عناوين المرحلة السعودية القادمة

الإصلاحات والمعارضة والعنف

 

ناجي حسن عبد الرّزاق

 

مملكة الصمت. هكذا يصف البعض العربية السعودية. ولهذا الوصف ما يبرره لأن القمع السياسي ومنع الحريات ومصادرة الرأي الآخر من المعالم المعروفة في الدولة السعودية. في هذا المناخ القمعي لا تستطيع أية معارضة سياسية المجاهرة بآرائها وان فعلت دفعت الثمن. السعودية اليوم لا تختلف عن بلدان عرفت في السابق باستبداد حكوماتها ذات نظام الحزب الواحد.

 اعلنت الحكومة السعودية عام 1992 عن ترتيبات سياسية متعلقة بنظام الحكم الاساسي والشورى والمناطق. ورافق هذا الاعلان وبعده حملة دعائية في الاعلام السعودي عبر عدد من المدّاحين والمؤيدين لرفع هذه الترتيبات إلى مصاف الآيات القرآنية في عظمتها وسمو درجتها واعتبارها قفزة ما بعدها قفزة في التطور السياسي الذي تنتهجه العائلة الحاكمة منذ الملك عبد العزيز.

منذ الخمسينات واجهت العائلة الحاكمة السعودية معارضة سياسية تؤمن بالحلول الجذرية (النهج الثوري في التغيير) إلا ان هذه الحلول فشلت لعدة عوامل أهمها: الحماية الأمريكية، القمع الشديد، تشتت قوى المعارضة السياسية بسبب جمودها العقائدي والاجتماعي والمناطقي، واخيراً توظيف جزء من عائدات النفط لتدجين هذه القوى وشراء ولاء القبائل والتكنوقراط.

ساعدت هذه العوامل مجتمعةً العائلة الحاكمة على استمرار حكمها بطريقة ديكتاتورية ورافضة الاعتراف بأي شكل من أشكال المعارضة السياسية لها. فقبل مدة قال وزير الداخلية لصحافيين بلجكيين: (لم يعرف التاريخ قيادة او حكومة لم تتعرض للانتقاد والاتهامات وعدم الرضا عن البعض.. وهذه حقيقة تدركونها.. وفي حقيقة الأمر ليس لدينا حساسية ضد مثل هذه الادعاءات.. وهي ادعاءات على الرغم من عدم صحتها لا تصل الى ما تتعرض له الكثير من الدول الاخرى من اتهامات.. وأود التأكيد انه ليس في المملكة العربية السعودية ما تسمونه بالمعارضة). ولازال الأمير يردد نفس الرفض: (بالنسبة لما يقال انهم معارضة فلا اعتبرهم كذلك ولا ارى ان لهم قيمة.. ) ذكر هذا لجريدة عكاظ في 18/2/2003.  بطبيعة الحال يقول الأمير ما يحلو له ما دام القمع السياسي وانعدام حرية التعبير عن الرأي نهجه في الحكم. والمعارضون السياسيون الذي ينفي الأمير وجودهم، هم في الواقع كثر في الداخل حيث ينتشرون في كل أنحاء البلاد بصمت وفي الخارج حيث تعلو كلمتهم. ومن الطبيعي ان يظلوا غير علنيين في السعودية ما دامت وسيلة العائلة الحاكمة هي الاعتقال والقمع ومصادرة الحريات والتشبث بالسلطة بالحديد والنار لإرساء الهيمنة الشاملة على كل شيء.

تصاعد الخناق على المواطنين وتعرض العائلة الحاكمة لأزمة الخليج الثانية عام 1990 قد حرك ما كان كامنا تحت السطح  نحو العلن. ولتفادي أي اضطرابات سياسية وأمنية،ت البلاد . فا محضور وأيديولوجياتهم .  أعلنت العائلة الحاكمة السعودية أنظمتها الثلاثة المشهورة عام 1992 والمتعلقة بمجلسين للشورى والمناطق معيَّنين، وبأساس الحكم الذي يؤكد على توارث الحكم المطلق لآل سعود من أبناء عبد العزيز. ولم يُفلح هذا الاعلان في تحسين الوضع السعودي الداخلي حيث ظلّ يعاني من اضطرابات أمنية وسياسية (تفجير العليا، تفجير الخبر، تفجيرات واغتيالات هنا وهناك في الرياض وجدة والخبر والجوف، واعتقالات مستمرة). أما حدث 11 من سبتمبر 2001 وما ترتب عليه من إجراءات أمريكية فكان على ما يبدو القشة التي قد تقصم ظهر البعير السعودي. خلال التسعينات حتى عام 2003، أخذت المعارضة السياسية تعلن عن نفسها تباعا عبر وسائلها الاعلامية الخاصة (نشرة الاصلاح وإذاعة الحركة ومجلة الحجاز وشؤون سعودية). وقد يكون أخطر معارضة حالياً هي تلك المؤمنة بالعنف (العائدون من افغانستان) كطريقة لفرض وجودها كرقم صعب في الساحة الداخلية. أما بعض التكنوقراط والليبراليين والمتدينين المعتدلين في الداخل فيقدمون انفسهم كطيف غير معارض بل ناصح لا أقل ولا أكثر.

 حققت العوامل الأربعة سابقة الذكر مكاسب للعائلة الحاكمة السعودية من أبرزها: خفوت صوت المعارضة السياسية، استقرار أمني وسياسي ظاهري، مزيد من استئثار الأمراء بالثروة الوطنية، الاحتكار المطلق للسلطة، وتوسع صلاحيات المؤسسة الدينية الرسمية الوهابية على حساب المعارضين سياسياً والمختلفين مذهبيا ومناطقيا.

لم تتمكن العارضة السياسية سواء الوطنية او اليسارية أو الاسلامية خلال الخمسينات حتى الثمانينات من إحداث خلخلة استراتيجية في المكاسب السابقة. إلا ان الأزمات التي مرّت على العائلة الحاكمة  (كحرب الخليج الأولى والثانية) تركت تأثيرات سلبية عليها وعلى ومؤسستها الدينية مما عزز الخطاب السياسي  المعارض. ومع ذلك، كانت العائلة الحاكمة تخرج من هذه الأزمات بعد حين بأضرار أقل مما تتوقعه المعارضة.

 بداية التراجع

 كانت الآلية التي تنتهجها العائلة الحاكمة السعودية في مداواة أزماتها تثمر باستمرار قدرا من التناقضات التي تزيد من وتيرة الاحتقان الشعبي ضدها وضد مؤسستها الدينية التي تشرعن إجراءاتها السياسية والأمنية. فكانت هذه التناقضات تعمّق بالتدريج الهوة بين العائلة الحاكمة ونظامها الديني وبين المواطنين. فليس هناك شك من ان سرقة الأمراء للمال العام واستئثارهم بالسلطة وارتفاع نسبة البطالة والفقر والتمييز الطائفي والمناطقي بين المواطنين وإقحام المؤسسة الدينية الرسمية لتبرير كل ذلك قد أضعف مصداقية خطاب العائلة الحاكمة ومؤسستها الدينية في الداخل والخارج. وجاء هجوم 11 من سبتمبر فأزاح الستار عن عورات كثيرة مستترة خلف قناع التبريرات الدينية الرسمية ومستترة أيضا خلف الأموال التي كانت العائلة الحاكمة تعطيها للمستفيدين منها من كتّاب وصحفيين ومثقفين وشخصيات قبلية وجماعات في الخارج.  لقد كشفت الأضواء الاعلامية العالمية المسلطة على العائلة الحاكمة ومؤسستها الدينية جانبا من واقعهما المريض، مما دفع العائلة المالكة الى القيام بحملات علاقات عامة واسعة لتحسين صورتها. لم يعد احد يصدق ما تقوله المؤسسة السياسية والدينية السعودية، ولم يعد الرأي العام الداخلي والعالمي مقتنعا ايضا بصلاحية خطابهما الذي ما زالت تفوح منه رائحة الزيف والتشدد. وفضلاً عن هذا، لم يعد العطاء السعودي اليوم مغريا للمعارضين لكي يتوقفوا عن معارضتهم أو تأجيلها على الأقل خلال هذه الفترة الحرجة. إضافة الى ذلك، فإن هجوم سبتمبر غير استراتيجية الولايات المتحدة نحو السعودية، فبدلا من اعتبارها جزء من الحل في الاستراتيجية الأمريكية قبل 11 من سبتمبر أصبحت جزء من المشكلة بعده. إذاً لم تعد الحماية الأمريكية للعائلة الحاكمة كما كانت، وهو ما يعني أنها خسرت جزء من أهم أركان استقرارها السياسي.

بطبيعة الحال تعول العائلة الحاكمة على الحماية الأمريكية حتى بعد هجوم سبتمبر وهذا ما تعكسه تحركات الأمراء السعوديين الإعلامية والسياسية كسعود الفيصل وتركي الفيصل وبندر بن سلطان. كما أن الإدارة الأمريكية لم تعلن حتى الآن رسميا رفضها لآل سعود او البحث عن بديل عنهم. إلا ان جناحي العائلة الحاكمة ربما لم يصلا بعد لاتفاق حول الطريقة المثلى للتعامل مع المطالب الأمريكية التي تدعوهما للتخلي بصراحة عن نظامهما الديني الرسمي المتشدد والبدء باصلاحات تنسجم مع الرؤية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. ومشكلة العائلة الحاكمة تتمثل في عدم قدرتها على البدء بتنفيذ خطوات عملية لإقصاء مؤسستها الدينية كما ترغب واشنطن، لأن الجناح السديري الذي ما زال الأقوى في السلطة لا يرغب في التخلي عن المؤسسة الدينية أو الحد من صلاحياتها التقليدية لأنها جزء من آليته التي يستقوي بها على الجناح الآخر وعلى المعارضين السياسيين من اجل حماية مصالحه السياسية والاقتصادية. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الجناحين في حالة احتراب استراتيجي، بل يختلفان في الرؤية والطريقة التي تبقيهما كمحتكرين للحكم بعد 11 سبتمبر. لذلك ليس من المتوقع أن يتصرف جناح الأمير عبد الله بطريقة إقصائية للمؤسسة الدينية، أو أن يذهب بعيدا في معاداة السديريين. بل يرغب ولي العهد ومؤيدوه بإعادة تشكيل المؤسسة الدينية ضمن بوتقة أفكار ومواقف أكثر اعتدالاً واستقطاب الفئات الوسطية التي تقبل الحوار مع الآخر ولا ترفض شكلاً المذاهب الأخرى كوجود وليس كشركاء. وهذا التشكيل الجديد لهذه المؤسسة سوف يفيد – من وجهة نظر جناح ولي العهد –  العائلة الحاكمة في ظروفها السياسية الحالية بما في ذلك العلاقة الجديدة مع الأمريكيين. إلا أن الصقور (جناح السديريين) يتوجسون خيفة من هذه الطريقة في التغيير، وغير واثقين من أن الوسائل الجديدة سوف تضمن لهم استمرار هيمنتهم وامتيازاتهم الاقتصادية والسياسية.

يتصور السديريون أن إبقاء سلطتهم قوية داخليا مرهونة بقوة تحالفهم مع المؤسسة الدينية الرسمية كما هي. لكنهم في نفس الوقت يعلمون جيدا أن الإدارة الأمريكية لا ترحب بهذا التحالف الذي تعتبره المسبب الأساسي في هجوم 11 سبتمبر. ولهذا التصور ما يبرره فعلاً. لأن السديريين قد أسسوا منذ فترة طويلة آليات هيمنة داخلية تعتمد على تحالف عضوي أساسه شرعنة دينية لهذه الهيمنة بكل أشكالها ومظاهرها الاقتصادية والسياسية. والتخلي عن المؤسسة الدينية بحسب الطلب الأمريكي أو بحسب رؤية حمائم العائلة الحاكمة على الأقل يضعف سلطة الصقور. ولهذا يصر الصقور على استخدام الوسائل التقليدية عبر القمع وتشتيت قوى المعارضة والمواطنين عقائديا واجتماعيا ومناطقيا بالشكل الذي يعزز قوتهم داخليا.

إن استمرار صراع الجناحين السعوديين تكتيكيا بوتيرته الحالية يجعل الوقت يمضي والأحداث تتلاحق بسرعة بدون ان تنتظر أيّ منهما ليحسم امره أو يقدر خسائره وأرباحه. ان عدم حسم العائلة الحاكمة أمرها في عملية الاصلاح الحقيقي سوف يهدد الجميع بنتائج وخيمة تضر بوحدة البلاد.