قراءة في مشهد الاصلاح السعودي

 هاني العسكر

 بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الإتحاد السوفيتي، وتفرد الولايات المتحدة الامريكية بتقرير مصير العالم، عبر التحكم في بنية مؤسساته السياسية والاقتصادية والثقافية، وفرض نمط جديد من العلاقات الكونية كبديل عن نسقيات مركزية كانت تدير المجتمع ومؤسساته الاجتماعية والثقافية بموروثها الإيديولوجي، دون الحاجة إلى التحديث حتى لو كان ذلك التحديث والاصلاح يعكس مشتركاً إنسانياً.. بعد كل هذه التطورات ظهر نوع جديد من أيديولوجيا المصالح والعلاقات السياسية والاقتصادية، قامت بإحلال نفسها كبديل عن تلك الأطر والنسقيات التقليدية، التي كانت تمثل أقصى الوسائل المدنية للمجتمعات والدول.

فهذه التطورات الجيوسياسية والاقتصادية، فرضت تحديات، وأحدثت زعزعة لأيديولوجيا الدولة المركزية، ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم أجمع. فتعاقب هذه الأحداث والتطورات وخصوصاً الحرب الاخيرة على العراق وما حققته من إنجازات سريعة أذهلت الامريكان أنفسهم قبل غيرهم مما فتح الشهية الامريكية لمزيد من خوض الحروب، لتحقيق المصالح وتغيير قواعد العلاقات الدولية، وإعادة رسم خرائط السياسة، وفقاً لأيديولوجيا المصالح وعقيدة سياسية جديدة، ترى ان العالم تبدل ولم يعد هو العالم بعدأحداث سبتمر، والحرب على العراق . لا نريد أن نتكلم عن الوطن العربي ولكن أخصص هذا المقال لقراءة التحولات التي تشهدها السعودية في الداخل والتحديات التي تواجهها من الخارج.

فحرب العراق الاخيرة تركت تداعيات خطيرة على الأمن القومي للدول العربية، ومن بينها المملكة العربية السعودية التي تأثرت كثيراً من هذه الأحداث والتطورات ومـن إنعكاساتها علـى أمنها الداخلـي والاجتماعي، فبعد تأثر علاقاتها بالولايات الامريكية وفشل الأولى في استيعاب هذه التحولات التي شهدها العالم بعد إحداث سبتمر، وعدم قدرة هذا البلد على قراءة التحولات التي شهدها المجتمع السعودي، وتغافل دعوات الاصلاح السياسي والثقافي والديني، كل هذا شكل تراكمات لم تحسب له الدولة السعودية حساباً، فهي لم تضع في حسبانها كيف تتعايش مع هذه المستجدات التي فرضتها التطورات السياسية إقليمياً وعالمياً، وما تواجهه المؤسسة الرسمية من عجز بدا واضحاً في تخبط مسؤوليها في طريقة التعامل مع الأزمات الداخلية.

هناك حركة سياسية نشطة تمثلها كل شرائح المجتمع، وتحمل تطلعات كبيرة لا تستطيع هذه المؤسسات التقليدية تلبيتها وهي بهذا الحال السيئ من الفساد الإداري والإقتصادي، وكذلك بنيتها الدينية المتطرفة التي لا تتلائم بأي حال مع تطلع الناس الثقافي والإجتماعي والسياسي، فضلاً عن بنية النظام السياسي المهترئ والذي بدا فيه التململ وعدم القدرة على أمتصاص هذه التحديات بطريقة عصرية. والملفت للنظر أن مؤسسات الدولة التي يفترض أن تدير بدت معزولة عن حركة الشارع الذي أخذ زمام المبادرة غير آبه بهذه المؤسسات التي فقدت كثيراً من مبررات وجودها، والذي أخذ يتداول أجندة الاصلاح السياسي من خلال المنتديات والمنابر السياسية غير الرسمية التي تعبر عن تحدي الناس لتقاليد السلطة السياسية التي تحرم على الناس الخوض في الاصلاحات السياسية، أو الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني والمشاركة السياسية.

مثل هذه المواضيع كانت حتى وقت قريب ممنوعة وتعاقب عليها الدولة، فلا أحد يستطيع إثارتها في الاماكن العامة، ولكن ونتيجة تزايد الضغوط الخارجية وما تركته من أثر على الوضع الداخلي، جعل الناس يطورون سقف تطلعاتهم السياسية والثقافية ويجاهرون بهذه الأفكار دونما اكتراث بهذه المؤسسات التي فقدت مصداقيتها في المجتمع السعودي، إن احتكار هذه المؤسسات للاصلاح الديني والاجتماعي، وإلغاء دور المجتمع كلياً من أي مشاركة فعلية، بات غير ممكن في ظل هذه المتغيرات التي تفرض على الدولة بعضاً من المرونة للتغلّب على المشاكل المتفاقمة والإنسدادات السياسية وذلك عبر إعطاء فسحة من المكان لتأسيس وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وعبر فصل السلطات الثلاث، وإجراء الإنتخابات الحرّة، والمشاركة السياسية في قرارات الدولة، دون الاستفراد به من قبل قوى الضغط الديني. إن الممانعة في إجراء مثل هذه التغييرات والاصلاحات السياسية يحفّز على التدخلات الأجنبية في شؤون البلاد، ومن هنا باتت الدولة السعودية أمام إستحقاقات تاريخية لا مفر منها، وإن محاولة إستخدام القوة الراديكالية الدينية لكبح جماح حركة التغيير الاجتماعي لن تجدي نفعاً.

 في السابق، كان الخيار الوحيد المتاح للتعبير عن أي عملية تغييرية هو التعبير عنه عبر مدخلية دينية، أما الآن فقد تعددت خيارات التغير الاجتماعي والثقافي في داخل المملكة وبشكل علني، مع ما تواجهها هذه الحركة من ردود فعل سياسية ودينية.. ومن أمثلتها إقالة رئيس تحرير جريدة الوطن بعد صدور الفتوى القاضية بعدم قراءة الجريدة، وتحريض كبار العلماء للحكومة من أجل إقالته، وقد استجابت بالسرعة الممكنة لذلك الضغط، وهذا يكشف مدى الارتباك الواضح في سلوك كلٍ من المؤسسة الدينية والسياسية والصدمة الناجمة عن وجود تيار أجتماعي إصلاحي يتطلع لمزيد من الاصلاحات الاجتماعية والسياسية .

بيد أن الدولة تقرأ مثل هذه التحديات الداخلية من منظار قواعد اللعبة السياسية القديمة والقاضية بالمحافظة على تحالفها الاستراتيجي مع المؤسسة الدينية، ولكن التحدي الحقيقي يتمحور الآن في أجندة الاصلاح التي تعكس تعدداً سياسياً واجتماعياً وايديولوجياً، فهناك أكثر من خطاب سياسي ينادي بالاصلاح، ومن بينها خطاب التيار اللبرالي الذي كثف مشاركته في الآونة الأخيرة، في الوقت الذي تطالب جهات خارجية وداخلية بتفكيك المؤسسات الدينية وتقليص دورها الديني والاجتماعي. من هنا يبرز التحدي في مشهد الاصلاح السياسي والديني في داخل السعودية وذلك لحساسية الراديكاليين الدينيين من مجرد مسمى اللبرالية فضلا حضورها الوجودي الثقافي والسياسي. فكيف تتعامل الدولة مع هذه الإرباكات في تركيبة المجتمع من جهة وفي إمتصاص الضغوط الخارجية والتي هي أحد مصادر التحدي الداخلي؟