أصلحوا قبل أن تسقطوا

 

حين تساقطت تماثيل طاغية بغداد في المحافظات العراقية الواحد تلو الآخر، تبيّن أن تلك الملايين التي كانت تخرج في الشوارع وتهتف بحياة الرئيس وتعلن عن إستعدادها بالتضيحة بالروح والمال والولد لم تكن تعبّر عن إرادتها بل كانت تعبّر عن إرادة الصنم الذي ساقها كرهاً الى تلك الميادين التي شهدت ذاتها تهاوي تماثيل الطاغية بعد تهاوي إرادته.

الفارق الزمني بين الهتاف بحياة الطاغية وهدم تماثيله هو لحظة زيف طويلة، ولم تتخلل فترة الانتقال من الهتاف الى التهديم دورة تأهيل أيديولوجي كما لم يخضع الشعب العراقي لتوجيه سياسي من جهات خارجية أو حتى داخلية حتى يبدّل مشاعره وولاءه للنظام بصورة إنقلابية، بل كان الموقف الشعبي صميمياً في رد فعله على الطاغية، ولم يكن يتطلب أكثر من مواجهة حاسمة كيما تختبر الولاءات والمشاعر، وقد تبين أن الرصيد الشعبي للطاغية في كل أرجاء العراق لا يتجاوز حدود بعض البيوتات في حي الأعظمية في بغداد وبعض الجيوب في تكريت وبعقوبة مسقط رأس الصنم. لم يترك الطاغية شعبه أمام خيار آخر سوى الخلاص منه، رغم الموقف المبدئي الشعبي الرافض للتدخل الاجنبي في العراق.

نزعة المكابرة والعناد الجامحة لدى الطاغية حرمته حتى من إستغلال الفرص الأخيرة، وكان لولا تاريخه الدموي قادراً على إستشفاع شعبه فيه بإدخال اصلاحات سياسية جوهرية واطلاق الحريات العامة بصورة صحيحة من أجل إعادة ترميم تلك العلاقة المهدومة أسسها، ولكنه لم يفعل وكانت النتيجة زواله بطريقة ساخرة غير مأسوف عليها، بل إنّ كلّ يوم يمر على العراق وتتكشف فضائحه المصبوغة بلون الدم يزداد اللاعنون له ولنظامه وللعهد الذي حكم فيه حزب البعث العراق.

درس كبير يجب أن يخرج به الحكماء من الحكام العرب الذين يندرجون في نفس المصنف الطاغوتي الذي يقبع فيه طاغية بغداد، وهو الاسراع نحو إجراء اصلاحات سياسية جوهرية في بلدانهم. فالمصير الذي لقيه طاغية العراق قد يلقاه كثير من الحكام العرب، من المحيط الى الخليج. ونقدّر لمن تنبه مبكراً لأهمية هذا الدرس مثل قطر واليمن.

ليس هناك ما يحول دون تساقط الاصنام في دول عربية عديدة، فقد كشفت قصة سقوط طاغية بغداد عن أن "القاعدة الشعبية للنظام" و"التأييد الجماهيري" للملك والرئيس والأمير ليست سوى شعارات يوهم هؤلاء بها أنفسهم ولكنهم يدركون تماماً أن الزيف وحده الحاكم في تلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

في بلادنا هناك مازالت فرصة أخيرة كيما تتفادى العائلة المالكة حادثة سقوط التماثيل (وإن لم يوجد تماثيل في الديار) ممثلة في قصائد المدح، وأغاني التمجيد، والصور والشعارات والبرامج التلفزيونية الدعائية الخاصة بإنجازات الملك وأسلافه، وأسماء الشواراع والمطارات والمدارس والمستشفيات ورياض الاطفال والمؤسسات الخيرية..بإمكانها منع ذلك السقوط بإجراء إصلاحات سياسية جوهرية تبدأ بإعادة تأسيس العلاقة بين الحاكم والمحكوم على مبدأ المواطنة الكاملة والصحيحة، ودستور دائم يحدد الحقوق والواجبات ويرسم صورة العلاقة القانونية بين الدولة وأجهزتها والمواطنين والسلطة، ويضمن الحريات العامة في التعبير والاجتماع.

نقول ذلك ناصحين وندرك تماماً بأن الأخطار المحدقة بالمنطقة باتت  قاب قوسين ولا يدرءها سوى متانة الروابط الداخلية ووحدة وطنية مبنية على أسس صحيحة ممثلة في توسيع قاعدة المشاركة السياسية وفتح إطار التمثيل السياسي بإستيعاب كافة الجماعات في دائرة صناعة القرار السياسي، وتحقيق الاندماج الوطني في المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية.