هويّات فرعيّة سائدة

هل هناك هويّة وطنيّة سعودية؟

  د. خالد الرشيد

 تستعصى أزمة الهوية الوطنية في المملكة العربية السعودية في أحيان كثيرة على التفكيك والتحليل وتالياً الفهم. السؤال المباشر الذي يواجه الباحث هو: هل هناك هوية وطنية في السعودية؟ والجواب قد يكون احتجاجياً: وهل يمكن أن لا تكون هناك هويّة وطنيّة في عصر الدولة القطرية.. عصر الحدود والإنتماءات القطرية؟!

غير أن هذه الإجابة أبعد ما تكون عن توضيح المشكلة. فأزمة الهويّة في المملكة لها خصوصيتها، والمملكة دائماً تتحدث عن خصوصية من نوع ما في كلّ شأن من الشؤون! هذه الخصوصية تستلزم قراءة أكثر عمقاً تستحضر فيه شتّى القضايا والمؤثرات المتعلقة بتلك الهوية.

سأجادل ابتداءً بأن ليس هناك هوية وطنيّة في المملكة، وليست هناك ثقافة وطنية، ولا قيادة وطنيّة، ولا دين وطني (بمعنى عقيدة جامعة لمواطني المملكة). وجدلي قد يمتدّ الى أبعد من هذا، فأقول بأن الهويّة الوطنيّة في المملكة ليست مرغوبة من العائلة المالكة ولا من المؤسسة الدينية ولا من القوى المناطقية المنتفعة بغنيمة السلطة، بل وقد أزيد بأن عدداً غير قليل من المواطنين لا يعرفون كنه الهوية الوطنية ولا يعيرونها بالاً.

الهوية السائدة في المملكة اليوم هوية جزئيّة مناطقية، هي هويّة المنطقة الغالبة، والمذهب الغالب، والطاقم السياسي الحاكم وتراثه.

ليست المسألة محسومة تماماً بين هويّة دينيّة تمثّلها (الوهابيّة) وبين هويّة وطنيّة غير موجودة وتُعطى مسمّى الهويّة السعوديّة.

الواضح أن هناك ثلاث هويّات نجديّات، متداخلة فيما بينها، متعاونة متنافسة متشابكة في العناصر، متّحدة بقدرٍ كبير في الغايات والوسائل. هذه الهويّات الفرعية الثلاث هي مكوّنات ما يزعم أنه هويّة وطنيّة سعودية.

الهويّة الأولى: الهوية السعودية (Saudism) وهي تعني تحديداً نسبة الشعب الى العائلة المالكة، التي منحته هويتها واسمها، وهذه الهويّة تربط المواطن بالعائلة المالكة قبل أن تربطه بالإنتماء الى أرض أو إقليم مشترك بين السكان. وهذه الهوية السعوديّة تحاول أن تكون الأولى بين الهويات الثلاث، وأن تكون لها الأسبقية، لكنها هويّة بدون مضمون ثقافي، إذ لا يكفي خضوع المواطنين الى نظام سياسي واحد، او الى عائلة مالكة بنت دولة أن تشكل هوية وطنيّة، خاصة إذا ما كانت العائلة المالكة تطرح الإنتماء اليها قبل الدولة إن لم يكن في مقابلها.

الخواء الداخلي للهوية السعودية هو الذي جعلها مجرد إطار فارغ جاءت الهويتان الأخريان (الوهابية والنجدية) فملأته. ولهذا عدّت الهوية السعودية وجهاً آخر للهوية الوهابية أو النجدية أو كليهما. قد لا ينزعج المواطن من انتمائه لوطن وعائلة مالكة بمضمون ثقافة وطنية عامّة مساواتية، ولكنه يرفض الهوية السعودية إن كانت مجرد إسماً، ومحتواها يؤكد الثقافة الجزئية والإنحياز المناطقي.

الهوية الثانية: الهوية الوهابية (Wahhabism) وهي هوية تسعى لأن تسود نجد أولاً ومن ثم الإنطلاق منها الى بقية المواطنين. هذه الهوية دينية وتعتمد تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ورغم أن لها ارتباطاً محلياً قوياً بحكم المنشأ والجذور والقيادة والمناخ، إلا أنها تعتقد بأنها يجب أن تسود على كل الهويات الأخرى، وعلى الإنتماءات الضيّقة القبلية وغيرها. ولكنها لأسباب عديدة غير قادرة على التوسع والتحول الى عقيدة وطنية أي الى مذهب وطني بمعنى شموليته لكل المواطنين، فالوهابية أقل إغراءً، ولا يساعد مظهرها الخشن على القبول بها، وبدل أن تجسّر العلاقة مع الآخرين في محاولة لامتصاصهم مذهبياً أو ثقافياً، فإنها باعدت بين ذاتها وبين الآخرين. في محيط نجد فإن الهوية السعودية أو الهوية النجدية يحدّان من تغلغل الهوية الوهابية وسيادتها على كامل الإقليم، أي أن هناك من يعتبر الوهابية جزءً من هويته، ولكنه لا يمارسها ولا يقبل بأن تكون موجّهة للمجتمع المحلي المناطقي.

الهوية الفرعية الثالثة: هي الهوية النجدية (Najdism) التي تشير الى منطقة محددة والى ثقافة محددة والى مجموعة سكانية محددة. وهذه الهوية أعمّ من نظيرتيها، فهي تمتلك مخزوناً ثقافياً، وترى أن كل الإنجازات التي حققتها الهويتان السابقتان من قيام الدولة والإستفراد بمغنمها تعود الى (أهالي نجد) قاطبة والى (الشعور الجمعي النجدي). وتفترض هذه الهوية تقليصاً لدور المؤسسة الدينية ودور العائلة المالكة دون إلغائهما، بل تنشيطهما لخدمة الحس الجمعي.

هذه الهويات الثلاث غير متعارضة وإن كانت متنافسة، فالهوية السعودية في محتواها نجدي صرف، والهوية الدينية نجدية صرفة عززت وحدة الإقليم النجدي ورسّخت هويّته المناطقية، في حين أن الهوية النجدية جماع لكل ذلك، فمحتواها الثقافي يقوم على التميّز النجدي ديناً وفكراً وعادات وتقاليد ورموز سياسية وغير ذلك. لا تسعى الهويتان النجدية والوهابية الى إلغاء الهويّة السعودية، فالإنتماء الى العائلة المالكة مطلوب، وهي رمز لوحدة نجد وزعامتها. أيضاً فإن الهوية الدينية (الوهابية) ليست نقيضاً للنجدية، والعكس صحيح. فالمسألة لا تعدو أولويات لم تحسم بعد، وإن كانت المسحة الظاهرية للهوية تشير الى انتصار (الهوية النجدية) على ما عداها، كونها أكثر اتساعاً في المنظور الثقافي، وأكثر قدرة على تعزيز العنصر النجدي في الهوية.

يمكن للهوية السعودية، أي الإنتماء الى عائلة مالكة، والى أرض مشتركة، أن تفرض نوعاً من المساواتية بين المواطنين، بمعنى أن كل المواطنين متساوون من حيث الإنتماء الى أرض الدولة والى رأسها السياسي. ويمكن لها أن تتطور الى (هوية وطنية) حقيقية في حال تخلّت عن المحتوى الثقافي الجزئي النجدي (تاريخاً ومذهباً). أي إذا رسمت فاصلاً بينها وبين الهويتين الأخريين، وأدخلت المحتوى الوطني الثقافي العام الذي يؤطر كل مناطق المملكة بحيث تتحول الى ما يشبه (قدر الصهر) للتراث المناطقي للمملكة كلّه.

لذلك كلّه، فإن المجادلة بعدم وجود هويّة وطنيّة في المملكة له ما يبرره.

هذا الأمر يطرح مشكلة الجدل القائم حول عناصر الهوية الوطنية في المملكة. هذه العناصر مستلّة في واقع الأمر من هذه الهويات الفرعية الثلاث:

1 ـ العائلة المالكة كعنصر مكوّن من عناصر الهوية. فالإنتماء الى نظام سياسي، والخضوع الى نظام قضائي وتعليمي واحد قد يشيع حسب الباحثين نوعاً من الشعور الجمعي، مضافاً إليه حمل المسمّى الواحد (الإنتماء لدولة سعودية) وحمل جواز سفر واحد، وغير ذلك.

لكن حقيقة الأمر ليست كذلك في بلد مثل المملكة. فالعائلة المالكة متهمة بالمحاباة وعدم المساواة بين مواطنيها، وعدم احترام خصوصياتهم. ولمنشئها النجدي وطبيعة علاقاتها التاريخية بالوهابية ظهرت العائلة المالكة الممثلة للهوية (السعودية) في طرف المعادي، وصار الإختلاف عليها وحولها شأنها شأن القضايا الأخرى المتعلقة بالهوية. فهي، بالنسبة للبعض ليست إلاّ تفرّعاً من الهوية النجدية، أو نتاجاً للوهابية المتطرفة.

2 ـ الوهابية كمذهب وعنصر ثقافي مكوّن للهوية، وهذا المذهب وما يقدّمه من ثقافة حادّة صارمة وعدائية، جعلها مكوّن هويّة لنجد، لا للهويّة الوطنيّة. فالوهابية مذهب أقليّة حتى الآن، وبإمكانها المساهمة في الهوية الوطنية ولكن على قدم المساواة مع المذاهب والثقافات الأخرى. ولذلك فإن الوهابية ليست في وضعها الحالي عنصر توحيد ومكوّن للهوية الوطنية في المملكة، مهما بالغ البعض في تضخيم دورها. ولعلّ تضخمّها سبب في غياب الهوية الوطنيّة.

3 ـ الإشتراك في أرض واحدة (هوية الإقليم أو الأرض) Territorial Identity، حيث يشار دائماً الى أن سكان بلدٍ ما وبحكم انتمائهم لأرض واحدة محددة المعالم والحدود، يخلق بينهم ذلك حسّاً جمعياً يمكن أن يُبنى على أساسه هوية وطنيّة. وهذا الموضوع لا شكّ فيه صحيح من الناحية النظرية، ولكن لطبيعة نشأة الدولة السعودية حيث التقاتل بين الأقاليم، وبسبب استمرار الصراع القديم قبل قيام الدولة وامتداده الى الوقت الحالي بين المناطق والمذاهب، وبسبب السياسات الحكومية غير المتوازنة تجاه الفئات السكانية المختلفة وغياب المساواة في الخدمات الإجتماعية وفي حقوق المواطنة.. فإن الشعور العام يطغى عليه الإنتماء الى المنطقة لا الى الدولة كإقليم ترابي، وقد لا تعني حدود الدولة شيئاً إذا ما انتهكت من قبل عدو خارجي، فالمهم هو حدود الإقليم، وحدود المصالح المتشكلة على ضفافه.

هذه هي العناصر الثلاثة العامّة التي تناقش دائماً، وهناك عناصر اخرى كثيرة تأتي في المرتبة الثانية، ولكن كما هو ملاحظ، فإن أزمة الهوية الوطنية في المملكة أعمق مما يتخيّل المرء، وتعزيزها قد لا يكون في صالح الهويات الفرعية النجدية الثلاث التي اختطفت الهوية الوطنية.