لا بديل عن الإصلاح السياسي والإقتصادي لتفادي آثاره الهائلة

أشكال العنف المتوقعة في المملكة

 

خلال العقدين الماضيين تقريباً، شهدت المملكة عدّة أشكال من وسائل الإحتجاج المسموح وغير المسموح بها. المسموح به معلوم، ويتلخص في (الشكوى والإعتراض) الفردي في الغالب، الى المسؤولين عبر اللقاء المباشر إن أمكن، أو عبر الرسائل والبرقيات. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية تذمّراً رسمياً يصل الى حد المنع من إرسال الرسائل الجماعية، أو بعث الوفود التمثيلية لملاقاة المسؤولين. فالتوجّه السائد هو التعاطي مع المشاكل الشخصية، وعبر إمارات المناطق وليس المركز. وهناك كما يبدو تشديد كبير يصل الى حد التهديد بالإعتقال في حال قام وفد من منطقة ما وسافر الى الرياض دون علم (وموافقة) من أمير المنطقة، ففي الغالب يستدعى أعضاء الوفد ويحذّرون. فالمشاكل العامّة أو الشأن العام، من وجهة نظر بعض المسؤولين على الأقل، لا حق لأحد التعاطي معها غير الجهات الرسمية، التي تحرص أن لا يتشكّل همّ جمعي حول أي موضوع. من محاسن الصدف، أنه فيما نظن، ولأول مرّة في تاريخ المملكة الحديث ينشأ حسّ جمعي تجاه مشاكل محددة، يعاني منها الجميع دون استثناء، ونقصد بذلك الآثار السلبية المترتبة على الأزمة الإقتصادية والتي وصلت الى كل الشرائح الإجتماعية وكل المناطق.

أما غير المسموح به فاتخذ أشكالاً متعددة، أولها ما جرى في نوفمبر 1979، من (عصيان مسلّح) في مكّة قام به جهيمان العتيبي في الحادثة المعروفة والمشهورة. وفي نفس الوقت حدث (عصيان سلمي) عارم (مظاهرات وإضراب عن العمل) في المنطقة الشرقية، ترافق مع قدرٍ غير قليل من الشغب، حيث أُحرقت بعض السيارات والمرافق وسقط العشرات من الضحاياً (قتلاً وجرحاً).

في بداية التسعينات ظهر نوع جديد من وسائل الإحتجاج، عبر العرائض الشعبية، والتي لم تكن جديدة في حدّ ذاتها فقد استخدمت على مدى عقود متواصلة من قبل المواطنين الشيعة، لكن ما ميّز هذه أنها حوت مطالب سياسية واضحة، وقد ترافق معها قيام بعض التجمعات في المساجد وخارجها، ومع تطوّر الأمور حدث ما يشبه التظاهر السياسي في بريدة، كما وقعت حوادث عنف تجاه بعض المعذّبين في السجون. في نفس الفترة لا ننسى مظاهرة النساء وهنّ يقدن سياراتهن.

في النصف الثاني من التسعينات وقعت أعمالاً عنفية منظمّة: تفجيرات. أهمها إثنان: انفجار العليا في 1995 وانفجار الخبر في 1996. ثم جاءت تفجيرات في الأسواق العامة، وتلتها محاولات اغتيال لأجانب غربيين في الرياض والخبر. وعلى الصعيد المحلّي حدث نوعان من الإحتجاج: أولهما انفجار الوضع في نجران، ومحاصرة أميرها، واندفاع جماهير من المدينة بأسلحتهم لمواجهة القوات الحكومية. والثاني قيام تمرّد في أحد سجون تبوك، وهذه أول حادثة تقع في تاريخ المملكة الحديث على حد علمنا. أضف الى هذا بضع حوادث شغب، تقع أثناء التجمّع من أجل التقدّم لوظائف حكومية. حدث هذا في الرياض ومات بعضهم، وحدث في الدمام الأمر الذي استدعى إرسال فرق الأمن.

أمّا الطلبة في الجامعات، فقد تظاهروا داخل حرم جامعة الرياض عام 1994 وقاموا بأعمال شغب احتجاجاً على قرارات صادرة من مسؤولي الجامعة، وتشير الأنباء الى أن كثيراً من ممتلكات الجامعة تتعرض للتخريب المتعمّد كوسيلة من وسائل الإحتجاج. وأخيراً وليس آخراً، حادثة اختطاف الطائرة السعودية الى العراق من قبل شابين كانا يعملان في جهاز الأمن السعودي نفسه، تلتها محاولات تظاهر في عدد من مدن المملكة في الأسابيع الأولى لاندلاع الإنتفاضة الفلسطينية، ثم تكررت بصورة حادّة خاصة في مدن المنطقة الشرقية حيث تمت مواجهتها بخراطيم المياه والهراوات وإطلاق الرصاص المطاطي إضافة الى الإعتقالات.

ما يمكن استنتاجه من هذه اللمحة السريعة، هي ان البلاد معرّضة لكل أنواع العنف بدون استثناء، خاصة مع الأخذ بعين الإعتبار توافر السلاح بكميات هائلة، بعضه كان من آثار حرب تحرير الكويت، وكثير منه اليوم من مخازن الجيش والحرس الوطني. النتيجة الثانية أن هذه الأحداث أخذت صفة الإستمرارية، أي أنها حالة شبه مستوطنة، وأن جذور العنف والإحباط والسخط لاتزال مستقرّة في جذورها في الداخل وليس الخارج السعودي.

إن محاولة استقراء المستقبل لتحديد أشكال العنف السياسي والإجتماعي المتوقعة تستلزم استقراء ثلاث دعائم: أولها: سياسات الحكومة المتعلقة بالإصلاح الإجتماعي والسياسي والإقتصادي ومقدار نجاحها في توفير الظروف الملائمة والبيئة المناسبة للسلم المجتمعي الداخلي. فحجم العنف ونوعه يعتمدان على مقدار النجاح المتوفر في إزالة جذور المشكلة التي استعرضناها في صفحات سابقة. وثانيها: في طبيعة الردّ الأمني، سواء استخدم كعنصر مساعد في الحلّ، أو كعنصر وحيد له. ذلك أن طبيعة الردّ الأمني تفرز نوعاً مختلفاً من العنف من حيث الإستجابة له. وثالثاً: طبيعة المجتمع السعودي المختلفة في الثقافة والمذهب والقبيلة والمنطقة، فالقوى الإجتماعية المختلفة تفرز أنواعاً مختلفة من العنف، حسب خصوصياتها، وحسب نوعية وحجم التحديات التي تواجهها.

فيما يتعلق بالدعامتين الأوليتين، تبدو السياسات المتّبعة أكثر ميلاً للحلول الأمنية، مع محاولة بدائية لتلمّس المشاكل الإقتصادية بنحو خاص. غير ان الحلول المتّبعة في المملكة في غالب الأحيان، تميل الى (منهج المسكّنات) أي الحلول السطحية المؤقّتة، ربما نظراً لكلفة الحلول الجذرية، أو عدم القدرة الفعليّة ضمن الحسابات داخل دائرة الحكم على حسمها. كل ما هو موجود من مشاكل وقضايا لم توضع له حلول جذريّة وخطط للحل تستلزم سنوات قادمة. يجري في العادة ترحيل المشاكل الى (المستقبل) بمجرد أن تهدأ على السطح بفعل (المسكّنات) فإذا ما انتهى مفعول المسكّن، أضيف إليه (مسكّن) جديد، حتى أن بعض القضايا مضت عليها عقود عديدة ولا نقول سنوات قليلة. من بين المسكّنات مثلاً، مجلس الشورى نفسه، والنظام الأساسي ونظام المقاطعات، والإعلان عن عزم الحكومة تشكيل لجنة (حقوق الإنسان). ورغم أن المرء لا يسعه إلا أن ينظر بإيجابية الى هذه الأمور، إلاّ أن الغرض من إعلانها لم يكن البحث عن حلّ لمشكلة أو حتى الإعتراف بوجودها، وإنما إخراس الألسن: فهاهو أمامكم مجلس ودستور ولجنة حقوق الإنسان مثلما لدى كل الدول، الديمقراطية منها والمستبدّة. لكن هل تحلّ هذه المؤسسات أو الأطر مشكلاً حقيقياً؟ هذا أمرٌ مشكوك فيه، فقد أصبح المجلس كعدمه تقريباً، ومجالس المقاطعات لا دور لها على الإطلاق، والدستور لا يستفاد منه إلا بالإشارة اليه في الأوامر الملكية، وهكذا.

 

عنف السلطة ورد الفعل

 

أمّا الإعتماد على الجانب الأمني وحدود استخدامه فهي مفتوحة الى أقصى حدّ، وقد برهنت ردود الفعل الحكومية على الأحداث التي أشرنا اليها آنفاً على ذلك. فأحداث مكّة العنيفة، ووجهت بعنف أكبر (دبابات وطائرات) وغيرها. وإذا أُمكن تبرير في مواجهة العصيان المسلّح لجهيمان وجماعته، فكيف يتم تبرير استخدام ذات القدر أو أكثر منه في مواجهة العصيان السلمي في المنطقة الشرقية، الذي لا يعدو مظاهرات وبعض الشغب. كيف يمكن تبرير استخدام كل أصناف القوى البرية والبحرية والجوية إضافة الى الحرس الوطني للسيطرة على الأوضاع؟ الأمر الذي أفضى الى قتل أبرياء برصاص الطائرات داخل منازلهم أو في طريقهم لأعمالهم. والى هذا اليوم لم يعتذر لأهالي الضحايا ولم يعوضوا مادياً. في أحداث نجران الأخيرة، أُنزلت الدبابات والمصفّحات الى الشوارع للسيطرة على الوضع، وبقيت هناك مدّة من الزمن. في انفجاري الخبر والعليا، تمّ اعتقال المئات في كل المناطق ومن مختلف الشرائح. وقد وجدت أجهزة الأمن فرصتها لتصفية حساباتها ضد التيارات الفكرية والسياسية دون أن تقبض ـ فيما يتعلق بانفجار الخبر ـ على الفاعل الرئيسي حتى هذه اللحظة رغم مرور سنوات عديدة ووجود مئات المعتقلين في السجون، الذين لم يحاكموا فيدانوا أو يطلق سراحهم إن كانوا أبرياء. كما لم تسمح هيبة أجهزة الأمن المتعمد إثباتها في الإعتراف بالفشل في القبض على الفاعلين، لأنه كما أُعلن (لا يوجد لدينا حوادث تسجّل ضد مجهول).

إذا كان الخروج في مظاهرة يكلّف المرء حياته، فإنه يتردّد في الخروج، لأن الثمن الذي يدفعه غالياً، ومع هذا وجد من بين الجيل الشاب المتحفّز من فعلها مراراً بسبب تصاعد الإنتفاضة في فلسطين.. ومع ذلك قد يقود عدم التظاهر للتنفيس المحبطين الى التفكير في العنف الدموي وهم يدركون أن الثمن المدفوع مقابل الهدف يستحق من وجهة نظرهم المغامرة.

وملخص القول، إن العنف الزائد وغير المبرر قبال الإحتجاجات السلمية ذات المضامين السياسية كالمظاهرات، قادرٌ كما هو واضح وثابت بالتجربة في المنطقة الشرقية على إخمادها لفترة تطول وتقصر حسب قسوتها، ولكن هذا العنف الرسمي يجعل خيار الإحتجاج العنفي أكثر جاذبية وبنفس الثمن (القتل والإعدام من قبل الحكومة). وهنا نشير الى انفجارات المنشآت النفطية والى المصادمات بالسلاح والتي تلتها حالات الإعدام العلني للمعارضين. إذا لم تتساو العقوبة مع الجريمة (أياً كان تعريفها حكومياً) وإذا تساوت العقوبة مع عدد مختلف من الجرائم من حيث النوع والتأثير، فإن أعنفها سيكون أكثر جاذبية ومنطقية.

لماذا يعتقل المرء لبضع سنوات بسبب انتقاد الحكومة العلني، في حين أن بإمكانه الإحتجاج بوسائل أخرى أكثر حدّة ويقضي نفس الفترة؟ إذا تساوت جريمة الكتابة الناقدة في جريدة أو مجلة خارجية من اعتقال وتعذيب ومنع من السفر لسنوات طوال، مع إدخال كتاب ديني أو فكري غير مرخص له، فأيهما يختار المرء؟ بل يمكن القول أكثر من ذلك، إذا تساوت كلفة إصلاح النظام ببطء وتدرّج وفق قاعدة (لا يهلك الذئب ولا تفنى الغنم!) مع إسقاطه بالعنف فأيهما يكون الإختيار الأفضل؟ نقول هذا وأمامنا تجربة المعارضة في المملكة منذ سقوط الحجاز عام 1926 ونشأة الحزب الوطني الحجازي، مروراً بالإخوان أواخر العشرينات، وتمرد قبائل بلي في الحجاز في الثلاثينات وحركات المعارضة الوطنية والقومية في الخمسينات والستينات، الى محاولات الإنقلاب العسكري المتكررة في الستينات والسبعينات، وانتهاءً بالإسلاميين في السبعينات وحتى الوقت الحاضر، فإنها جميعاً (باستثناء الحركة الإصلاحية الشيعية في سنواتها الأخيرة من منتصف الثمانينات وحتى 1993 حين حلّت نفسها) لم تطرح هدفاً إصلاحياً ديمقراطياً، وكان البرنامج الوحيد اليها، إنفصالياً أو/و تغييراً عنفياً، وليس هناك من تفسير منطقي وراء هذا كله إلا ما كان يدور بخلد القائمين على تلك الأعمال أن ثمن (الإصلاح) كان يساوي ثمن (الإقتلاع). لهذا السبب وغيره لا توجد في المملكة توجهات إصلاحية متبلورة لدى النخب، التي كثيراً ما يتعجب نظراؤها في دول الخليج والعالم العربي عموماً من (جبنها) وقلّة مبادرتها، لأنّ الجريمة السياسية غير معرّفة العقاب، وتحتمل كل شيء. ولو عُلم مثلاً أن جريمة التظاهر محددة ببضع سنوات سجن، وأن جريمة إقامة حزب سياسي معرّفة العقاب، لوجد الإستعداد لدى الكثيرين للقيام بعمل سياسي سلمي ما وهم يدركون مسبقاً حدود الثمن الذي ينبغي عليهم دفعه. في غير هذه الحالة، فإن الموجود على السطح على الأكثر هو لحركات العنف ولا توجد محطّات سابقة له، من تشكّل سياسي ونقابي وتجمّع وتظاهر وإضراب ونشر وما إلى ذلك.

أما طبيعة المجتمع وتأثيرها على نوعية العنف الحكومي والعنف المضاد، فيمكن القول بأن أجهزة الأمن لا تتعاطى بسواسية تجاه الجرائم السياسية فانتماءات الفاعل الشخص أو المجموعة المذهبية والمناطقية والقبلية تؤخذ بعين الإعتبار دائماً. ومن الطريف والمؤلم في آن، أن السلطات اعتقلت خلايا (يسارية) عديدة، فكان نصيب القيادي النجدي في الحزب سنين أقلّ سجناً، من العضو العادي الشرقاوي الشيعي. إن جريمة التظاهر في المناطق الشيعية أعلى كلفة منها في نجد وربما في الحجاز، ففي الأولى تكون الإستجابة بمدافع الرشاش، وإذا تطوّر الأمر وتواصل، يأتي التهديد بالقصف بمدافع الميدان، كما حدث بالفعل. أما في الحالات الأخرى، فمن المحتمل أن لا تكون أكثر من الإعتقالات، كما في بريدة مثلاً. ولو أن الذي حدث خلال النصف الأول من التسعينات في نجد، تكرّر في المنطقة الشرقية بين ظهراني المواطنين الشيعة لكان التعاطي معه بقسوة أكبر. نقول هذا لا لاستعداء الحكومة على أحد، ولكن لمجرد التمييز في طريقة التعاطي الحكومي الأمني، فيما يتعلق بمسمى الجرائم السياسية أو العنف السياسي.

أما الجمهور، فقد يستثار في منطقة لقضية قد لا تحرّك ساكناً في منطقة أخرى. وقد وجد وفي كل مناطق المملكة رغم اختلاف مذاهبها، أن مواضيع (الهوية الخاصة) وبالذات الدينية منها تلقى استجابة فوريّة وتحدياً وربما عنفاً مباشراً. لعلّ ما حدث في نجران مراراً وتكراراً مثال واضح. والأمر كذلك بالنسبة للمواطنين في الشرقية، فما من شيء يثير السكان أكثر من المساس بمعتقداتهم الدينية، سواء كانت هذه المعتقدات مما يتحمل النقد أم لا، فقد أضحت جزءً من الهوية الخاصة التي يتعصّب لها ويجري التمييز الرسمي ضدهم على أساسها. وإذا ما قـُرأت (مذكرة النصيحة) قراءة (سلفية مناطقية) فسنجد أن ما جاء فيها لا يخرج عن إطار الموضوع الخاص، ولا يعني بالضرورة مناطق المملكة المختلفة. إن حدّة الإثارة، وتراكمها، وطبيعة شخصية المواطن في كل منطقة، لها دور في تحديد شكل العنف المتوقع منها. وفي كثير من الأحيان يبدو أن الأجهزة الحكومية، وبالنظر لخلفيتها الثقافية المناطقية، تستطيع إدراك الحسّاس من الأمور فيما يرتبط بنجد، ولكنها ولذات السبب غير قادرة على فعل الأمر نفسه في المناطق الأخرى، فهي تجرح وتدمي المواطنين، ولكنها في نفس الوقت لا تشعر بما تفعل، ولا تتفهم كيف أن عملاً صغيراً وربما تافهاً بنظرها يسبب مشكلة كبير الحجم غير متوقعة. وهناك من يضيف بأن تلك الأجهزة لا تتعلّم أيضاً، فما حدث في نجران لم يكن الأول ولا الثاني وربما لا يكون الأخير، فالأسباب واحدة، ومواطن الإثارة واحدة، والنتائج العنفية المتوقعة هي ذاتها مع فوارق في درجات الحدّة.

في ظل غياب القنوات السياسية والنقابية والثقافية التي تستوعب التحولات الإجتماعية وفي ظل تجريم التجمعات السياسية وكل وسائل الإحتجاج (السلمي) يمكن توقّـع التالي:

أولاً ـ تكاثر خلايا العنف صغيرة العدد، فتقوم بأعمال التفجير والإغتيال والإختطاف (مثال ذلك مختطفي الطائرة السعودية الى العراق). وربما يكون القائمون على انفجاري الخبر والعليا من هذا النوع. شباب محبطون، يقررون عمل شيء يائس، خاصة إذا توافرت الأسلحة والمتفجرات شراءً أو سَهُلت إعداداً.

ثانياً ـ تكاثر أحداث الشغب أثناء التجمعات المقررة سلفاً (الرياضية مثلاً) او التلقائية كطوابير البحث عن عمل، فالمزاج العام يبدو وكأنّه يبحث عن أي متنفّس، وقد تستثيره أدنى الإحتكاكات. وقد يحدث الشغب كاحتجاج تلقائي، على زيادة الرسوم، أو انقطاع الكهرباء، أو زيادة أسعار المحروقات، أو أي أمرٍ عام آخر، فتكون كالقشة التي تقصم ظهر البعير. والمقصود بالشغب (الإضطرابات العنيفة التي يقوم بها حشد من الجمهور ينتابه شيء من الحيرة والقلق). وأودّ هنا التوقّف قليلاً عند هذا الموضوع لاستكناه أبعاده المحتملة.

أحداث الشغب، بخلاف الثورات، ظاهرة تقع في كل البلدان الديمقراطية والتسلّطية، أي أنها ظاهرة تتكرّر على الدوام ولا تختص ببلد دون آخر. وهي بالتالي لا تعبّر بالضرورة عن فشل في شرعية النظام السياسي، كما هي الثورات، إلاّ إذا تكرّرت في بلد ما بشكل مستمر؛ في مثل هذه الحالة فإن الشغب كما هو العنف الأهلي، يرتبط بالأنظمة القهرية فحسب. فالشغب يحدث في الأغلب في المجتمعات التي تعتمد على القمع في حفظ النظام العام(1) ويمكن فهمها على أرضية (الشرعية) إذ يؤدي انخفاضها الى المزيد من الشغب.

من حيث مقدار التنظيم، فإن الشغب يرتبط بالعفوية والتلقائية، ولا يرتبط في الغالب بجهة منظمة له، فلا توجد عادة قيادة واضحة لمنظمي الشغب، وفي كثير من الأحيان يقرر من في مقدمة التظاهرات مثلاً، أو أفراد في حشد الى اتخاذ قرار بالمواجهة مع قوى الشرطة والأمن. ومما لا شك فيه أن الجمهور المشارك في الشغب يتبعون عواطفهم وليس خياراتهم المنطقية، وهم في كثير من الأحيان ينتمون الى فئات أقلّ تعليماً وأكثر حرماناً، ويتمتعون بعنفوان شبابي. أيضاً فإن المشاركين في الشغب يتصرفون وفق أهدافهم الخاصة ولا يتمتعون بالإنضباط وغير متأثرين بعقائد سياسية(2). يقال دائماً، أن المتعلمين ينخرطون في أنشطة تآمرية (أي سريّة ومنظّمة) يدفعهم في ذلك الرغبة في السيطرة على القوة السياسية بشكل أساسي. أما المشاغبون ـ إن جاز التعبير ـ وخاصة المحرّضين فتحركهم نوازع محددة في المجالين الإقتصادي والإجتماعي(3). أي أن الشغب لا يستهدف عادة تغييرات جذرية بنيوية في السلطة السياسية والنظام الإقتصادي، بل يكون ردة فعل محدودة لقرار أو فعل حكومي محدد.

بيد أن الخطير في الشغب أنه قد يكون مجرد تمهيد لفعل أكبر، انتفاضة فثورة، ويقود تالياً لتغييرات جوهرية سياسية. هذا يعتمد بشكل أساس على طريقة استجابة النظام وقواه الأمنية له. لقد شهدت مصر مثلاً أحداث شغب متتالية في يناير 1952، أدّت الى خسائر فادحة، تطوّر معها الشغب ليخلق مناخاً ملائماً للإنقلاب العسكري في يوليو 1952. وحتى في العراق، فقد أدّى خنق التظاهرات ضد العدوان الثلاثي على مصر، والإحتجاجات ضد حلف بغداد، إضافة الى أسباب أخرى الى انقلاب 1958 ضد الملكية الهاشمية. حقاً، قد يكون الشغب مجرد بوابة صغيرة تفتح لتحدث تحولاً شاملاً. إنها تقدم إشارات التحذير للنظم السياسية بأنها في وضع خطر. فما يعتقد أنه هدف معتدل وغير سياسي للمشاغبين قد يتطوّر الى هدف جذري، وقد تتم قراءة الشغب بصورة خاطئة، فتتحول الأعداد القليلة من المشاركين الى جماهير متعاظمة. هكذا كانت شرارة الثورة في إيران، شتيمة صحافية للإمام الخميني تطورت فأشعلت ثورة، ومقاطعة خطاب لتشاوشيسكو قادت الى ثورة في رومانيا، وشرارات الثورة في أكثر الأماكن لا تعدو قضايا صغيرة كعداوة شخصية تحدث بعض الشغب فتستثمر وتتحول الى لهيب حارق وعصيان سياسي شامل، على النحو الذي شرحه أرسطو في كتابه (The Politics) والذي توجد له مصاديق عديدة في التاريخ المعاصر. هذا التطور من شغب الى ثورة لا يحدث في الدول الديمقراطية، بل في الدول التسلطية التي تعيش احتقانات مزمنة تبحث عن ثقب إبرة لتنفذ منها وتتوسّع.

من المحتمل جدّاً أن تستيقظ القوى السياسية المعتدلة والراديكالية النائمة من سباتها أو المقموعة على أنغام توترات الشارع فتقرر أن وقت العمل قد حان. هنا قد تعمد الى الإنخراط في الشغب أو تشجعه لتحقيق ثلاثة أهداف: لزيادة الضغط على السلطات المركزية ودفعها إمّا لتقديم تنازلات أو لاستخدام العنف بشكل أكبر، وفي كلتا الحالتين تكون هي الكاسبة. وثانياً، لإظهار فشل النظام وضعفه خاصة مؤسساته القهرية، بشكل يجعل من زيادة تحدّيها أمراً ممكناً بعد إسقاط هيبتها وعدم الخشية من انتقامها. وثالثاً، لتوجيه أنظار تلك المؤسسات القهرية بعيداً عن النشاطات التنظيمية تحت الأرض.

من المتعارف عليه، أن أحداث الشغب قصيرة العمر، فقد تستمر لساعات أو لأيام، حسب طبيعة الإستجابة الأمنيّة، هناك من الدول من يقرّر محاصرة الشغب حتى ينفّس المشاركون فيه احتقاناتهم ضمن حدود معيّنة، وحين تميل الأمور الى الخطوط الحمراء أو للبرود، تبدأ مرحلة (تكسير العظام) وبعدها مباشرة تأتي الإستجابة لمطالب المحتجّين، خاصة إذا كانت متعلّقة بشأن غير استراتيجي. إن مواجهة الإنفجار العاطفي للجمهور في بداية انطلاقته قد تعطي نتائج سلبية من وجهة نظر معيّنة، ولكن تركها لتجاوز ما يعتبر خطوطاً حمراء قد يكون كفيلاً بإدامتها وتبلورها وركوب موجها من قبل السياسيين المعارضين. وربما يكون من أهم أسباب عدم إستمرار الشغب، مسارعة السلطات لتلبية مطالب المحتجّين، فهي قد تتأخّر ولكنها حين تدرك أن لا مفرّ من ذلك، بدون المزيد من الشغب والإنفجار تقدم على التنازل. حدث هذا لشغب لوس أنجليس، وتراجع ثاتشر بشأن ضريبة الرأس، وتراجع أبو عمّار أمام احتجاجات رفح في مارس 1999، وتراجع الملك حسين عن قرارات إقتصادية مؤلمة عام 1989، بل ذهب الى أبعد من ذلك لمعالجة جذور المشكلة بإجراء تحوّل سياسي غير عادي.

فيما يتعلّق بالبعد الخارجي لأحداث الشغب، فإنه في معظم الحالات لا جذور لها خارجية، ويجب دراستها في إطارها المحلّي. فالقضايا المطروحة محليّة في جذورها وتأثيراتها ونتائجها عموماً. إنها تستمد زخمها من عوامل داخلية، ولذلك فإن الحديث عن تآمر خارجي يفتقد الرؤية الصحيحة، لأن الشغب لا يحتاج إشعاله الى عامل خارجي تحريضي فطبيعته أنه يمثل استجابة فوريّة لحدث محلّي، وآثاره لا تنعكس خارج الحدود، إلاّ إذا تطوّر الى ما يشبه الثورة. ومن هنا نلاحظ أن مشاعر الجمهور مختلفة تجاه أحداث الشغب، فالأكثرية تقرّ بصوابية مطالب المحتجّين، وتندّد بعدم انضباطهم إن حدث حين ينحو المتظاهرون والمحتجون باتجاه تخريب المنشآت العامّة، اللهم إلاّ إذا تمّ احتواء الجمهور وتغيير مسار الأهداف، وضبط الحشود بانخراط الكوادر السياسية المعارضة. لعلنا نتذكّر، انتقاد السادات لأحداث 17، 18 يناير 1977، إذ نعتها بـ (انتفاضة الحرامية) متّخذاً من التخريب الذي قام به بعض المتظاهرين، منطلقاً لانتقادهم ومبرراً لقمعهم، وإشغالاً للرأي العام عن الأهداف التي كانت وراء تلك الأحداث.

والخلاصة، إن ما يدعو للتفصيل في هذا الأمر، أن لا يساء تقدير حجم إحباطات الشارع في المملكة وما يمكن أن تؤدّي إليه. فما يبدو أنّه قلّة حيلة لديه وافتراض أن السيطرة السهلة باتت من المسلّمات، قد ينقلب بصورة لا تخطر على بال أحد.. إن الأمور أعقد من ذلك بكثير، واستخدام العنف قد يشعل الفتيل أكثر مما يخمده.

 

تخفيف الأزمة.. كيف؟

 

وحتى لا يكون الحديث مجرد توصيف ونقد، أرى تقديم هذه المقترحات التي أختتم بها الموضوع:

1 ـ في المجال الثقافي: إقحام ثقافة الإعتدال والتسامح والشفافية في الإعلام ومناهج التعليم، وخاصة الدينية التي يجب إعادة النظر في محتوياتها، والبدء من قبل الحكومة بممارسة سياسة التسامح والمساواة بين المواطنين دون النظر لخلفياتهم وهوياتهم الدينية. ويتطلب الأمر سن قوانين تتيح للأصوات المختلفة لتعبّر عن نفسها عبر إصدار الصحف والمجلات ووضع ضوابط توسّع من هامش حرية التعبير من جهة وتجرّم الإعتداء على حقوق الآخرين بالتحريض والقذف وغير ذلك. وهنا يمكن تفعيل بعض مواد النظام السياسي وشرحها لتكون مرجعية حقيقية عند الإختلاف. كما يتطلّب الأمر وضع نظام جديد للمطبوعات، وإبعاد وزارة الداخلية من السيطرة على الإعلام عبر (المجلس الأعلى للإعلام) بحيث لا ترسم سياسة ولا تنتدب أحداً ليعمل في الصحف مخبراً أو مراقباً، ولا تتعرّض بالعقاب للصحافيين بدنياً أو معنوياً إلا وفق القانون. كما يقترح تخفيف حدّة الرقابة على المطبوعات الخارجية، والتي تتسم بالمزاجية والتطرّف في المجالين السياسي والديني، حتى يفسح المجال للنقد كجزء من الرقابة الشعبية على الجهاز التنفيذي من أجل أداء أفضل، وتنفيساً للإحتقان. يتطلّب الأمر أيضاً، السماح بالتشكّل الثقافي والنقابي، والإنفتاح الحكومي على مختلف التيارات الفكرية والثقافية حتى تنأى بنفسها عن التصنيف والإنحياز لاتجاه فكري محدد. وأخيراً أن تراعى مواضيع الهوية الوطنية، وتعمّق بشكل عقلائي عبر التعليم والإعلام والممارسة على أرض الواقع، وهنا يجب تجريم التعرّض للهويات الخاصة دينية أو مناطقية والسماح لتلك الهويات بالتعبير عن نفسها في الإطار الوطني.

2 ـ في مجال الإقتصاد والخدمات العامة: إن وزارة الداخلية ليست مسؤولة وحدها عن العنف وتصاعد معدلات الجريمة، وإنما جهاز الدولة بأكمله. فإذا ما فشل وزراء الإقتصاد والتعليم وجهاز التوظيف والإعلام والخدمات الإجتماعية عن أداء مهماتهم انعكس ذلك بشكل تلقائي على الأمن، ومن هنا فحلول المشكلة ليست بيد وزارة الداخلية، التي لا يجب أن تتحمل مسؤولية التوظيف من خلال مجلس القوى العاملة، بل يفترض إستحداث وزارة للتوظيف تتعاون معها جميع الأجهزة بما فيها وزارة الداخلية. أيضاً يقترح الإهتمام بموضوعات التعليم والتوظيف والصحة تحديداً، فهذه المسائل تنضوي على أعمق المشاكل؛ يجب القيام بعمليّة جراحية في هذا المجال: جامعات ومدارس جديدة، إفساح المجال للجامعات الأهلية ودعمها حتى تقف على قدميها، وسن أنظمة جديدة واعتماد عقلية مختلفة لحل الإشكالات الناشئة عن هذه التحوّلات. كما ينبغي حل مشكلة الأراضي وتوزيعها، بسنّ نظام يمنح كل متزوج جديد قطعة أرض، وتصادر الإقطاعات للصالح العام لبناء خدمات حكومية عليها. أيضاً سنّ نظام ضرائبي أكثر اعتدالاً يراعي من يسمّون بذوي الدخل المحدود، وإلغاء كثير من الرسوم على السلع الأساسية. يضاف الى هذا ضبط العمالة الوافدة وأخذ موضوع السعودة موضع الجدّ خاصة على الشركات الكبيرة.

3 ـ في الميدان السياسي والأمني: يتطلب الأمر إعادة تعريف لمفهوم الأمن الداخلي، وكذلك العقيدة السياسية والعسكرية للقوات المسلّحة، ووضع حدود معقولة للصرف عليهما. الجهاز الأمني بطبعه كما في كل الدنيا ميّال لاستخدام الشدّة والقسوة، وفي غياب الرقابة والإحتجاج القانوني عبر القضاء، تجري الإنتهاكات بحق المواطنين وربما في بعض الأحيان خلافاً للأوامر الرسمية، ولذا يحتاج هذا الجهاز الى رقابة ووسائل لتخفيف حجم تجاوزاته. الدستور يفترض تطبيقه على أرض الواقع وهذا لا يتمّ إلاّ بطرح مسوّدة شرحه ووضع تفاصيل مفرداته، واتخاذه مرجعاً في كل الأمور، والتحاكم على أساسه، إضافة الى تعديل بعض بنوده بحيث يتماشى مع التطلعات الشعبية الحاضرة. أما مجلس الشورى فيجب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون: انتخابات وإشراك المرأة فيه، ودور حقيقي يجعله جهازاً تشريعاً ممثلاً للجمهور وليس للحكومة. وأخيراً فإن نظام المقاطعات يحتاج الى إعادة تعريف أهدافه بحيث يخدم لا مركزية السلطة ويسرّع من عمليّة التنمية لا أن يصبح معيقاً لها. وينطبق على مجالس المقاطعات ما ينطبق على مجلس الشورى من جهة الإنتخاب، إضافة الى زيادة صلاحياته حتى لا يكون نسياً منسيّا.

هذه المقترحات كثيرة، بعضها يتطلّب إجراءات فوريّة، وبعضها يتطلّب خططاً لسنين طويلة. إن أسلوب المسكّنات لا يحلّ مشكلاً بل يؤجّله فحسب، وفي كل الأحوال فإن هذه المقترحات ليست بجديدة في مجملها، ولكن الجديد هو استقراء الأحوال بدونها. من يدري، لعلّ بعضها يلفت النظر.

 

هوامش

 

[1]Ted Robert Gurr, Why Men Rebel, p. 317.

 [2] T. Skocpol, State and Social Revolution, p. 17.

 [3]T. Gurr. Ibid., P. 340.