ولكن تنبري أمام هذا الواقع المعقد العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة:

- بإرادة ومصلحة من سيجري هذا التغيير؟

-  ما هو موقف القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في الديموقراطية تجاه هذا التغيير؟

-  ما هو موقف القوى الديموقراطية من القوى الأصولية والظلامية في بلادنا والرافضة للتدخل الأمريكي من ناحية، ولأي تغيير في بلادنا من ناحية أخرى؟

-  هل يمكن الوقوف مع الولابات المتحدة لمجرد أنها ستأتي ببعد الديموقراطيات الشكلية ضد تلك القوى الدينية ؟

-  ما هو الموقف من السلطة إذا ما رفضت التغيير بالقوة ودعت الجماهير ولو بشكل خادع ضد الإصلاحات؟

 ـ هل من الممكن الوقوف مع السلطة رغم معرفتنا بها؟ وهل سيحبط وقوفنا معها المخططات الامبريالية؟

 ـ ماذا لو جرت تغييرات في إطار السطة ذاتها في تحقيق مآرب الرأسمالية للعائلة الحاكمة بشروط الرأسمالية؟

-  ما هي حدود المطالب التي يجب طرحها خلال المرحلة القادمة؟ وما هو إطار التحالفات؟ وما هو الموقف من التقسيم لو حصل عملياً ؟

كل هذه الأسئلة وغيرها يطرحها وسيطرحها الوضع القائم والقادم في بلادنا ، فبالتأكيد إن الإجابة على كل تلك الأسئلة ليس يسيرًا .

 

 

محاولة أولية للإجابة

 

 

إن تردي الأوضاع القتصادية في كافة مناطق المملكة، والازدياد المطرد في أعداد العاطلين عن العمل، وسوء الأوضاع الاجتماعية ـ وبالذات في مجالي الصحة والتعليم ـ، واستشراء الفساد الإداري والمالي بشكل مفضوح، وغير ذلك من الظواهر السلبية المترافقة مع المواقف المهينة للسلطة في الإطار القومي والموسومة بالتآمر والتخاذل ، كل ذلك يجعل شبابنا وبلادنا أمام مفترق طرق: فإما أن تستغل قوى التطرف هذه القوى المسحوقة أو التي في طريقها إلى ذلك، وإما أن تُستنهض من قبل قوى ديموقراطية حقيقية تنافح وتدافع عن مصالحها وتستطيع كسبها إلى جانبها في معركتها القادمة من أجل العدالة والديموقراطية .

إن ذلك يتطلب فعلاً جادًا وواضحًا يستطيع أن يقنع الجماهير بأن القوى الديموقراطية هي فعلاً من يمثلها ويدافع عنها، وإلا خضعت تحت سيطرة الشعارات الديماغوجية التي تدغدغ عواطفها وتقودها إلى العنف والإرهاب. وفي رأيي المتواضع، إن على القوى الديموقراطية ألا تهادن أو تسير في طريق الألعاب السياسية التي تستطيع من خلالها تحقيق بعض المطالب الشكلية التي ستحصل أصلاً حتى بدون تدخلها.. لأن تلك المطالب هي في حقيقتها أوامر أمريكية وديكور شكلي تستطيع الامبريالية من خلاله أن تكشف كامل اللوحة الوطنية.

نعم.. التغيير قادم، ولكن بأي مدى وإلى أي اتجاه؟

وهنا يجب التنويه إلى أن التغيير الذي أعنيه لا يعني بالضرورة سقوط الحكم أو انتهاء عهد الأسرة الحاكمة، وربما يكون من المفضل لدى الولايات المتحدة أن لا تحدث ذلك التغيير الجذري الذي لا تستطيع التكهن بمجرياته وتبعاته ومآله الذي قد يهدد مصالحها في بلادنا، وهي بالتأكيد تتمنى أن يحدث التغيير من الداخل أي من داخل الأسرة الحاكمة، وذلك من خلال دعم أحد الأجنحة في الأسرة الأكثر قابلية لتغيير النهج السياسي القائم حاليا .

الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة ستبقى متمحورة دائما حول مصالحها، وهذا يعني في نهاية المطاف أن ذلك الجناح من السلطة في حاجة ماسة لدعم جماهيري من نوع ما ليستطيع من خلاله أن يحدث الإنقلاب في إطار النظام بما يتفق والأطروحات الأمريكية الحالية، وبالتأكيد فإن ذلك الدعم الجماهيري لن يأتي من خلال تلك القوى المرتبطة عضويا ومصلحيا بالسلطة، لأنها سترفض الديمقراطية والمحاسبة والحد من النفوذ والهيمنة والفساد الذي يوفره النظام الحالي لها. وهنا يأتي دور القوى الديمقراطية التي عليها أن تستوعب وبشكل دقيق حاجة هذا الجناح للدعم، ويجب في الوقت ذاته أن لا تقدمه بلا ثمن، وهذه ليست دعوة للتطرف في خطابنا السياسي بقدر ما هي محاولة لقراءة صحيحة ودقيقة لواقعنا. وهنا تبرز أهمية وجود المعيار الذي يحدد العلاقات كافة سواء كانت مع السلطة أو القوى الحليفة الأخرى والتي من ضمنها بالتأكيد البرجوازية الوطنية التي ظلت دوما مترددة ومضطربة في الماضي نتيجة عدة عوامل تاريخية وسياسية، ولكنها لن تبقى كذلك في الأيام القادمة.

إن المعيار الصحيح في تصوري هو التمسك بمصالح الجماهير والإهتمام بقضاياها الإقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلى رأسها:

أولا: قضية الديمقراطية، بما تشمله من حقوق (التعبير، التظاهر، التشكل والتجمع النقابي والسياسي، الإعلام ..الخ).

ثانيا: قضية المواطنة، حيث يتم الاتفاق على التعامل قانونيا وسياسيا مع مواطني هذا البلد على أساس المساواة وتكافؤ الفرص بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية (المذهبية، المناطقية، القبلية، الفكرية ..وغيرها).

ثالثا: التمسك بالحقوق الاجتماعية لكافة المواطنين وعلى رأسها الحق في التعليم والصحة والعمل والعيش بحرية وكرامة .

إن هذه القضايا الثلاث هي لب المطالب الأساسية التي يجب اعتبارها معيارا في قضايا التحالفات مع بقية القوى أو في إطار التفاوض مع السلطة أو أحد أجنحتها. إن على القوى الديمقراطية مجتمعة أن تتفق على هذه الأسس باعتبارها عقدا اجتماعيا لبناء مجتمع المؤسسات المدنية تتعهد بالتمسك به فيما بينها لخلق جبهة تحالف عريضة تقبل كل من يؤمن ويوقع على ذلك العقد الاجتماعي، بمن فيهم تلك القوى المتطرفة حاليا والتي قد تعدل من مواقفها مستقبلا، بعد انسداد أفقها السياسي.

في تصوري المتواضع، هنالك فرصة تاريخية قادمة ستحدد مستقبل أجيالنا بشكل إيجابي إذا ما استطعنا انتهازها بشكل صادق وصحيح، خاصة في هذه الظروف الذي يشعر فيها الجميع ـ أعني كافة القوى الديمقراطية ـ أنهم لوحدهم ضعفاء بدون الآخرين، وأنهم جميعا على استعداد في اللحظة الراهنة للتوافق على قضايا الديمقراطية والمواطنة والحقوق الاجتماعية. وهذا ينطبق حتى على البرجوازية الليبرالية الوطنية في بلادنا مما يمكن كل هذه القوى من أن تفرض على جناح السلطة الذي قد يقود عملية التغيير في بلادنا شروطا أفضل، وبداية أقوى لمسيرة شعبنا نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية .

لذا فإن المهمة الأولى الآن هي: إيجاد وسائل إعلامية قادرة على توصيل معيار القوى الديمقراطية الثلاث، عبر كل القنوات الإعلامية المتاحة لكافة شرائح المجتمع، وحتى للسلطة ذاتها وللولايات المتحدة الأميركية نفسها.