آفاق التنمية السياسية في المملكة ودول الخليج العربي

 حمزة الحسن

لم يحظَ موضوع الإصلاح السياسي في دول الخليج العربية سوى باهتمام قليل من قبل المهتمين والباحثين. وجرت العادة النظر الى تلك الدول من زاوية اقتصادية بحتة، كمنتج للنفط ومستهلك للبضائع الأجنبية، ومدى تأثيرها في الإقتصاد العالمي والى حد ما في حركة السياسة الإقليمية. قلّما بحثت طبيعة النظم السياسية في الخليج وعلاقتها بعامل الإستقرار الداخلي والإقليمي، في حين يتم التعاطي مع هذه الدول وكأنها مجرد بئر نفط بحاجة الى حماية أجنبية، وأن شعوبها متخلفة تقتات على ثقافات وانتماءات عفا عليها الزمن، وحكامها مجرد أثرياء يعبثون بكميات هائلة من النقد ويبعثرونها.

في هذه المقالة، يقدّم حمزة الحسن الصورة السياسية الداخلية، من خلال معالجة موضوع التنمية السياسية وآفاقها المستقبلية.

ينظر الى التنمية بمفهومها العام على أنها عملية شاملة ذات مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي انها عملية لا تقبل التجزئة ، وأن أي تحوّل في أحدها يقود دون مناص الى تحوّل وتغيير في البقية، وهذا ما استقرّ على تعريفه معظم الباحثين.. فإن التنمية في دول الخليج لم تبحث سوى في اطارها الإقتصادي والإجتماعي كالتعليم والصحة والخدمات الإجتماعية وإيجاد قاعدة صناعية وتوزيع الثروة وما أشبه. لكن التنمية السياسية كنشاط يقوم به المواطن العادي من أجل التأثير في صناعة القرار الحكومي، ظلت الغائب الأكبر لدى صانع القرار، ولدى الباحثين والكتاب، الأمر الذي أدى الى التشكيك في حتمية (شمولية) التنمية، بالنسبة لبعض الدول، خاصة الريعية منها، أي تلك الدول التي تعتمد على مصادر دخل غير (الضرائب) وتقوم بصرفها على التنمية.

هناك من يجادل أن التنمية في دول الخليج لا تستدعي بالضرورة تضمين الجانب السياسي، أي أنها لا تقترن بالضرورة مع المشاركة الشعبية في صنع القرار ولا مع تحويل الأنظمة السياسية فيها من أنظمة تقليدية تعتمد في شرعيتها وبقائها على معايير وقيم غير متوائمة مع متطلبات الدولة الوطنية الحديثة، الى أنظمة تحظى من خلال الإختبار والإختيار الشعبيين بدعم جمهورها وتشرعن نفسها عبر صناديق الإقتراع وإشراك المواطنين في العملية السياسية.

لا شك أن هناك تماثلاً يصل في بعض الأحيان الى حد التطابق بين دول الخليج في توصيف أنظمتها والنسيج الإجتماعي فيها، كما لا شك أن دول الخليج في مجملها تختلف عن بقية البلدان العربية فيما يتعلق بموضوع التنمية السياسية، لكن هذه الفوارق الناشئة من طبيعة الأنظمة نفسها ومن القيم الحاكمة في مجتمعاتها لا تجعلها تصل الى حد اعتبارها نسيجاً خاصاً لوحده لا تنطبق عليها موازين التغيير وسنن الكون. وهي بهذا لن تخط منهجاً معزولاً عمّا يجري في العالم، وتنشئ لنفسها تجربة خاصة بها مقطوعة الصلة ومختلفة الى حد التناقض مع ما يحدث في بلدان العالم الأخرى.

في الماضي، لم يكن موضوع التنمية السياسية ملحاً في معظم دول الخليج ـ مع تفاوت درجة الحاجة ومقدار الالحاح في كل دولة على حدة ـ لأسباب وظروف سياسية وثقافية واقتصادية وتاريخية، وهذه العوامل هي ما يجب مناقشته، لمعرفة ما إذا كانت التنمية السياسية أمراً لا مفرّ منه، أي توافر الشروط الموضوعية لتحديث بنى الدولة السياسية.

هناك ثلاث مقاربات لموضوعة التنمية السياسية: أولها يربط التنمية السياسية بمقدار ما يتحقق من إنجاز في مجالي التنمية الإقتصادية والإجتماعية. أي أن التنمية السياسية تبدو هنا كما لو كانت ناتجاً أو مخرجاً للتنمية الإقتصادية والإجتماعية. فالتطور الإقتصادي والإجتماعي وفق هذا الرأي سيؤدي الى تطور في التنمية السياسية والممارسة الديمقراطية. أما المقاربة الثانية فتربط مؤسسات النظام السياسي بالتنمية السياسية؛ فبناء الأمة، وتطور الهيكل الإداري للدولة من جهة الإنسجام والمطواعية تجاه التغيير، وتحقيق قدر من الإستقلال لأجزائه وانسجامها مع باقي المؤسسات، مؤشران الى إمكانية تطور في الممارسة والتنمية السياسية. في حين يربط أصحاب الرأي الثالث بين التنمية السياسية والقيم السياسية السائدة في مجتمع ما. فهل هذه القيم تتواءم مع التغيير والتطور والديمقراطية (أو الشورى)، وهل تعنى بعملية حشد الجمهور وإشراكه في العملية السياسية أم تعتبرها حقاً مقدساً مقصوراً على (نخبة النخب)، وهل إقحام الجمهور في الشأن السياسي مرتبط بإرادة النخبة الحاكمة؟

بقدر ما يتعلق الأمر بدول الخليج فإن أول ما يتبادر الى الذهن الجدل حول طبيعة دور (الدولة  الريعية) وقدرتها على تقليص هامش إمكانية الإصلاح والتنمية السياسيين. فقد لعبت الدولة الريعية في الخليج والجزيرة العربية دورين متناقضين، فمن جهة سلبية، ساعدت الثروة في تعزيز جهاز السلطة الأمني والعسكري، وعززت مركزية اتخاذ القرار، وتأميم قنوات التعبير. كما ساهمت الثروة في إشغال المواطنين الخليجيين عن الموضوع السياسي والمشاركة في صناعة القرار في الجملة، بل أضعفت الحاجة وربما التطلّع الى اقتحام التابو السياسي وممارسة النقد العلني حتى في حدوده الدنيا. بالنسبة لكثير من مواطني الخليج بدا غياب المشاركة السياسية كما لو كان نتيجة طبيعية لتعاظم دور الدولة الرعية التي استطاعت تعويض النخب والمواطنين عن الحرمان السياسي من خلال التوظيف وتحسين الوضع المعاشي. ومن جهة إيجابية ثانية، كان لا بدّ لدول الخليج التي خاضت بعمق آفاق التنمية الاقتصادية والإجتماعية أن تواجه آثارها في ميدان السياسة أيضاً، والتي يمكن ملاحظتها في الميادين التالية:

1 ـ قادت عملية التنمية (أو التحديث) الى تطوير في ميدان التعليم، وخلقت نخباً متعلّمة كانت في أشد الحاجة اليها في جهازها البيروقراطي الذي كان في طور النمو السريع. لم تكن هناك مشكلة في بداية الأمر، فقد كان من السهل احتواء معظم إن لم يكن كل النخب المتعلمة في الجهاز الوظيفي للدولة، وإن كان الإحتواء قد عنى بالدرجة الأولى الجانب الإقتصادي والمعيشي لتلك النخب، التي حصل بعضها على مواقع مهمّة لبّت حاجة معنوية لديها. ولكن هذه النخب التي نمت في رحم الدولة صعب كبح تطلعاتها السياسية والنظر الى (الأعلى) من أجل المساهمة في صناعة القرار السياسي. ومع انكماش قدرة الحكومات الخليجية ـ كما في السعودية ـ في استيعاب النخب الجديدة ضمن قنواتها الإقتصادية إما بسبب استكمال بناء الجهاز البيروقراطي أو لصعوبات اقتصادية بدأت بالظهور منذ منتصف الثمانينات، تضاعف حجم الأزمة وتزايدت الدعوة الى الإصلاح السياسي والى المحاسبة والشفافية وحرية التعبير وما أشبه.

أما النخب (العسكرية) فقد كان تأثير التحديث عليها أكثر وضوحاً من خلال محاولات الإنقلاب العسكرية المتتالية والفاشلة والتي عكست تطلعاً متزايداً نحو حيازة السلطة، يعضدها في ذلك محاكاة تجارب مجاورة، وحيازة تكنولوجيا حديثة تشجّع على المغامرة.

ربما يمكن القول، أن النخب في الخليج والتي كانت وربما لاتزال أقل تمظهراً في نشاطها السياسي من مثيلاتها في الدول العربية، رغم أنها تفوقها من ناحية النسبة العددية، بدأت على استحياء أولى خطواتها وتفاعلها مع حركة السياسة في بلدانها، باحثة لها عن دور تلعبه من بوابة الدعوة لضرورة الإصلاح السياسي.

2 ـ إن التنمية الإقتصادية والإجتماعية هي في الغالب عملية غير متوازنة. فبعض المناطق وبعض الطبقات الإجتماعية والجماعات الأثنية أو الدينية/ المذهبية تكون مهيّأة أكثر من غيرها لاستثمار العملية التنموية والإفادة منها، وهي بالتالي أكثر إلحاحاً على المشاركة السياسية، إمّا لكونها قد سبقت غيرها في ميدان التعليم والنمو الإقتصادي والخدمات الإجتماعية فتكونت لديها الحاجة ونما عندها التطلّع وتهيأت لاستثمار الفرص المتاحة أمامها نحو المشاركة السياسية، وإما بسبب عكسي تماماً، أي أنها قد تكون أكثر حرماناً وأكثر التصاقاً بهويّاتها الخاصة (مناطقية أو قبلية أو طائفية) وتجد في موضوعة التنمية السياسية مخرجاً لها من وضعها الثانوي، ومعاملتها الدونيّة، وهي بالتالي تصرّ في المطالبة من أجل رفع مستواها الى مستوى الجماعات والمناطق الأخرى.

إذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة التعدد الثقافي في الدول الخليجية، أو بعضها على الاقل، فإن عدم التوازن هذا والمتزامن مع تسويد ثقافة معيّنة أفرز جماعات منظمة ومعارضة. وبالقدر الذي تدخّلت فيه الدولة في حياة الأفراد (مستوى معيشتهم وتعليمهم وتوظيفهم وأنماطهم الثقافية) فإن عدداً غير قليل منهم دخلوا الى السياسة وتعاطوا معها من الزاوية الثقافية/ الدينية والإقتصادية لحماية مصالحهم، سواء كانوا أفرادا أو جماعات. وهذا عامل آخر يدفع باتجاه تطوير الهياكل السياسية الخليجية.

بيد أن هناك رأياً يربط بين "المساواة" وتحقق المشاركة السياسية (أو بصورة أدق الديمقراطية). فكلما زادت الفوارق بين الأفراد والمناطق في الثروة والمكانة الإجتماعية والخدمات العامة، ابتعد المجتمع عن نظام الحكم الديمقراطي الذي هو مؤسس من الناحية المفهومية على المساواة السياسية. ولا يخفى أن مواطني عدد من دول الخليج تعاني من مشكلة التفاوت في التنمية والثروة وغيرها، وهي بقدر ما تدفع بالفئات المضطهدة للولوج الى عالم السياسة، فإنها تدفع بفئات أخرى للحفاظ (سياسيا) على الوضع الراهن الذي يحفظ لها تميّزها واستمتاعها بالثروة والمكانة الإجتماعية. لا يعني هذا بالضروة أن المساواة الإقتصادية بين المواطنين تقود الى تنمية سياسية، بالرغم من حقيقة تفاعل موضوعي المشاركة السياسية والمساواتية الإقتصادية والإجتماعية. ولربما يمكن الجدال بأن الدول الخليجية الأقل توازناً في تحقيق المساواة الإقتصادية والإجتماعية هي الأبعد عن الإصلاح السياسي بشكل عام، ونخص هنا بالمثال: السعودية.

 3 ـ أيضاً فإن عملية التنمية أثرت بشكل كبير على علاقة الدين بالدولة، وجعلت من الدين البوابة الواسعة التي يمكن أن يأتي عبرها أو بسببها الإصلاح السياسي. من الواضح أن أنظمة الخليج السياسية، وخاصة في المملكة، حريصة كل الحرص على عدم إقحام الجمهور في الشأن السياسي، رغم الحاجة الملحة اليه في احيان كثيرة. فالسياسة شأن خاص، ولكن الدين شأن عام، والمؤسسة الدينية ـ كما هي في المملكة ـ ومن الناحية النظرية لا تمثل جهازاً من أجهزة الدولة، ومشرعنة لنظام الحكم فيها فحسب، بل هي من الناحية النظرية (شريك سياسي). مثل هذه المؤسسة تطورت وتوسع دورها بسبب عملية التحديث المتواصلة، وصارت لها جامعاتها وإعلامها الخاص بها، إضافة الى سلطاتها القضائية والرقابية والأمنية. وإن توسّع هذا الدور لا شك أقحمها في السياسة لمواجهة منظومة القيم الوافدة، عبر تحشيد الجمهور وتغذيته بثقافة خاصة ودفعه لأعمال تستبطن فعلاً سياسياً وتستهدف تغييراً في آلية صنع القرار. حدث هذا في مصر واندونيسيا والباكستان وحتى بين البوذيين في فيتنام.

وإذا كانت الحكومات الخليجية قد أغلقت بوابة الحشد والتعبئة السياسيين على أسس وطنية، فإن المؤسسات الدينية والرديفة لها تقوم اليوم بهذا الدور التعبوي  للجماهير، سواء كانت تلك المؤسسات تستوعب كامل الجمهور الخليجي، أو شرائح منه. فسكان المدن والوافدون اليها، والطلبة والعمال وموظفو الدولة هم ممن يقع تحت تأثير تلك المؤسسات الدينية، وهي الأقدر على إقحامهم في الفعل السياسي عبر الحشد الجماهيري عاطفياً. ولا تكمن قوة هذه المؤسسات الدينية في برنامجها بقدر ما يكمن في قدراتها الهائلة على الحشد الجماهيري الذي تخلّت عنه حكومات الخليج، لأن بعضها على الأقل يعتبره مؤشر خطر، ويتطلب إيجاد أيديولوجيا وطنية ومفاهيم جديدة تُبنى عليها شرعية الدولة ونخبها الحاكمة. ومن شبه المؤكد أن التنمية السياسية إن لم يتم تبنيها من صانع القرار السياسي الخليجي، فإن الجمهور سيتبناها وقد لا يجد بوابة أخرى أسهل من البوابة الدينية ليعبّر عن ذاته من خلالها.

 4 ـ رافقت عملية التنمية ثورة في الإتصالات، والإعلام الجماهيري، وقد استفادت دول الخليج من ذلك في عملية التأطير الذهني والثقافي لمواطنيها، وكانت الى وقت قريب قادرة على التحكّم بما يسمع وما يشاهد، الأمر الذي أضاف اليها قوّة غير عادية. لكن ثورة الإتصالات والمواصلات والإعلام، بدأت منذ عقد تميل الى غير صالح التوجّهات السياسية والثقافية الحكومية، وما عادت أجهزة الرقابة قادرة على تغذية الشارع بثقافة وتوجهات الحكومات الأحادية ومنع غيرها الاتي من الخارج من مواجهة التأطير للعقل الجماهيري. لقد دفعت أجهزة الإتصال بجموع كبيرة نحو الإهتمام بالسياسة قسراً، سواء من خلال المقارنة بالآخر من خلال الإتصال المباشر عبر السفر، أو عبر التواصل الإعلامي والفضائيات والإنترنت. وهذا ما جعل الشعوب الخليجية أقدر على تشكيل صورة واضحة للوضع السياسي الداخلي، واعتبر مسؤولو الإعلام المحلي الأمر مجرد غزو ثقافي من الخارج لا يستطيعون مواجهته بالرقابة أو بتقديم بديل منافس أو قادر على المنافسة. معنى هذا، أن التبريرات الثقافية والتأطير الذهني في ميدان السياسة لم تعد ممكنة، وأن المرتكزات التي تقوم عليها شرعنة العمل والممارسات السياسية القائمة قابلة للجدل والطعن.

مخاوف وتحفظات

 بيد أن هناك مبررات أو تحفظات أو حتى مجرد ذرائع فيما يتعلّق بفصل التنمية السياسية عن المجرى العام للتنمية الشاملة، فالتنمية السياسية ـ بنظر بعض الباحثين والسياسيين ـ تؤدي الى خلخلة وحدة الدولة والى ظهور العنف المحلّي بالرغم من حقيقة أن العنف المحلي مجرد ناتج لغياب التنمية السياسية وليس لوجودها، وتجربة البحرين الحاضرة تشير الى ذلك بوضوح. هناك في دول الخليج من يعتقد أن النزعات القبلية ـ بالشكل الذي شهدناه في الكويت ـ وكذلك احتمالات التصويت على أسس طائفية كما هو موجود الى حد ما في الكويت والأكثر احتمالاً في الوقوع في البحرين مستقبلاً، يبرران عدم الإقدام على الإصلاح السياسي وإشراك الجمهور في صناعة القرار. ويستشهد بهذا لإثبات أن الجمهور الخليجي غير مهيّأ وغير ناضج سياسياً. وينقل المرحوم جلال كشك، أن حاكم دولة خليجية راحل وبّخ مثقفاً اقترح إجراء انتخابات وأشار اليه بأنه لن ينجح فيها لو حدثت بل رؤساء القبائل والتجار والمشايخ.

ومع أن التصويت على أسس أثنية أو قبلية أو مناطقية أو دينية أو عرقية أمرٌ مشهود في كل ديمقراطيات العالم ولا يحتاج الى إثبات كما أنه ليس مدعاة للإحتجاج، يضاف الى أنه لا يعني بالضرورة تهديد وحدة الدولة وتهديد سيادتها. نعم، في عدد من الدول في العالم فإن العملية الإنتخابية وبسبب تعددية المجتمع وانقسامه الداخلي، لم تكن كافية (وليس لم تكن صالحة وجرى التنكّر لها) فأضيف اليها عمود آخر يسندها، ويرقع حالة الإنقسام فيها، وهي حصحصة الحكم بين الفئات السكانية حسب انتماءاتها العرقية واللغوية وفق عددها، ضمن عملية سُمّيت بـ (الديمقراطية الإجماعية) إن صحّت الترجمة (consociationalism) بالشكل الموجود في بلجيكا وسويسرا وماليزيا ولبنان. ما يهدد وحدة الدولة هو غياب المشروع السياسي الحافظ لوحدتها، ومركزية الدولة الشديدة، واستئثار الجهوية بالحكم على قاعدة الإنتماءات غير الوطنية. نعم، ربما تؤدي العملية الديمقراطية الى تعزيز تلك الإنتماءات في بداية التجربة، وقد تستمر معها، ولكن الذي يبقى هو الهوية الوطنية والإجماع الوطني، والإنتماء الكبير. بمعنى ان دولة ما قد تكون مهددة بالإنقسام، إذا لم تستطع خلق هوية وطنية وإجماعاً وثوابت وطنية في السياسة والإقتصاد والثقافة، وتأتي الديكتاورية لا لحلّ مشكل التعدد، بل لإلغائه على السطح، دون الوصول الى عمقه ومصدره، فإذا ما خفّت وطأة القمع انتشرت المطالب الإنفصالية كالفطر على السطح وحينها تكون الديمقراطية غير جاذبة فضلاً عن أن تشكل حلاً لمحنة الدولة نفسها.

ومع أن دول الخليج ليست معنية بالموضوع آنف الذكر، اللهم إلا في المملكة، بسبب طبيعة نشأتها الإمبراطورية، وضعف الهوية الوطنية بداخلها مقابل الإنتماءات القبلية والمناطقية والطائفية، إلاّ أنها في المجمل لا تستطيع ان تبرر العزوف عن الإصلاح السياسي بحجّة الخوف على الأمن وعلى الوحدة الوطنية. فالتنمية السياسية المتوازية مع الدمج الوطني والنمو الإقتصادي كفيلان بإبعاد المخاطر التي تأتي بها عملية التحديث فيما يتعلق بتعميق الإنقسامات الداخلية وتأكيد الهويات الفرعية.

لكن ما يخفى وراء هذه التبريرات أمرٌ أخطر. فالتنمية السياسية تعمّق شعور المواطنة، وتأتي بالمساواة السياسية، وتقضي ـ وهذا مهم ـ على مصالح فصيلية وجهوية تستأثر بالحكم ومنافعه. لا نشير هنا الى العائلات الحاكمة بقدر ما نشير الى طبقة مستأثرة معرّفة الإنتماء الديني والمناطقي تستحوذ على جهاز السلطة الديني والسياسي والإقتصادي والعسكري وتعتبره حقاً لا يمكن التفريط فيه. وهذه الطبقة رغم مواصفاتها اللبرالية والعلمانية من الناحية النظرية فهي نخب طائفية على الصعيد العملي، وهي تميل الى الإقصاء على قاعدة الإختلاف الديني والثقافي والمناطقي وربما القبلي، وفرض الهوية الخاصة بها على غيرها. وهي بهذا ترفض الإصلاح السياسي الذي يؤدي الى إشراك آخرين وتقليص ما في اليد من منافع. وهي هنا تختلف من حيث الدوافع عن العوائل الحاكمة في تخوفها من التحول الديمقراطي، وعن المؤسسات الدينية التقليدية التي تحاول شرعنة الوضع القائم ورفض الآتي باعتبار أن لا "ديمقراطية" في المفهوم الإسلامي، وكأن الديكتاتورية القائمة لها ما يعضدها من نصوص في الشرع!

يقال وهو صحيح الى حد بعيد أن سبب غياب التنمية السياسية أو ضعفها في دول الخليج، يعود في جذره الأهم الى أن الضغط الآتي من القاعدة الشعبية ضئيل، إما لافتقاد مبرراته عند البعض، أو لشعور طاغ بالخوف من السلطات، أو لغياب أو ضعف في الثقافة السياسية الصحيحة التي لا تفصل بين المواطنة الحقيقية والمشاركة السياسية، وسيادة رأي يميل الى الأخذ بنخبوية ممارسة السياسة، وشرعية حكم الغلبة. ولهذا السبب وغيره، بقيت دعوات الإصلاح محصورة في قطاع صغير من النخب الخليجية، وهي في أكثرها كانت عرضة للقمع (المعتدل!) بالقياس الى ما يجري في دول أخرى، فالإعتقالات قصيرة الأجل والمنفى كانا السمة الغالبة في بلدان الخليج، وربما كان العقاب الأكبر يتمحور في جوانبه الإقتصادية أكثر من غيرها، وقليل من النخب ـ ورغم توافر الفرص لديها ـ طوّعت متطلباتها المعيشية خارج إطار الجهاز الحكومي.

هناك رأي آخر يتحفظ على التنمية السياسية بأنها تفسح المجال والفرصة لظهور العنف المحلّي، فالإختلافات بين الجماعات الدينية والسياسية والفكرية ستطفو على السطح وربما تفضي الى صراع علني حاد بين هذه الجماعات، الأمر الذي يعزز الإنقسام الداخلي بدل أن يلحمه، وقد يدفع بعضها الى الإحتكام للسلاح لتعويض خسارتها في الشارع، خاصة إذا ما كانت هذه الجهات مسيطرة عليه في غياب المنافس في فترة ما قبل التحول السياسي، إما لأنه كان مقموعاً، فظهر بقوة على السطح في ظروف الإنفتاح، أو لأن منافسته كانت قويّة بالشكل الذي تجعل اللعبة السياسية غير مغرية للخاسرين. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن على الدولة تنظيم العملية السياسية فيما اذا اضطرت اليها بالشكل الذي يوازن بين القوى على أسس مختلفة، أي توزيع الحصص على اللاعبين بغض النظر عن قواهم الحقيقية في الشارع، وإنما على أساس قدرة هذه الفئة أو تلك على تهديد العملية السياسية. بمعنى أن الدولة في مبتدأ العملية التنموية السياسية ـ حسب أصحاب هذا الرأي ـ تتحرك كمنظم وموزع للحصص ريثما يرشد اللاعبون السياسيون وتأمن البلاد عواقب عنف الخاسرين. أما الرأي الأكثر تشدداً، فيرى أن الدولة لا يجب أن تفتح باب التنمية السياسية من أساسه، وتحتكر العمل السياسي في يد فئة منسجمة وتوصد الأبواب أمام دعاة التغيير.

من المدهش حقاً، أن الحديث عن العنف يربط دائماً بضعف قنوات التعبير السياسي وغيابها وليس بوجودها، ومن السخرية حقاً أن ينظر الى عملية الإصلاح السياسي كبوابة لإدخال العنف وتمزيق الوحدة الداخلية. وهنا يجب أن نفرّق بين مرحلتين، مرحلة ما قبل الولوج في عملية الإصلاح السياسي، والمرحلة الإنتقالية المباشرة بعد الولوج. المرحلة الأولى هي في معظم الأحوال غير مستقرة. العلاقة بين الحاكم والمحكوم غير مستقرة وغير محددة المعالم، والعلاقة بين الفئات الإجتماعية المختلفة والتيارات الفكرية حادّة وغير تصالحية، كما أن الأوضاع الأمنية الفردية والجماعية مهددة والحريات العامّة ضائعة، والطموحات الشعبية في الإصلاح يمكن قراءتها أو استقراؤها بوسائل مختلفة، ويضاف الى ذلك هناك في الغالب أزمة شرعية للطبقة الحاكمة، وفساد إداري، وانكماش او تراجع اقتصادي وتذمّر عام يسود كل القطاعات بما فيها قطاع العاملين في جهاز الدولة، وكل هذه مناخات تضغط باتجاه الإصلاح. في بعض الأحيان تتطور الأمور الى عنف ومواجهة شعبية مباشرة مع نظام الحكم، كما كان في البحرين قبل الإصلاحات الأخيرة، وفي بعض الأحيان يعبّر العنف عن نفسه في صورة انفرادية على النحو الذي رأيناه في السعودية: اختطاف طائرات، تمرد في السجون، محاولات يائسة للتظاهر تقمع، تجمعات تتحول الى شغب وقتلى، تفجيرات تستهدف أفراداً ومؤسسات، وانفلات في الشارع يعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة كاعتداء على المارة، وإغلاق للشوارع، في ظل تراجع مهيب لهيبة الدولة. على أن هناك فرصاً سهلة للتخلص من الأزمة، فاستشعارها ليس مسألة صعبة، وحتى قياسها يمكن الوصول اليه بنحو أو بآخر حتى مع غياب وسائل قياس الرأي العام المتعارف عليها في البلدان الحرّة. بعض الأنظمة تلتقط الإشارات الشعبية بسرعة، وتغيّر اتجاهاتها السياسية المحليّة في أول بوادر عنف محلّي، أي لا تخدع نفسها كثيراً حول من يقف وراءه بل تذهب الى مسبباته وحلوله وفي مقدمة الحلول السياسية إحداث تطور في وسائل المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي. حدث هذا في الأردن على وجه الخصوص، وانتظرت البحرين سنوات طويلة حتى اقتنعت أن العنف وغضبة الشارع لن تهدأ، وحين قررت طريق الإصلاح، لم تخسر شيئاً كثيراً، ورممت علاقتها بجمهورها ونخبه بشكل مثالي.

لم تسفر التجارب الخليجية والعربية مجملاً عن انفجار العنف وتمزيق للوحدة الوطنية بمجرد أن ولجت باب الإصلاح السياسي. صحيح ان محاولات الدمقرطة السياسية في بداياتها بحاجة الى تأمل وحرص عليها من قبل اللاعبين السياسيين، من أجل إنجاح التجربة في بداياتها، والتعود على ممارستها، وإضعاف دعاة التشدد من قبل الحرس القديم الذي يقف بالمرصاد أمام التحول الجديد. هذه المرحلة الإنتقالية خطيرة لذات السبب، فتجربة الجزائر والسودان لم تستكملا، وعادت الأمور الى سابق عهدهما. الأولى وصلت الى حرب أهلية بإلغاء الديمقراطية وعودة العسكر للهيمنة على الحياة السياسية، والثانية أدّى الإنفلات الأمني فيها والمترافق مع الخسائر العسكرية الحكومية أمام جيش غارانغ الى التنكر للديمقراطية والإنقلاب عليها. وحتى الآن، فيما يتعلق بالبحرين والكويت كنموذجين حيين، لا نرى في التحولات السياسية الديمقراطية إلاّ تقوية للنظام السياسي، وتعزيزاً للحمة الإجتماعية الداخلية، وبعداً عن العنف الإجتماعي. رأينا كيف تحولت شعارات المتظاهرين في شوارع البحرين  من النقيض الى النقيض، أي من شعارات مناهضة للحكومة الى مؤيدة لها. ولهذا كله، فإن التنمية السياسية حلّ للعنف القائم أو المتوقع، وليست مصدراً له.

مقاربات ومقارنات

 تتفاوت دول الخليج في مقدار الخطوات الإصلاحية السياسية التي أقدمت عليها، كما تختلف المقاربات فيما يتعلق بكل دولة تقريباً. تشذّ الكويت عن بقية دول الخليج في كونها أول بلد خليجي اعتمد دستوراً دائماً للبلاد، ووسّع المشاركة الشعبية في الحكم عبر الإنتخابات، وأكثر بلد خليجي أفسح المجال لحرية التعبير وتشكيل التجمعات والنقابات وأخيراً الأحزاب. ويصل عمر التجربة الكويتية الى أربع عقود من الزمن، أي منذ السنوات الأولى للإستقلال. فتجربتها السياسية التي تعد أنضج تجربة خليجية حتى الآن، لم تكن فيما يبدو نتاجاً طبيعياً للتنمية الأقتصادية والإجتماعية، ومن غير الواضح إن كانت تلك التنمية ودور الدولة الريعية قد دعّما أو أعاقا تطوّر التجربة السياسية الكويتية. الأمر الثابت هو أن عمر التجربة الكويتية قد عزّز استقرار البلاد الداخلي، وضمن بقاء العائلة الحاكمة بسلطات غير قليلة، وأن هذه التجربة كانت نتيجة طبيعية لنشأة الدولة الكويتية وتشكلها الحديث والتفاهمات التي كانت قائمة بين العوائل القاطنة فيها، ومن ثمّ إصرار القوى الإجتماعية والسياسية على الإحتفاظ بحقّها في المشاركة في الحكم، رغم التحديات الشديدة الخارجية والداخلية التي عطّلت استمرارية مجلس الأمة لفترات محدودة خلال عقدي السبعينات والثمانينات.

أيضاً نلاحظ أن المملكة العربية السعودية هي أقلّ دولة خاضت ميدان التنمية السياسية بين دول الخليج والجزيرة العربية عموماً، أيضاً بسبب طبيعة نشأتها الحديثة ووسائل شرعنتها وشرعنة الحكومة القائمة فيها. ولاتزال الحكومة قادرة بما توفّرت لها من وسائل إقتصادية وأمنيّة، على مقاومة ضغوط التغيير، ولكنها فشلت فيما يبدو في إقناع مواطنيها بأهمية التغييرات التي أحدثتها قبل نحو سبع سنوات (مجلس شورى معيّن، ونظام أساسي، ونظام المناطق) فكل هذه الإجراءات لا ينظر إليها من قبل المواطنين على أنها تشكّل الحدّ الأدنى المطلوب للإصلاح. ويبدو في تجربة المملكة أن التنمية الإقتصادية والإجتماعية هي المحرك باتجاه التنمية السياسية وإن لم ترغب السلطات بذلك. وهذه التنمية تتقاطع مع الرأي القائل  بأولوية الثقافة السياسية وتوافرها كشرط أساسي للتنمية السياسية، فالواضح اليوم أن هناك تحوّلاً كبيراً في توجهات المواطنين السياسية، في مسائل مثل: شرعية الحكم والإنتخاب، والمواطنة وحقوقها، وحرية التعبير وضرورتها، وقد كان للتنمية الإقتصادية والإجتماعية دورٌ رئيسي في تغييرها وتبدّلها.

على الأرجح فإن الإختناق السياسي الداخلي سيعبّر عن نفسه بصورة أوضح في الفترة القادمة بوسائل سلمية وعنفيّة، وستجد الحكومة السعودية نفسها ملزمة بإحداث تغيير (غير شكلي) ولو كان من أجل تخفيف الإحتقان الداخلي، وإلاّ فإنها ستواجه فترة عصيبة لم تشهدها المملكة من قبل. إن الضغط الداخلي، والخوف من تصاعد العنف، وتصاعد الأزمة الإقتصادية خاصة في المرحلة القادمة حيث شهدت أسعار النفط هبوطاً حاداً، متزامناً مع الضغوط الخارجية التي تواجهها الحكومة حالياً من قبل الولايات المتحدة لنزع فتائل العنف، ستكون على الأرجح أهم العوامل الضاغطة وراء أي تغيير سياسي قادم. وكما قادت حرب تحرير الكويت الى فتح جزئي لنافذة التغيير النظامي (القانوني) في المجال السياسي، فإنها قد تقود على الأرجح هذه المرة الى تغيير أكثر جذرية وإن كان لا يحتمل أن يلبي (كل) المطالب الشعبية على النحو الذي رأيناه في البحرين.

في عمان كما في الإمارات وقطر، حيث الضغوط الداخلية ضعيفة واحتمالات العنف الشديد غير محتملة، والأزمة الإقتصادية لا أثر سلبي واضح لها، فإنه ينظر الى التنمية السياسية كما لو كانت آتية من الأعلى إما لزيادة استرخاء السلطات السياسية فيها، أو لتحسين صورتها في الخارج، أو هي محاولة استباقية لتفادي ما يحدث لأنظمة الجوار من اضطراب نتيجة اختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لكن هذه الدول نفسها ومهما تأخّر الإلحاح الداخلي في التعبير السياسي عن ذاته، فإنها تدرك أن بقاء الحال من المحال، وأنها خلال العقود الأخيرة صنعت القاعدة التي ينطلق منها التغيير السياسي، وما عليها إلا أن تكيّف نفسها مع متطلباته بدل مواجهته.