تكفير منصور النقيدان

بيان الموقعين تجسيد حقيقي للتشدد الديني

لازال الفكر المتطرف المتلفع بعباءة السلفية يمطر المواطنين جماعات وأفراد بفتاوى صاعقة تهدر الدم وتدعو الى صلب المخالف. وإذا كانت فتاوى التكفير المتساهلة قد طالت الشيعة والصوفية والإسماعيلية والإباضية وغيرهم من المسلمين، فإن الفكر المتطرف السلفي لم يعد يقبل بغير أحادية الرأي حتى ضمن مدرسته، فلا يكاد يخرج أحد من النابهين المبدعين فيدعو الى مراجعة ونقد الذات أو التراث حتى تتقاذفه فتاوى التكفير والخروج عن الملّة. حدث هذا مع الشيخ حسن المالكي ومع الدكتور العواجي وقبلهما مع آخرين عدّوا علمانيين أو ليبراليين كفرة ابتداءً بغازي القصيبي وانتهاءً بتركي الحمد.

وطوفان التكفير قد زاد عن حده هذه الأيام، فقد تكاثر المفتون ولا يكاد تمرّ بضعة أيام حتى تخرج لنا فتوى جديدة تستعدي فئات من المجتمع على غيرها، أو على أفراد كل ما لديهم قلم ورأي. وكأن آخر ضحايا التطرف السلفي: الأٍستاذ منصور النقيدان، الذي كان شيخاً وإماماً لمسجد. وقد اصبح اليوم حسب تعبير المتطرفين يحمل خشبته بانتظار من يصلبه أو (ينحره).

هذا والحكومة لا شأن لها بالتطرّف! ولا تتدخل فيما يجري، ولا يستطيع الضحايا الدفاع عن أنفسهم أو الشكوى عند محكمة تأخذ لهم حقهم، وتمنع عنهم غائلة المتطرفين الذين يستخدمون كل الوسائل المتاحة للإزعاج والتهديد وربما القتل الفعلي بدل القتل المعنوي.

أربعة وصفوا أنفسهم بـ  "مجموعة من العلماء" أصدروا بياناً مثيراً في ردة منصور النقيدان لما كتبه حسب وصفهم "من ضلالات وزندقة في مقابلته التي أجراها منتدى الوسطية".

ان اول ما يثيره البيان هو التفسيرات التي أوردها الموقعون لاجابات النقيدان على أسئلة الوسطية والتي لا تتفق في القراءة الاجمالية مع أحكام الموقعين، وهذا ما تكشف عنه تقريباً كل تفسيراتهم على النحو التالي:

* في زعمهم بالقول بـ  "دعوته للحرية المنحرفة" ، قال النقديان: "أعتقد أن الحل يكمن في أن يكون هناك حرية، وأن يطرح الجميع ما لديهم"،  وليس في هذا النص دعوة للحرية المنحرفة بل هي ترجمة امينة لمفهوم قرآني "قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين" وآيات اخرى مستفيضة تدعو الى اشاعة روح الجدل بين المعتقدات وصولاً الى الحقيقة.

قولهم ايضاً بـ  الدعوة إلى الحرية التي تسمح بالنفاق وتحترم النفاق" بناء على قوله: حدود الحرية الدينية عندي هي الحدود التي منحت عبد الله بن أبي بن سلول أن يقول : "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يقصد أنه هو الأعز ،والرسول (ص) الأذل!، ولم يقتله رسول الله...".

في واقع الامر هذا التفسير لنص النقيدان يعكس الى حد كبير فهماً تصفيحياً يتجاوز فيه الغرض الى المثال، فالنقيدان حين ساق مثال ابن ابي سلول لم يكن يحمل دعوة الى السماح بالنفاق او احترامه بقدر استخدامه للتمثيل للتسامح الفكري داخل الفضاء الاسلامي.

ويزداد التفسير بلاهة وتصفيحاً حين يوصم النقيدان بأنه "يدعو إلى إسلام جديد" لقوله: (فنحن بحاجة إلى إسلام متصالح مع الآخر، إسلام لا يعرف الكراهية للآخرين من أجل معتقداتهم أوتوجهاتهم . نحن نحتاج إلى لوثرية جديدة، وإعادة تفسير "جريئة" للنص الديني لكي نتصالح مع العالم ، وقال في إحدى الإجابات : الخلاصة أننا بحاجة إلى إسلام جديد من قبل سبتمبر و"الحرب الصليبية"، ومن بعد سبتمبر). وهذه دعوة تكاد تصبغ كتابات المتنورين الاسلاميين هذه الايام ممن نبذوا التشدد الديني ومصادرة الراي الآخر وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، واشاعوا الكراهية ضد كل آخر يقف خارج دائرة مذهب الموقعين، ولذلك فدعوة النقيدان اذا كان يستدل بها الموقعون لتكفيره فقد شمل حكمهم طيفاً واسعاً من المخلصين لهذا الدين المناجزين لطريقة الموقعين  في نفي الآخر ومخاصمة المخالف.

وهذه ليست دعوة بل كانت من الناحية العملية ديدن اهل العلم في القديم والحديث فالذين كتبوا عن مقاصد الشريعة لم يكن غرضهم سوى الانتقال من حرفية النص الى غاياته، ومن صرامة الاحكام الشرعية الى أهدافها الكبرى. فتفسير النص الديني ليس نصاً، فهذا حق مفتوح مارسه الاولون لاعتقادهم بأنه حق مكفول لهم شرعاً ولا شك انهم لم يقصروا هذا الحق على أهل فترتهم، ويحرموا من يليهم هذا الحق. ثم إن الانحباس في أفهام الأوائل للنص الديني يعد انفصالاً عن حركة التاريخ.

وما يبعث على الاحباط حقاً هو تقليص مساحة النص الى حد يفقده خصوبة المعنى، كقول الموقعين بأن النقيدان يدين بغير دين الاسلام لاعتقاده بدين الانسانية، انكاراً منهم لانسانية الاسلام، وكان يفترض في الموقعين النأي عن الخوض في هذه النقطة تحديداً لما تبطنه من موقف اتهامي للدين نفسه، حين يصبح مناهضاً لمعنى الانسانية. ثم ان اللجوء للآية المباركة ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)  يعد توظيفاً مشوّهاً للمقدّس.

ولا ندري حقاً مالذي جعل الموقعين مستائين من كلام النقيدان:  "لا أعادي الآخرين لتوجهاتهم، ولا أجد في قلبي غلاً لإنسان مهما كان دينه أو نحلته أو توجهه"، وما علاقة ذلك بأصل البراء، وهل البراءة يعني كره الآخر فأين عنهم من الآية المباركة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم".

وما يؤكد قلة البضاعة الادبية والعلمية للموقعين هو هذا الخلط المفجع بين ما هو دين وممارسات اجتماعية، وما يؤلم حقاً هو هذا الرفض المطلق لممارسة النقد الذاتي، بما يوحي بتنزيه الذات وتقديسها. فالنقيدان في وصفه للممارسات الدينية اليوم هي "عرض من أعراض المرض والعلة التي استشرت في جسد هذه الأمة وثقافتها" ويرجع ذلك في الاساس "إلى تراث متعفن ، وثقافة الصديد والضحالة التي يربى أبناؤنا عليها صباحاً ومساءً، في المساجد، وعبر خطب الجمعة، وفي دروس الدين، ومن إذاعة القرآن الكريم" وليس في ذلك ما يشير الى سخرية بالدين، بل هي الممارسة الصحيحة للنقد الذاتي التي نأمل ان تتحول الى مبدأ عام لدى المدارس الفكرية الاسلامية عموماً.

النقيدان يحاول وضع الاصبع على واحدة من الموضوعات الاكثر اثارة للجدل سواء داخل الفضاء الفكري الاسلامي او العالمي، وهي موضوعة الجهاد التي باتت تأخذ معنى مشوّهاً وبات مصاحباً لمفهوم القتل وسبي ذراري الآخر وقتل الابرياء الاطفال والنساء مما أوحى لدى الآخر بأن الجهاد ليس شيئاً آخر غير الارهاب. يقول النقيدان :"أما أن يكون الحل هو الجهاد، وأن يكون البناء هو الهدم وأن يستجلب الحب بقتل الأبرياء والأطفال، والسلام عبر الاحتراب ، والأمل عبر ثقافة الاستئصال والقتل، فهو ما يصعب على العقل السوي فهمه".

ان المنطقة الشائكة التي يصطاد فيها الموقعون ومن على شاكلتهم هي القراءة الثانية للتاريخ الاسلامي،  فكل قراءة لا تنتمي الى القراءة التنزيهية للصحابة والسلف والعلماء تعد قراءة مشبوهة في نظر الموقعين وتمثل "مسلك الروافض والخوارج والمنافقين". لماذا؟

لأن النقيدان قدّم قراءة مختلفة لبعض حوادث التاريخ سواء في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) في قصة صبيغ بن عسل "أحد أقدم الشخصيات المتسائلة في تاريخنا الديني" حسب النقيدان، حيث كان صبيغ "يكثر الأسئلة ويستفسر عن معاني كثير من النصوص والمتشابهات التي كانت تبعث في نفسه القلق والحيرة، فكان جزاؤه التعذيب الجسدي، ولم يطلق سراحه حتى أقر بأن ما كان يجده قد ذهب، مع أنها كانت أسئلة مشروعة ومبررة".

ولأن الموقعين اعتمدوا لغة انتقائية كيما يقيموا عليها اساس حكمهم فإن ثمة قائمة اخرى حظيت بثناء النقيدان فيما يمثل افرادها صورة الآخر المنبوذ كثنائه على الكاتب السعودي الدكتو تركي الحمد الذي وصفه الموقعون بـ "المارق الملحد" والاستاذ حسن بن فرحان المالكي الذي وصف بـ "الزنديق".

من اجمالي العرض السابق لمتبنيات الأستاذ منصور النقيدان أصدر الموقعون حكمهم النهائي فيه بما نصه: "أنه من أئمة الكفر والضلال ومن منظريهم في الوقت الحالي، وكانت طريقة النبي صلى الله عليه وسلم مع مثل هذا وأمثاله ومن هو دونه في الردة إراحة الناس من شره فالمسلمون يتأذون بفعله ويتألمون لما ينشره، فبردعه يرتاح المسلمون ويرتدع كل من تسول له نفسه أن يتطاول على الله أو رسوله أو دينه، ولأن في تركه مفاسد كبيرة يعجز حصرها".

وبناء عليه صدر الحكم  أولا بـ " تكفيره وعدم التوقف في ذلك" . وثانيا: "المطالبة بإقامة حد الردة إن كان هناك شرع يقام"، ثالثا المطالبة بـ: "الدعاء عليه وعلى أمثاله والإلحاح على الله في ذلك". ولم ينس الموقعون ان يشملوا بحكمهم القائمين على منتدى الوسطية والقائم عليها الدكتور عبد المحسن العواجي بسبب "استقطاب أهل الضلال وفسح المجال لهم لبث شبهاتهم بدعوى الحرية المزعومة". وقد وقع على البيان (الفتوى) كل من: علي بن خضير الخضير، حمد بن ريس الريس، حمد بن عبد الله الحميدي، أحمد بن حمود الخالدي .

ثمة انطباع محزن يخرج به القارىء لبيان الاربعة، كونهم امتطوا رتبة الافتاء وأصدروا احكاماً نهائية لا يصح صدورها سوى من أناس أمضوا عمراً طويلاً في مضمار دراسة الفقه، وقطعوا أشواطاً في دراسة العلم الشرعي، واحاطوا بجوانب من الاحكام الدينية بما يجنبهم التساهل في اصدار مثل تلك الاحكام الصارمة التي توازي في تأثيرها حد القتل. والاشد في البيان هي تلك القسوة البادية في لغة الموقعين والتي تعكس الى حد كبير موقفهم من المختلف الذي بات ليس منبوذاً فحسب بل معرّضاً للقتل، فبيان الموقعين يكشف عن افتقارهم للتسامح الديني وتحمل الآخر فضلاً عن التعامل معه. فعدم القبول بمبدأ الحوار والحرية الفكرية ومعاداة الآخر المختلف هو ما عكسه الموقعون لفظاً ومضموناً. بكلمة اخرى ان البيان يمثل ترجمة أمينة لعقيدة الموقعين وهي عقيدة قائمة على تنزيه الذات ونبذ الآخر فكرياً ومن ثم تصفيته جسدياً.

التطرف السلفي، غائلة حقيقية، توجّه للمجتمع ككيان، والى أعضائه كأفراد، والى الحكومة أيضاً ان لم يكن اليوم ففي المستقبل القريب، بل القريب جداً. هذا التطرف الذي رعته العائلة المالكة زمناً طويله فحصد المجتمع تفككاً وتطرفاً وعنفاً وخنقاً للإبداع، وقضاءً على أساسيات التسامح بين المواطنين.. هي المسؤولة عن كف غائلته، على الأقل بإتاحة الفرصة للرد والدفاع والشكوى، وإن لم تفعل اليوم فسيكون المستقبل مظلماً لها قبل غيرها.