دروس الحرب.. لن يستفيد منها نظام الحكم

هل يقف الشعب مع الأمراء وقت المحنة؟

 خالد شبكشي

الحرب وقعت.. والعالم يشاهدها كفيلم طويل على شاشة التلفزيون بالصوت والصورة الملونة. الجميع يشاهد نفس الصور ويسمع نفس التصريحات والبيانات، ولكن الحكومات والأفراد ووسائل الإعلام يخرجون بنتائج وعبر مغايرة ومختلفة وقد تكون متصادمة.

مسرح الحرب يقدّم لنا كلّ يوم دروساً جديدة، ويدفعنا لقناعات مختلفة، وينذرنا بعواقب تقترب يوماً لتبتعد في آخر. دروس الحرب.. عبرها ونتائجها وانعكاساتها على الوضع السعودي الداخلي كثيرة نتوقف عند بعضها في هذه المقالة.

 

أولاً ـ اكتشفنا أننا غير مهيئين للحرب، فالحكومة بقراراتها البطيئة تقامر بمصير المواطن المعرض للخطر. فالمواطن ليس مهيئاً في الأساس للدفاع عن نفسه، فهو لا يجيد استخدام السلاح، ولا يمتلكه في الأساس، والحكومة ترفض منذ زمن طويل الدعوات الداخلية بإقرار "التجنيد الإلزامي" مصرّة على أن الـ100 ألف مجنّد في كل القطاعات العسكرية قادرون على حماية وطن يشبه القارة تزيد مساحته على المليونين وربع المليون كيلومتر مربع. الفلسفة الحكومية قائمة في الأساس على أن القوات النظامية مهيئة للإستخدام المحلّي ولمواجهات محدودة مع الخارج، أي مع بعض دول الجوار الضعيفة. أما المعارك الكبرى، أي الحماية الحقيقية، فتعتمد على الحلفاء الأميركيين، إما بتهدئة الحال بالتدخل لدى الطرف المعتدي (مثلما هو الحال مع إسرائيل) التي تخترق الأجواء السعودية منذ أكثر من عقدين وتطوف الأجواء الشمالية دونما مقاومة سوى احتجاجات باهتة بين الحين والآخر لدى الأمم المتحدة وأميركا، أو عبر التدخل المباشر كما حصل في الحرب مع العراق إبان عملية ما سمي بتحرير الكويت.

الجندي السعودي نفسه غير مهيّئ لمعركة، وعقيدته السياسية يعتورها النقصان والغموض. ورغم تطور العلاقات السعودية الأميركية خلال العامين الماضيين، فإن الحكومة السعودية لم تغيّر شيئاً من خططها وأولوياتها ومصادر الخطر المتغيّرة حول حدودها. ورغم الكم الهائل من الإنفاق العسكري من أسلحة وبنى تحتية، لا يوجد اليوم جيش سعودي قادر على حماية الوطن، وقد كشفت حرب الكويت كم هو مهلهل هذا الجيش، فهو لم يستطع حتى هضم السلاح المعقّد الذي يشترى له بأغلى الأثمان. الحقيقة الناصعة هي أن الحكومة والشعب معاً متفقان على أن الجيش (والقائمين عليه!) الذي يستهلك ثلث الميزانية كل عام لا يتمتع بالثقة في حماية المواطن والوطن.

من طرف آخر، لننظر الى الخطوات الحكومية.. ففي الوقت الذي استعدت فيه اسرائيل وتركيا وإيران والكويت وغيرها من الدول لحماية مواطنيها من آثار الأسلحة الكيماوية، تحدثت الصحافة المحلية يوم 19/3 أي يوم الحرب وعلى لسان اللواء سعد التويجري مدير عام الدفاع المدني عن تخصيص اعتمادات مالية لقيام شبكة جديدة لصافرات الإنذار في المدن السعودية بما فيها المدن الحدودية كالجوف وعرعر اللتان دخلتا الحرب فعلاً واستخدمتا لاحتلال القاعدة العسكرية أتش 3 غرب العراق. ورهن التويجري موضوع تدريبات الطوارئ للمواطنين بالحاجة إليه (والحاجة لم تأت بعد). هذا ولم توزع كمامات حتى يوم الحرب، بل قال اللواء علواني حسن بأن هناك استعدادات لطرح كمامات في الأسواق (للبيع) بمواصفات قياسية!

أما الأمير نايف المسؤول عن الأمن، فراح يكرر معزوفة (نحن وغيرنا) مبرراً عدم اتخاذ الإحتياطات الأمنية بقوله: "نحاول قدر الإمكان ان نجعل إجراءاتنا الأمنية لا تؤثر على المواطنين أو حركتهم، أو الحد من حرياتهم".. فهل كان هذا يمنع وجود ملاجئ في المدن الحدودية؟ رد نايف بأن الملاجئ لا تنشأ في عشية وضحاها ولدينا خطط في هذا الموضوع. وأن الحكومة تركت للقطاع الخاص حرية استيراد الكمامات للبيع أو التأجير!

بلد بدون صفارات إنذار، وبدون كمامات، وبدون ملاجئ، وبدون تدريبات على السلاح، أو على إجراءات الطوارئ.. هل هذا هو استعدادنا للحرب؟ وهل هذا هو نتيجة انصراف ثلث ميزانية الدولة كل عام على الجيش حتى في وقت الأزمة الإقتصادية الطاحنة للأجيال الجديدة ولمستقبلها؟

ثانياً ـ ليس في نيّة الحكومة الإصلاح، ونقصد بالحكومة التيار الغالب فيها، والذي يقوده الأمراء الصقور: نايف وسلمان وسلطان. ومع أننا لا نريد أن "نشخصن" السياسة، إلاّ أنها كما في الوطن العربي مشخصنة حتى النخاع. الوطن والحاكم شيءٌ واحد، وفي أكثر الأحيان يختزل الأول لصالح الثاني.

في يوم الحرب على العراق، نشرت الشرق الأوسط (19/3) تصريحاً لوزير الداخلية يقول فيه رداً على وثيقة الإصلاح الوطني: "لا للتغيير، نعم للتطوير" مستعيراً عنوان عكاظ قبل شهر: "نعم للإصلاحات ولا للتغيير". ومع ذلك أين التطوير؟ يقول نايف: "التغيير إنك تغيّر شيئا موجودا، والموجود عندنا أساساته طيبة، لكننا نحتاج للتطوير.. الذي لا يخرج عن المصلحة العامة، هو التطوير الذي لا يخرج عن ثوابت الأمة" نافيا أن يكون هناك تفكير بإنشاء أحزاب سياسية، ولكنه لا يمانع أن يقدم بعض المواطنين وجهة نظر إلى ولي الأمر، فهذا طبيعي وعادي حسبما يقول، أي أنه أمر اعتادت العائلة المالكة على سماعه وليست ملزمة به وحسب تعبير وزير الداخلية إنه لا يجب أن "يعطى الأمر أكبر من حجمه" أي لا تتوقعوا كثيراً من عريضتكم الإصلاحية! متذرّعاً بالظروف الحالية، ولذا لا يجب أن يطلب أحدٌ إصلاحاً، وحسب تعبيره: "أنا شخصيا أقول الظرف الآن، يجعلنا لا نتحدث عن شيء إلا كيف نواجه هذا الظرف بما يحقق سلامة الوطن واستقراره".

ولكن من يضمن أن العائلة المالكة ستقوم بالإصلاح إذا ما تجاوزت أزمة الحرب الحالية، مالذي يمنعها من تمديد حالة الطوارئ بنفس الحجة، بل لماذا لم تقم بالإصلاح قبل الحرب أصلاً إن كان كلام الوزير صحيحاً؟. لقد قالها صراحة وزير الداخلية: قولوا ما تشاؤون أو اصمتوا كما تشاؤون، الأوضاع باقية على حالها، والأولوية للأمن ثم الأمن ثم الأمن.. أمن من؟ يقول: "الإصلاح أمر قائم وماشي، قال من قال وسكت من سكت، لكن هناك من يجتهد فيقول، وهناك من يخطئ في الطرح، لكن لا يوجد شك أن الظروف تتغير. هناك ظرف يجعلك تمارس اهتمامات أخرى، منطقتنا العربية أو الشرق الأوسط في أحرج وضع، وكل بلد يهمه أن يخرج من هذا الوضع بأقل ما يمكن من سلبيات".

لا مكان في الأجندة السعودية للإصلاح الآن وربما بعد الحرب مباشرة. الوثيقة الوطنية للإصلاح كان يجب أن تتطور الى وثيقة شعبية، وأن لا تستسلم النخب لدغدغة العواطف التي بثها ولي العهد، كما لا تستسلم لتهديدات وزير الداخلية. بيد أن الإهتمام الشعبي والنخبوي ربما اتجه لموضوع العراق، وهو أمرٌ طبيعي، ويجب أن تعاد الروح للدعوة الإصلاحية في أقرب فرصة حتى وإن بدت وكأنها تستغلّ فرصة ضعف الحكومة. فالسلطة العنيفة وليس الضعيفة أقدر على رفض الإصلاحات ومواجهتها بالبطش.

ثالثاً ـ ازدياد حالات العنف السياسي لن تخبو انعكاساً للإنسدادات السياسية الداخلية، والإنهيارات الإقتصادية وأيضاً انعكاساً للحرب وتداعياتها النفسية والإقتصادية والسياسية. الأمير نايف الذي يحتل الشاشة السعودية ويتحدث في كل شأن نظراً لتضخّم دور أجهزة الأمن قال بأن هناك سيطرة على الحدود، ولم ينف تسرّب مقاتلين سعوديين الى العراق ولكنه اعتبر ذلك بدون فائدة: "لم يبلغنا شيء من هذا حتى الآن، ولا نستطيع نفيه نفيا كاملا، لكن مشاركة في ذلك العمل ليس فيها فائدة حقيقة". الأمير نفسه علق على أحداث العنف الأخيرة (انفجار منزل يحوي مخازن سلاح في الرياض ومقتل شخص واحد، وكذلك مقتل الألماني والبريطاني في العاصمة السعودية، واغتيال وكيل إمارة الجوف) بأن التحقيقات في هذه العمليات جارية، وهي عبارة مخففة لفشل أجهزة الأمن في وضع حلول واقعية للمشكل الأمني.

أجهزة الأمن أطلقت الشهر الماضي بعد أيام من اندلاع الحرب سراح الشيخ سعيد آل زعير الذي اعتبر (مانديلا السلفيين) بعد ثمان سنوات من الإعتقال غير المبرر، في محاولة لامتصاص الغضب والإحتقان، ولكنها في الوقت نفسه اعتقلت قيادات أخرى وأودعتهم السجن، وكأن هناك فشلاً يلوح في الأفق بشأن الإتفاق الضمني بين محمد بن نايف وبين القيادات السلفية الشابة حول مسألة ضبط الشارع النجدي، وهذا أكّد مسيرة الدولة السعودية بشكل كلي في تبنّي خيار "عنف الدولة" المرادف لرفض الإصلاح السياسي، وهو ما يجعل الخيارات أمام المواطنين مسدودة، بحيث لا يمكن توقّع إلا المزيد من العنف والعنف المضاد.

رابعاً ـ الشقاق الداخلي المبني على التمايزات المذهبية والمناطقية والذي تغذيه الأجهزة الحكومية، جعل من الوحدة الوطنية مجرد شعار باهت، وجعل من المملكة عاجزة عن مقاومة أي غزو بل أي حرب حدود. الأخطر من هذا، أن هذا الإنشقاق جاهز للإستثمار خارجياً، بحجة الدفاع عن الأقليات الدينية، أو بحجة ديكتاتورية النظام، أو بحجة تسلّط الفئوية على مقدرات الشعب، وهي الحجج التي نسمعها الآن في العراق.

كان الأمير طلال قد توقّع إبان حرب الكويت أن العراق في حال اجتياحه للسعودية أن لا يقف أحدٌ مع النظام. تلك كانت إشارة واضحة للفرقة بين النظام والمجتمع أو على الأقل بعض شرائحه المضطهدة. لكن العائلة المالكة لم يكن يهمها ذلك، فقد أصابها الغرور بالتحالف مع القوي الأميركي المنتصر على العراق.

ماذا سيحدث لو تغيّر الوضع وأرادت الولايات المتحدة الأميركية نفسها إنهاء الحكم السعودي: من سيقف معها؟ وماذا إذا قررت التقسيم حسب خطوط الطول كما يقول الدكتور متروك الفالح؟ لقد توقع الأخير في دراسته التي أدت الى إقالته كأستاذ للسياسة في جامعة الملك سعود بالرياض، أن لا يقاوم الشعب ذلك.

الدرس الذي يجب أن تستفيد منه العائلة المالكة ـ ولا نظنّها فاعلة ـ أن تعيد النظر في علاقتها مع شعبها بشكل شامل حتى يقف معها قبل أن تستهلك رصيدها كاملاً من السمعة والوقت الذي هو أكثر حساسية من أي أمرٍ آخر. مرة أخرى نؤكد على الثقافة الوطنية، وعلى محاربة ـ وليس تشجيع ـ التمييز بشتى ألوانه، وعلى المساواة في المغانم والمغارم وفق المواطنة، وعلى الإصلاح السياسي الذي يمكنه تأمين قدر معقول من فعالية أجهزة الدولة ومصالح المواطنين الأولية.

المواطن المقموع لن يدافع عن النظام ولا عن الوطن، وليس بإمكانه فعل ذلك حتى لو أراد. لقد فُرضت عليه السلبية من هرم السلطة، وصار عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، كارهاً لوضعه، ناقماً على قيادته، يجول بنظره يميناً وشمالاً باحثاً عن الخلاص من أيّ كان. بسبب شيوع تكفير المواطنين بعضهم بعضاً، وعدم الثقة في بعضهم البعض، لا تستطيع (الوطنية) الضعيفة أن تحشد الشارع، ولا يستطيع (الإسلام) بشكله الطائفي أن يجمع الناس على قاعدة المقاومة لا للمحتل ولا لحرب حدود محدودة ولا للدفاع عن نظام الحكم.

ختاماً.. الدروس والنتائج كثيرة من هذه الحرب.. لا يبدو أن الأمراء السعوديين سيستفيدون منها. فهلا استفادت منها نخبه الإصلاحية؟