مطبخ بيشاور وطبخة غرناطة
لماذا حدثت إنفجارات 12 مايو في السعودية؟

 مشاري الذايدي

 كنت في بيشاور عشية حرب الخليج الثانية، وتحديدا في شارع «عبد الله رود» لإجراء اتصال هاتفي مع أهلي في السعودية، وكان معي مجموعة من السعوديين الذين ذهبوا الى أفغانستان «زمن» قصة الجهاد الافغاني. اقترب منا شاب مصري قصير مكتنز يتحرك برشاقة، تبادل بعض الاشارات غير الودية مع صاحبي، وتراشقا بالنظرات الملتهبة، وما هي إلا لحظات حتى بدأ هذا الحوار:

صاحبي: أنتم اناس معروفون بأفكاركم الشاذة.

القصير: أنتم لا تعرفون التوحيد والحاكمية.

صاحبي: يجب عليكم طلب العلم على المشايخ.

القصير: هؤلاء هم علماء السلطان، وعبيد الطاغوت.

صاحبي: ماذا تريد منا، هل تريد ان تلعب معنا؟

القصير: سنلعب بكم لعبا ساخنا، أنتم ضلال وأتباع للحكومات العربية الكافرة.

جرى بعد ذلك سباب وشتائم متبادلة، ومضى القصير المكين وهو يلقي بنظراته المتوعدة. لم يكن ذلك الا عضوا في جماعات التكفير والهجرة المصرية التي توافدت على بيشاور في تلك السنوات، واتخذت منها مقرا للنشاط والتبشير، دون أن تكلف نفسها عناء الدخول للجبهات في أفغانستان. لقد كانت تلك المرحلة وذلك المكان فترة ذهبية لنمو وترعرع التيارات الاسلامية الحركية، فهي التقت على عداء الحكومات العربية، كقاسم مشترك، ثم تفرقت بهم السبل وتفرغت كل طائفة لتقديم رؤيتها الاسلامية للحل.

تحولت بيشاور الى عاصمة للأصوليين في العالم. كان من مظاهر ذلك كثرة البيوت المستقلة التي كان يأوي اليها «المجاهدون» أو الإسلاميون العرب، ففي ناحية «حياة آباد» الراقية، كانت تتوزع بيوت تلك المجموعات الحركية، المنفرزة إما على أساس فكري، وإما على أساس الجنسية والانتماء الوطني، فكان هناك بيت لليمنيين، وبيت للفلسطينيين، وبيت لليبيين، وبيت للسوريين. كانت أنشط الجماعات هي الجماعة الاسلامية المصرية وجماعة الجهاد، في الجانب التبشيري واستقطاب الأنصار، وكانت جماعات التكفير كذلك، كان الفرق بينهما يكمن في الاشتراك مع الأفغان في قتالهم ضد الشيوعيين، فقد كانت جماعات التكفير والهجرة تقصر نشاطها على التبشير داخل بيشاور.

بطبيعة الحال لا يمكن إهمال دور «مكتب الخدمات» و«بيت الأنصار» ومن خلالهما، عبد الله عزام وأسامة بن لادن، فقد كانا هما اسياد الساحة العربية في بيشاور. صحيح أن السلفيين السعوديين أسسوا بالتحالف مع القائد الافغاني المحلي «جميل الرحمان» جماعة جديدة تقوم على التوكيد على الاولويات الوهابية المعتادة (حرب البدع، مناهضة مظاهر التدين الشعبي كتعليق التمائم وما إليه) غير أن التميز الأهم لدى جماعة جميل الرحمان والسعوديين المتحمسين له، كان عدم السماح بالحديث عن تكفير الحكومات العربية وخصوصا السعودية، والصرامة في ذلك بحيث يطرد أي انسان يتضح منه الميل لتكفير الحكومات العربية. كان بيت «الانصار» التابع لاسامة بن لادن ومعسكراته مثل (صدى، الفاروق..) تبعد أي انسان يبشر بتكفير الحكومات العربية، لكن هذا الإجراء كان حركيا أكثر منه عقائديا، عكس جماعة جميل الرحمان التي كانت ترتبط بالعلماء السعوديين الرسميين.

الذي يهمنا في هذه التفاصيل كلها هو السؤال التالي: كيف نشأ التيار الجهادي السعودي الذي نفذ التفجيرات «الرهيبة» في مدينة الرياض عشية 12 مايو؟

لا شك أن مرحلة بيشاور مسؤولة بدرجة مركزية عن ولادة هذا التيار «الجهادي» التكفيري السعودي. أوضحنا أن الجماعات الاسلامية وجدت في بيشاور تربة خصبة للحركة والنشاط، من الجماعات المصرية،الى فلول الاسلاميين الهاربين من سوريا، الى الهاربين مثلهم من الشمال الافريقي (ليبيين وجزائريين على وجه الخصوص)، فقد كان القاسم المشترك بين هذه المجموعات هو كونها منبوذة من دولها التي جاءت منها، وبالتالي فمراكب العودة لديها محروقة. السعوديون ومعهم الخليجيون واليمنيون، لم يكونوا مطاردين او هاربين من حكوماتهم، لقدا جاءوا بمحض اختيارهم وبمباركة من دولهم. صحيح أن مصر السادات كانت متعاطفة مع «الجهاد الافغاني» وجاء بعض القادة الافغان الى مصر ودعوا للجهاد ضد السوفيت هناك، إلا أنها سرعان ما حزمت أمرها وجددت الملاحقات الامنية لهم، ثم تحولوا الى اعداء خلص بعد مصرع السادات على أيديهم.

السعوديون كانوا غير محزبين، كان فيهم شيء من العفوية والبراءة الحركية، قدموا الى افغانستان بفعل الدعاية المكثفة، لصالح الجهاد الافغاني. لقد كان عملا هائلا اشترك فيه الجميع ضمن سياق الحرب الباردة بين امريكا والاتحاد السوفيتي، القلة كانوا واعين بموقع هذه الحرب ضمن السياق العالمي، الكثرة كانوا بعيدين عن رؤية الصورة بهذا الاطار، لقد كانوا مدفوعين بمحركات عقائدية خالصة. وما زلت أذكر المكاتب التي كانت تقدم التسهيلات في الرياض للراغبين في الجهاد ضد «الكفار» في أفغانستان. وكان كثير من الطلاب يخصصون إجازاتهم السنوية لقضائها في جبهات أفغانستان، ولن يجد الطالب أي عقبة في سبيل ذهابه، التذكرة مخفضة جدا، ومدفوعة ايضا ضمن المبلغ المخصص لتجهيز «الغازي في سبيل الله». ذهبت مجموعات كبيرة في حركة منهجية منظمة، من منتصف الثمانينات إلى أوائل التسعينات، هذه الامواج السعودية البشرية، انصبت في بحر «بيشاور» المصطخب بالجماعات الاسلامية الحركية. حافظ السعوديون على تماسكهم هناك، تسرب البعض منهم الى هذا الطرف او ذاك، كان بن لادن، الممول الأساسي لهم، حريصا على تحديد الهدف بمقاتلة الشيوعيين في افغانستان فقط، دون الدخول في متاهات الجماعات المصرية والمغاربية، ولكنه لم يكن مثقفا حركيا بشكل كاف، صحيح أنه كان محسوبا على تيار الإخوان المسلمين في السعودية، لكنه لم يكن منضبطا والدليل على ذلك تحالفه اللاحق مع ايمن الظواهري زعيم الجهاد المصري وعدو الإخوان المسلمين اللدود.

اعتقد أن النقطة المركزية في تحول السعوديين الافغان نحو الثورية الجهادية التكفيرية بدأت مع بدايات التسعينات الميلادية وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، فقد وفد إلى أفغانستان، هاربا من الكويت، شخصية مهمة ستلعب دورا خطيرا في التكوين الفكري والايديولوجي للجهاديين السعوديين، أبو محمد المقدسي، كماعرف، أو عصام برقاوي كما هو اسمه الحقيقي، وهو أردني من أصل فلسطيني، أقام في الكويت فترة معينة، وانخرط في تيار أهل الحديث الثوريين، ورثة تيار جماعة «جهيمان العتيبي» التي احتلت الحرم المكي عام 1979م وكانت هذه الجماعة ناشطة في الكويت، وكان المقدسي ناشطا ضمنها، فترة الثمانينات إلا أنه اختلف مع بعض رموزهم خصوصا حينما بالغ في مسألة التكفير، وقد ألف عدة مؤلفات في هذه الفترة أهمها، في فترته الاخيرة، كتاب «ملة إبراهيم» وهو يشبه كتاب «معالم في الطريق» في درجة تأثيره وصياغته لايديولوجيا «الجهادية السلفية». يقوم كتيب ملة إبراهيم على فكرة بسيطة مفادها الأخذ بملة النبي إبراهيم الذي امرنا الله بالاقتداء به كما في نص الآية التي تقول «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده...». سورة الممتحنة. هذا الأخذ و«التأسي» يتمثل بالكفر «بالطاغوت» والبراءة منه، الطاغوت الذي يعتبر الكفر به عروة الايمان الوثقى. هذا الكفر يتجلى في صور كثيرة، أهمها من لم يحكم بما أنزل الله، كما قالت الآية القرآنية «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» وبما أن «جميع» الحكومات العربية لا تحكم بما أنزل الله، حسبما يقرر المقدسي، فهي إذن طاغوت من الطواغيت التي امرنا بالكفر بها والبراءة منها، اسوة بإبراهيم النبي، ومن هنا جاء اسم الكتاب. المثير أن المقدسي لا يكتفي بمجرد الإعلان اللفظي للكفر بالطاغوت، بل يتدخل في تحديد أشكال هذا الكفر، فلا يجوز أن ينخرط المسلم في وظائف الطاغوت وخصوصا في السلك العسكري، ولاحقا أفتى المقدسي بكفر القوات الأمنية العربية كما كان اتباعه يؤكدون.

المقدسي بعدما قدم الى بيشاور في باكستان عقب غزو العراق للكويت جاء الى السعودية فترة محدودة، وتعرف على من تعرف هناك، بيد أن «الجو» لم يرق له كثيرا، فعاد إلى الأردن، وفي الاعترافات التي أدلى بها منفذو تفجيرات الرياض في نوفمبر عام 1995م أنهم كانوا يجلبون كتيبات المقدسي من الاردن مهربة. قبل ذلك نشير إلى محطة المقدسي في بيشاور، فقد اقام هناك لعدة اشهر، بعض المتابعين قدرها بستة اشهر، طبع خلالها كتابه الشهير «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية» ووزع الكتاب بكثافة عالية وتم تهريبه الى السعودية بكثافة ايضا. ويذكر بعض من عايش تلك المرحلة أن مسجد الهلال الأحمر الكويتي كان مسرحا لتوزيع هذا الكتاب، الذي طبع أكثر من ثلاث طبعات. خلاصة هذا الكتاب البرهنة على أن النظام السعودي نظام خارج عن الاسلام لأنه يحكم القوانين الوضعية المضادة لشرع الله. طبعا كان المقدسي يملك المقدرة النظرية لتكفير من لم يحكم بشرع الله، ولكنه كان يفقد الدليل والمواد والوثائق التي تثبت وجود القوانين الوضعية في السعودية، في هذا الجزء لا شك أنه حصل على مساعدات سعوديين جلبوا له المواد والانظمة المطلوبة لتطبيق نظرية المقدسي عليها، ومن ثم اثبات كفر النظام. من هنا نستطيع التأشير الى بدايات تخلق التيار الجهادي السعودي، وعرابه النظري أبو محمد المقدسي.

«الكواشف الجلية» من أخطر الأدبيات التي صاغت التيار الجهادي السعودي، وقد طبخ في مطبخ بيشاور الذي كان يفوح بروائح النكهات الردايكالية المختلفة، لنضع في الاعتبار تحول بن لادن شيئا فشيئا الى فكر جماعة الجهاد الاسلامي، والذي تم بشكل سافر ونهائي، مع رحيل بن لادن الى افغانستان من السودان، هو وزعيم الجهاد ايمن الظواهري. بن لادن كان يحلم ايضا بتوسيع الجهاد الى الجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفيتي، وقد بدأ ذلك بالفعل في طاجيكستان ثم الشيشان التي ذهب اليها أحد تلاميذه «خطاب» وأقام هناك قاعدة جهادية، وان كان بن لادن إلى تلك اللحظة، لم يتجه بعد بشكل واضح الى توجيه القتال الى داخل العالم العربي، وفي الأثناء مرت محطات: البوسنة والهرسك وكوسوفو، وقبلهما كان هناك كشمير والفلبين واريتريا، كل هذه المحطات وفرت قواعد للعمل و«الاعداد» العسكري، معطوفا على الإعداد النظري الأيديولوجي.

كان الشباب السعوديون بعد بدء حرب الاخوة الاعداء في أفغانستان قد عادوا الى بلادهم وما لبثوا قليلا حتى اندلعت جبهة البوسنة فخفوا اليها وعاد السيناريو الافغاني من جديد، دعم رسمي للتوجه، مساندة شعبية، مباركة دينية، وسمعنا بالبوسنيين العرب، كل هذه المنعطفات الحركية الحادة، لقحت وجدان الشباب السعوديين بالرومانسية الخلاصية الاسلامية، خصوصا بعد تعرفهم على الخلاصيين الاسلاميين من هنا وهناك.

عاد من عاد من البوسنة، ولكن بقي التأثير الأهم لمرحلة افغانستان مرحلة التأسيس، وتولد وعي جديد لدى «بعض» الجهاديين السعوديين، هو بالضبط وعي أبو محمد المقدسي، حتى وصلنا محطة سيطرة «طالبان» على افغانستان، وإقامة الامارة الاسلامية، وتسمي الملا عمر بأمير المؤمنين، وازدهار وضع اسامة بن لادن وحليفه الظواهري تحت حماية طالبان، وبدأ «النخبة» من الجهاديين السعوديين يتوافدون من جديد على أفغانستان للتدرب و«الإعداد» في معسكرات بن لادن، كثير منهم كان يقدم «البيعة» وينخرط مع التنظيم الجديد «القاعدة» ويعود إلى دياره إذا شاء، على أن يجيب النداء في «المنشط والمكره» إذا دعت الحاجة، ثم دعت الحاجة لاخراج القوات الأمريكية من «جزيرة العرب» فبدأت الأعمال العسكرية تتوالى، تفجيرات العليا في الرياض، تفجيرالمدمرة كول في اليمن، تفجيرات تنزانيا وكينيا، وصولا الى نقطة الذروة : تفجيرات 11 سبتمبر التي عطفت الاستراتيجيا والتاريخ بعدها.

البداية كانت مع أسقاط أمريكا طالبان و«القاعدة» بعدها. هجمات 11 سبتمبر وتداعياتها على الساحة الأفغانية تسببت في بروز تيار المشايخ الجهاديين في السعودية وعلى رأسهم الراحل حمود العقلا، وكانوا مساندين شرسين لطالبان والقاعدة، وأفتوا بوجوب الوقوف إلى جنب طالبان ومقاومة الحرب ضد الارهاب، التي كانت الحكومة السعودية قد أعلنت انضمامها إليها، نشطت هذه الجبهة الجديدة من المشايخ وبدأت تسحب البساط من مشايخ الصحوة التقليديين، وزاد نشاطها مع حرب العراق الأخيرة، وبدأت تصعّد في فتاواها، واتخذها الشباب الجهاديون مرجعية شرعية لهم. استمر الامر بينهم وبين الحكومة السعودية بين مد وجزر، وبقية الصحويين يتفرجون على المعركة، والجهاديون ومراجعهم العلمية يشعرون بضيق الحصار عليهم، حتى تم الكشف عن خلية إشبيلية قبل بضعة أيام، وكانت صدمة للمجتمع السعودي، ولم نلبث قليلا حتى ضرب «الجهاديون» السعوديون ضربتهم الكبرى يوم الاثنين الماضي 12 مايو.

هذه الخلفية التاريخية الموجزة، ربما تعطي القارئ لمحة تضيء له الجواب على هذا السؤال: كيف جرى ما جرى يوم 12 مايو في الرياض، وماذا يريد الذين قاموا بهذا العمل؟ لكن المعرفة تبقى ناقصة إذا حاولنا أن نفهم الحدث من زاويته الأمنية فقط، أو حاولنا أن نعزل الحدث عن رحمه الذي ولد منه، إن هذا الرحم ما زال موجودا، وهو خصب يهب دائما نفخة الحياة للجسد الذي فجر الرياض عشية الاثنين البئيس.

إنها تفاعلات، وعلائق اجتمعت في فترة استثنائية تحولت فيها بيشاور إلى «بابل» أصولية، تبلبلت فيها الألسنة والعقول، وتمخض الرحم فولد 11 سبتمبر و12 مايو، مطبخ كان فيه شيء من سيد قطب، وشيء من شكري مصطفى، وشيء من مروان حديد، وشيء من جهيمان العتيبي، وشيء من إخوان «السبلة» وشيء من مرجعية حمود العقلا الفقهية والتاريخية. مضافا إليها البهار الهندي والتوابل الباكستانية. فخرجت هذه الطبخة المذهلة.

إننا نخطئ كثيرا إذا لم نع أن هذه اللحظة التي نعيشها في السعودية الآن، لحظة استثنائية يجب أن نتوقف فيها كثيرا لنجري حركة إصلاح كبرى و«حقيقية» للخطاب الديني المحلي، حركة تأخذ من الإمام محمد عبده عقلانيته، ومن جودت سعيد سلميته، ومن البوطي فهمه للجهاد، ومن الشيخ شلتوت عصرانيته، ومن السلف الأوائل تيسيرهم الفقهي الرحيب، ومن كل مدرسة فقهية في بحر التراث الاسلامي الكبير ما يساعدنا على العيش في العصر والإسهام في الحضارة البشرية، وقبل ذاك في نفع انفسنا وأناسنا.

لا أرى حدث 12 مايو إلا قبحا خالصا، لكن إن كانت له من حسنة، فلعله يوقظنا من هذا السبات العميق والخروج من هذا الدائرة المغلقة، لعله.

عن الشرق الأوسط 15/5/2003