قراءة في ملف العنف السياسي في السعودية

"سعودة" العنف.. لماذا؟

مرتضى السيد

منذ مدّة غير قصيرة لا يكاد يمر أسبوع دون حادث عنف كبير يقع في إحدى مدن المملكة وبالخصوص عاصمتها الرياض، حتى أصبحت أخباراً من هذا النوع مما اعتادت الأذن سماعه. لماذا حدث هذا، وقد كانت البلاد والى وقت قريب تفاخر بأنها الأكثر أماناً في العالم، أو هكذا تزعم، طالما أن الإحصاءات تعوزنا في هذا الشأن، أو هي غير موثوقة؟

يمكن قراءة أحداث العنف بعيون محلية من زوايا مختلفة، وفي هذه المقالة إستجلاء لعدد من الأبعاد والمضامين.

  أولاً ـ فشل عملية التحديث

  تشير حوادث العنف المتصاعدة الى فشل سياسة التحديث في امتصاص مخزون العنف غير العادي في المجتمع السعودي، بل قد تكون تلك السياسة قد ساهمت في زيادته. فالمملكة رغم مرورها بعملية تحديثية هائلة ومستمرة لبناها الإقتصادية والإجتماعية منذ عقود عديدة، نجحت في جوانبها المادية من جهة تأسيس بنية اقتصادية واجتماعية معقولة، وتوفير قدر من الرخاء والحياة الكريمة للمواطنين، ولكنها، من جهة أخرى، لم تستطع فيما هو واضح إضعاف العصبيات المذهبية/ الطائفية والمناطقية والقبلية التي يعج بها المجتمع بعد أن أضعفها السيف أثناء قيام الدولة ونشأتها. بمعنى أنها لم تؤدّ الى خلق أطر وطنية أوسع، وتخفف من حدّة الإنتماءات الضيقة، وتعدّل من التوجهات الحادّة تجاه الآخر المختلف، أياً كان منبته او توجهه. من جهة أخرى وفرت عملية التحديث مبررات إضافية للتوتر داخل المجتمع، حيث رافقها موجة من قيم "التغريب" اصطدمت بعنف مع قيم وتقاليد المجتمع كما رافقها صراع بين الفئات الإجتماعية المختلفة حول "حصصها" من "ثمار" التحديث، الأمر الذي جعل المناظرة مع (الآخر) الداخلي مدخلاً للنزاع والتباغض والتحاسد وتأكيد الهوية الخاصة ـ الفرعية. والمسألة الأخرى التي ينبغي الإشارة اليها هنا، هي أن عملية التحديث كانت عرجاء، أي أنها جُرّدت منذ البداية من مضمونها السياسي والمعنوي، فاقتصرت على الجوانب غير السياسية، بالشكل الذي يبقي المؤسسة السياسية دونما تغيير يذكر، وقد أدّى هذا الإنحباس الى البحث عن قنوات أخرى "محرّمة" للتعبير السياسي بشكليه العنفي والسلمي.

  ثانياً ـ مولّدات العنف المحليّة

  هناك من يسعى بين النخب السعودية الى تحميل "الخارج" دولاً ومنظمات سياسية مسؤولية العنف المحلّي، أي محاولة تضخيم دور القوى الخارجية في "تصدير" العنف الى داخل المملكة، دون إعارة إهتمام كاف لمسبباته الحكومية التي انعكست على الأوضاع النفسية والإجتماعية.. هذه المسببات أهملت لأنها تحتمل نقد الذات وهو ما لا يرغب فيه المسؤولون الكبار في الحكم، الذي يرغبون في تصوير أنفسهم دائماً (وخاصة في الخطاب السياسي الخارجي) بأنهم مجرد ضحية للإرهاب، وليسوا صناعاً له أو مساهمين فيه، وهم بهذا يحاولون قطع جذوره الخارجية بالمعاهدات الأمنيّة المشتركة، وزيادة الإنفاق على الأجهزة الأمنيّة دون الإعتناء كثيراً بجذور العنف المحلية في الثقافة والتعليم والسياسات الأمنية والإختناق السياسي والمشاكل الإقتصادية.

ويظهر في الطرف الآخر، ومن خلال الجدل المحتدم داخل المملكة الآن، أن هناك من يحاول الإستفادة من حوادث العنف المخيفة لتصفية حساباته مع التيار السلفي داخل جهاز الدولة، فيطالب بأقصى ما يمكن المطالبة به: إنهاء المؤسسة الدينية الرسمية وتأميم نشاطاتها، وحذف مناهج التعليم الديني باعتبارها مصدر الشرور كلّها، وإلغاء القضاء الشرعي وقطع احتكار رجال المؤسسة الدينية في ميادين القضاء والإعلام وغيرهما، والأخذ بشدّة على يد عدد من أقطاب ذلك التيار ومحاكمتهم، وغير ذلك. ومع أن هذه الدعوات تلقى استحساناً لدى كثير من المواطنين وفي بعضها لا تخلو من وجه صحيح، إلاّ أن المآخذ عليها في الجملة كثيرة أهمها، أن هذه الدعوات "استئصالية" هدفها استعداء الحكومة وجهاز الدولة ضد تيار هو في أمسّ الحاجة الى ترشيد. كما أن هذه الدعوات تفترض تبرئة ساحة الحكومة والتغطية على خطأ سياساتها، رغم أنها هي ـ في آخر المطاف ـ من قرر ويقرر حجم السلطة بيد ذلك التيار. ويضاف الى ذلك أن السياسات الإستئصالية، والتي جُربت ولا تزال تجرّب في أكثر من بلد عربي، لا تحلّ مشكل العنف، بل تعمّّقه الى أبعد الحدود، وتدفع بجمهور التيار السلفي وليس أفراداً منه فحسب الى الإنغماس في دائرة العنف.

لا شك أن مناهج التعليم بمجملها تصنع توجهاً أحادياً وعقلية تميل الى العنف، يشترك معها في ذلك الإعلام الحكومي والصحافة المحليّة، وطبيعة السياسات الداخلية تجاه الجماعات والأفراد.. كل هذه، لا تعطي فرصة يعتدّ بها لتعدد الإجتهاد، ولا لتسامح مع المختلف فكراً وثقافة. إننا أمام حالة عامة تساهم فيها كل أجهزة الدولة، ودون وعي منها، وليس تياراً بعينه بالضرورة.

  ثالثاً ـ مكافحة الإرهاب بالإرهاب

  بين النخب الخليجية هناك من يتبنّى الشعار الستاليني القائل بأن لا حرية لأعداء الحرية. والحقيقة أن النظم العربية مجملاً لا تسمح ولا تعطي حرية لأحد من المواطنين. السؤال: كيف يمكن مواجهة العنف الداخلي بعنف مضاد وبأنظمة ديكتاتورية يعد وجودها بحدّ ذاته مولّداً للعنف؟ كان التصور الغربي يقول بأن الديمقراطية غير مرغوب فيها خاصة في الدول التي تتجذّر فيها الحركات الإسلامية. إذن، فأنظمة القمع هي الدواء الناجع ضد الإرهاب "الأصولي" ويجب أن تُدعم وتطلق يديها لمواجهته. وأما الديمقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان وحرية التعبير في حدودها الدنيا فليس وقتها. وقد اشتركت النخب العربية يسندها في ذلك (بعض) النخب العلمانية في تأكيد وتسويق مقولة أن وجود الحركات الأصولية (الإسلامية) معيق لعملية التنمية السياسية، وإذا ما أُريد لتلك العملية أن تبدأ، فبإقصاء التيارات الدينية وقمعها، وعدم شرعنتها ضمن الإطار السياسي المحلي، أي عدم السماح لها بالنشاط والنمو العلني.

ولكن التجربة الحالية أوضحت فشل الدول العربية التي انتهجت هذه السياسة (تونس ومصر والجزائر مثلاً) وكشفت أن العنف لا يكافح بعنف أعمى وخروج على القانون وهدر الحريات العامة، وأن قوّة النظام السياسي ونجاحه لا تكمن في "إقصاء" الآخر، بل في "احتوائه" وإشراكه وإقناعه بالدخول في اللعبة السياسية لكي يخرج من سريته الى العلنية، ومن نهج الشدّة الى خيار الإعتدال والتسامح، ومن الجهل بالآخر وتكفيره الى ساحة الوضوح والفهم المشترك.

هذا يفرض حدّاً معقولاً من إصلاح النظام السياسي بشكل يستطيع أن يشكل إغراءً للتيارات السياسية للدخول فيه واعتباره خياراً آمناً ومعقولاً. وبدون توافر الحد الأدنى من الإصلاح فإن النظام السياسي الحاكم في المملكة لن يكون قادراً على مقاومة إغراءات العنف وشرعنته، كما لن يكون قادراً من الناحية العملية على إنجاح سياسة الإحتواء واستيعاب الطموحات في داخلها. إن إبقاء الهيكل السياسي على جموده وانغلاقه وممارسة دور الكابح بعنف لتطلعات الأجيال المتعاقبة، يتعارض مع أي سياسة لتطويق العنف، وينتج عن ذلك تآكل في شرعية النخب الحاكمة كلما توسّعت في استخدام القوة، الى حد انفجار مخازن البارود في وجهها. والنظام السياسي في المملكة، هو اليوم أكثر حاجة من معظم النظم العربية الأخرى الى الإصلاح، أو تطوير ما هو موجود من مؤسسات سياسية وطنية على الأقل، بدل سرد الأعذار غير الواقعية (نحن نختلف عن غيرنا).

  رابعاً ـ الألَـَـق المذهبي

  في سبتمبر 2001، ولأول مرّة في تاريخ المملكة، يشارك سعوديون في عمل عنفي انتحاري وبعدد كبير أيضاً. وقد فرضت حوادث نيويورك وواشنطن تساؤلاً ملحّاً على المواطنين مفاده: هل من المحتمل أن يتوجه العنف الخارجي لتدمير "الذات" داخلياً، وكيف يمكن مواجهة هذا الإحتمال، وأيضاً ما هي الآثار التي يمكن أن تنشأ عنه فيما لو وقع؟

من الناحية الميدانية بدأ العنف فعلاً يتوجه خطوة خطوة مستهدفاً أشخاصاً ومؤسسات داخلية، ومن المحتمل أن يتم تسارع هذا التوجّه العنفي الداخلي بسبب نشوب الحرب ضد العراق.

لا شكّ أن تحوّلاً من نوع ما قد طرأ على الفكر السلفي ـ السعودي، أو بعبارة أخرى إن فهماً جديداً للنصوص وتطبيقاتها على أرض الواقع أخذ بتعزيز مواقعه. فلسنوات طويلة امتدت لأكثر من سبعة عقود، بدا وكأنّ المذهب الرسمي (ونحن هنا مضطرون لتسميته بالوهابي من أجل التمييز فحسب) قد تمّ احتواؤه ضمن إطار الدولة القطرية، منذ أن تمّت تصفية الجناح الراديكالي (حركة الإخوان) بين عامي 1928 ـ 1930. تلك الحركة التي كانت تمثل الجيش السعودي الذي استولى على بقية المناطق من منظور عقدي، وهو إدخال الكفار الى عالم الإسلام بحسب التفسير (الوهابي).. تمت التضحية بها من أجل أن تنشأ دولة قطرية بحدودها المعروفة اليوم. ومنذئذ، بدا أن المذهب الرسمي ورجاله أكثر طواعية للعمل ضمن إطار الدولة، وكان اهتمامهم بالخارج العربي والإسلامي وقضاياه ضعيفاً (بما فيها قضية فلسطين وقضايا التحرر من الإستعمار) وانحصر الإهتمام في نشر المعتقد بين أُناس رخوي الإسلام في الداخل والخارج، أما موضوع الجهاد فلم يتغيّر من الناحية النظرية وإن تمّ تعطيل مفاعيله عملياً.

وما تشير إليه حوادث العنف المحلية وانغماس مواطنين سعوديين من أتباع التيار السلفي السعودي في حروب أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وربما العراق وغيرها، هو أن المذهب الرسمي للدولة السعودية ـ كما الإسلام في تعاليمه العالمية ـ أثبت أنه عصيّاً على التطويع والتأطير ضمن الدولة القطرية، أي يصبح الإسلام أو المذهب مؤسسة محلية (Nationalised) بالرغم أن الأخير (الوهابية) بنظر الكثيرين من أكثر المذاهب قطرية بل ومناطقية، من جهة منشئه ومنظريه وقيادته وقاعدته العريضة. ولعلّ انخراط أتباعه في الجهاد في أفغانستان كان التجربة الأولى للخروج من أزمة (تعطيل الجهاد) التي اشتكى منها جهيمان ليس ضد الداخل المختلف (الشيعة، والصوفية، والإسماعيلية وغيرهم) بل هذه المرّة ضد الكافر (الغرب وأميركا). وأصبحت مبررات الجهاد (فوق قطرية) لا تنحصر بموضوع السعودية وإن لم تهملها، وأولوية الجهاد قدّم فيها العدو الخارجي، الشيوعية أولاً وأميركا والرأسمالية ثانياً. هذا أفضى الى شيء من التألّق والحيوية بنظر البعض للمذهب الوهابي نفسه، الذي طالما اتهم من قبل أعدائه بأنه تبريري يدعو الى الخضوع والقعود عن الجهاد، وأنه مذهب لا يهتم بغير مواضيع (العقيدة) وتضخيمها. يحتمل أن يؤدي هذا التألّق بنظر البعض الى انخراط مجاميع عديدة من الشباب المتحمّس في ممارسة العنف والإلتحاق بركب مواجهة (الكفار).

الخوف الحقيقي لدى صانع القرار السعودي، والنخب الليبرالية (أو العلمانية) يكمن في إمكانية تحوّل مجاميع من المؤيدين للفكر السلفي باتجاه استخدام العنف داخلياً وعلى نحو واسع. من الواضح أن المحسوبين والمتعاطفين مع خط أسامة بن لادن فكراً وممارسة يخشون من تفتت الإجماع فيما لو تحول العنف الى الداخل، أي ضد الحكومة. فحتى المعارضين للأخيرة من بين التيار السلفي، هناك من لا يرى معارضتها بأكثر من اللسان، أي أن الخروج عليها والسعي لتغييرها سلماً أو عنفاً لا يحظى بإجماع حتى بين المعارضين. ولعلّ هذا يفسّر لماذا كانت الضربات تتوجّه مباشرة الى الوجود الأميركي داخل السعودية (انفجاري العليا والخبر) وتتقصد الغربيين كأفراد وليس الى المنشآت المدنيّة والعسكرية الوطنية. مع ملاحظة أن هذه القاعدة قد خرقت بنحو أو بآخر، وهي في طريقها على الأرجح باتجاه خرقها كاملاً، حيث تتعالى الدعوات الى مواجهات مكشوفة مع أجهزة الأمن السعودية ومهاجمة رموز العائلة المالكة وإسقاط نظام الحكم.

ومن هنا نتفهم المأزق الذي تواجهه حكومة المملكة، ومحاولات إعلان براءتها من الحرب الأميركية على العراق، وأنها لن تساهم فيها، وأنها لن تدخل شبراً من الأراضي العراقية، وغير ذلك من الكلام المكرور، والذي يعلم الجميع أنه غير دقيق، خاصة وأن القواعد العسكرية تدار منها قيادة الحرب الأميركية. لكن القوى الدافعة باتجاه العنف في داخل المملكة متحفزة اليوم أكثر من أي مضى للإنتقام من العائلة المالكة وحلفائها، وهذا ما يجعل الحكومة السعودية في وضع محرج، فلا هي تحبّذ المزيد من العنف ولا هي قادرة على مواجهته. والتحريض على نهج العنف يجد في القضية العراقية حالياً محفزاً شديداً له، كما يجد له محفزاً آخر في رفض العائلة المالكة للإصلاح السياسي، وعدم قدرتها على حل المشاكل الإقتصادية والإجتماعية المتفاقمة.