مستقبل السعودية

ناضجة للإصلاح.. جاهزة للتدمير

عبدالله الراشد

 

بعد سقوط شاه إيران، كتب الكثيرون عن إيران الثانية، وظهرت مقالات وكتب تحت هذا المسمّى كثيرة.

ومضت سنوات.. ولم تظهر هذه الإيران الثانية، ولم يتغير الوضع السعودي، اللهم إلا باتجاه المزيد من التشدد والمزيد من المزايدة الدينية، والمزيد من تعزيز التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية التي قيل أنها تخلّت عن الشاه في اللحظات التاريخية من عمر حكمه.

والآن، وبعد أن سقط العراق، بدأ الحديث مجدداً ليس فقط عن الهدف التالي للحملة الأميركية، بل عن الدولة التي قد تسقط بفعل عوامل داخلية تعززها التغيرات الإقليمية والدولية.. ومرة أخرى يأتي إسم السعودية في مقدمة الدول التي لا تستطيع الصمود.

وبين تاريخ سقوط الشاه وسقوط صدام حسين، هناك من تنبّأ بأن حكم العائلة المالكة السعودية لن يزيد عن خمس أو عشر سنوات، وهناك من بين المحللين من زعم أن النهاية أقرب مما يتوقعه الكثيرون وكتب كتاباً عن (سقوط العائلة المالكة الوشيك).

لم تكن التوقعات حول الشأن السعودي مبنية في أكثرها على دراسة عميقة للواقع السعودي، مجتمعاً وسلطة. والعائلة المالكة التي تستشعر الضغوط كانت تجد على الدوام بعض البدائل السياسية التي تمنع الإنهيار وكانت تحتمي برصيد مجرّب وغير مجرّب من الإجراءات السياسية التي استخدمتها بتوسع وهي في مأمن من ردود الأفعال.

بعد سقوط الشاه، كان هناك من توقع انفصاماً بين المؤسسة الدينية والعائلة المالكة وتكرار التجربة الإيرانية، ولكن الأخيرة استطاعت وبسرعة أن تمنح المزيد من السلطات لرجال المؤسسة لتحقيق المزيد من (توهيب) المجتمع السعودي. ومع ما هو معروف عن كره الملك فهد للمشايخ والمؤسسة الدينية، وأنه كان على الدوام ـ وقبل وصوله الى الحكم ـ يدعو الى إضعاف نفوذهم، إلا أنه وبعد الإنتصار الإيراني استطاع إعادة تسويق نفسه إليهم، أو إعادتهم إليه بمزيد من التقرب والمغالاة الدينية الظاهرة. وبدل أن تتحول القوة السلفية الى عامل تغيير داخلي، استطاعت العائلة المالكة أن تقذف بالتيار الديني السلفي في حمّى معركة ضد إيران والشيعة كفكر وكبشر على امتداد العالم الإسلامي، كجزء أصيل من سياسة المملكة الخارجية آنئذ، تلك السياسة كانت متوائمة مع النهج الأميركي المتشدد والعنيف لمحاصرة آثار الثورة الإيرانية في محيطها وفي العالم العربي.

وجاء حدث الإحتلال السوفياتي لأفغانستان، فكان نعمة من السماء، استطاعت العائلة المالكة أن توجه كل سهامها السلفية باتجاه (الخارج) وبعيداً عما يجري داخل المملكة، مشفوعاً بآمال بناء دولة إسلامية (سنيّة) تناطح النموذج الإيراني الذي تألّق من خلال ثورة شعبية، وكل ذلك في إطار محاربة الشيوعية وحرب معسكرات اليمين واليسار.

على الصعيد الداخلي كانت السعودية وقت قيام الثورة الإيرانية في قمّة الإكتناز المالي، حيث وصل سعر النفط الى أقصاه، وتجاوز في بعض الأحيان الأربعين دولاراً. كان هناك فائض من المال غطّى السوءات والسيئات، وعوّق ظهور أي بوادر للإصلاحات. ولأن المملكة كانت محميّة الظهر من قبل الحليف الأميركي، انغمست بشكل موسع في القمع الداخلي، خاصة لمواطنيها الشيعة دونما اعتراض من أحد، كما انغمست في مشاركة الولايات المتحدة مؤامراتها وخططها العالمية التي تتعدّى الدول الإسلامية الى أوروبا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. وبهذا أمنت العائلة المملكة من آثار الزلزال الإيراني.. الى حين.

اليوم وبعد أكثر من عقدين على وقوع الحدث الإيراني، تغيرت أمور وأمور، أهمها احتلال الكويت وقيام حربين انتهت بسقوط صدام حسين، وسقوط الإتحاد السوفياتي، وأحداث سبتمبر 2002، وسقوط الطالبان، وانهيار الأوضاع الإقتصادية الداخلية وانتهاء عهد الدولة الريعية، وتصاعد النقمة الداخلية المطالبة بالإصلاح وإنهاء الفساد بمختلف أشكاله.

هذه التطورات.. يمكن القول أنها جعلت الوضع السعودي الداخلي جاهزاً ومتطلعاً للتغيير السياسي، ولكن هذا التغيير لا يمتلك قوّة الدفع المحليّة، بالنظر لتفكك المجتمع السعودي، بحيث يفرض إملاءاته على العائلة المالكة. بمعنى أن الأخيرة قادرة ـ ضمن المعطيات الحالية ـ أن تواصل مسيرتها القديمة وأن لا تلتفت الى الإصلاحات، حتى وإن لم تتوفر الإرادة الشعبية لدعمها في ذلك. وهذا الأمر يفتح الباب للتدخل والضغط الخارجي ـ الأميركي الذي بدأ يظهر مجدداً بعد سقوط العراق. فعلى خلاف ما يعتقد أن سوريا هي الدولة التالية للتغيير، فإن المملكة ـ حسب رأي المتشددين في الإدارة ـ هي المرشح الثاني، وهي الأضعف في المواجهة. وقد جاء سحب القوات الأميركية من السعودية الشهر الماضي (أبريل) إيذاناً بفك الإرتباط بين النظام السعودي وواشنطن التي توفرت لها بدائل سياسية واقتصادية وعسكرية خلال العقد الماضي الأمر الذي يجعلها في دائرة الضغوط الأميركية المكثفة.

وحتى لو لم تقم الولايات المتحدة بدورها الضاغط.. فإن الوضع الداخلي السعودي الناضج للإصلاح، قد يتعرض لإنكسار وإنفلات كبير معاً. فالمملكة كما قلنا مهيئة تماماً للتغيير، وهو ما لا يبدو أنه قد أُدرك من قبل العائلة المالكة. وهذه التهيئة إذا ما تعرضت لنكسة ناجمة عن الرفض في إجراء الإصلاحات، ستفتح الطريق للخطوة التالية: العنف المستديم. النضج السياسي الذي يواجه بالصدّ وعدم الحكمة، قد ينقلب الى عنف تخريبي، قد يفضي الى تمردات مناطق على طريقة الدومينو، وقد تتظافر في حالات شغب لتتحول الى ما يشبه ثورة عنيفة تحرق اليابس والأخضر، بحيث تفتح الطريق لتدخل خارجي مباشر، قد يؤدي الى تقسيم المملكة، أو/ و إنهاء حكم العائلة المالكة.