ما بعد انحسار دور الدولة الأمني
هل من رشيد يحقق المصالحة الوطنية الشاملة؟

 

 الانزلاق الخطير نحو مسلسل تصاعدي للعنف كما تنذر بذلك تفجيرات الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي يعيد تأكيد خيار المصالحة الوطنية وبإمتياز فريد من أجل كسر حلقة الخصومات التي باتت تهدد بتمزيق شبكة العلاقات الداخلية والتي قد تأخذ أشكالاً انفجارية غير قابلة للتطويق.

تفتح إنفجارات الرياض ومسلسل العنف المتواصل بصورة متقطعة في مناطق متفرقة من المملكة المناظرة المؤجلة حول المهمة الوطنية للدولة. فالمناطق المنتظمة في وحدة جيوسياسية عام 1932 لم تشهد انصهاراً وطنياً، ولم يتولّد منها وطن واحد وأمة واحدة، فقد ظلت عناصر الانقسام والخصومة في تلك الوحدة السياسية تحكم العلاقات الداخلية بين المناطق من جهة وبينها وبين الدولة من جهة ثانية، وعلى ذلك أرسيت كل أساسات التقسيم فطبعت سياسات الدولة، وتجسّد ذلك في تقسيم الثروة وتوزيع السلطة والخدمات وفي قوانين الدولة وأجهزتها وفي رؤيتها لمن تسوس. وقد وجد السكان ـ أغلبهم على الأقل ـ أنفسهم في حالة خصام مع دولة كان يفترض أن تمثل مصدر الحماية والرعاية لهم، بل وجدوا ـ أغلبهم أيضاً على الأقل ـ أنفسهم في خصومات مفتعلة مع بعضهم دونما أسباب ظاهرة سوى ما تغذّيه الدولة بسياساتها أو بعض أجهزتها كمتطلب استثمار التناقضات الداخلية من أجل الفوز بالسيطرة وإدامة أمد السلطة.

الدولة بما هي إطار سيادي كان بإمكانها البقاء خارج دائرة الانقسامات الداخلية وكان بإمكانها إستعمال كل إمكانياتها المالية والاعلامية والسياسية من أجل تنشئة الوحدة وإشاعتها بين الجماعات المنضوية داخل الدولة، وهذا ما تفعله كل دول العالم، ففي سويسرا على سبيل المثال نجحت الدولة في بلورة صيغة توافقية قادرة على استيعاب كافة القوى السياسية والاثنية، التي وجدت في هذه الصيغة متّسعاً لها ومساحة تمارس عليها حقها السياسي دون إفتئات من قوة على أخرى، ولذلك كانت الديمقراطية التوافقية نظاماً ناجحاً في سويسرا وغيرها من الدول التي تحتضن جماعات منقسمة بصورة حادة، بحيث تحول النظام الى مصهر سياسي مرن قادر على تلبية حاجات الجميع. ليست السعودية وحدها التي تضم طيفاً واسعاً من القوى الاجتماعية والسياسية والمذهبية المتباينة حتى تحتاج الى حل إستثنائي بل هو حال يعيشه أغلب دول العالم، فليس هناك دولة متوحدة عرقياً واثنياً وثقافياً وحتى فرنسا معقل القومية ومحل ولادتها لم تكن بمنأى عن هذا التنوع الاثني والثقافي والعرقي.

جذر المشكلة وجوهرها في بلادنا أن الدولة تحوّلت الى لاعب رئيسي في حلبة الخصام الداخلي بل وداعم له ومحرّض عليه، وقد أدى ذلك الى إختلالات إجتماعية مضطردة. لعل الظروف الاقتصادية والسياسية السابقة والمستقرة نسبياً الى حد ما أسهمت في إخفاء وكبت تلك الاختلالات وليس إلغاءها، ولكن التحوّلات الاقتصادية والسياسية السالبة كشفت وبدرجة عميقة عن تصدّعات بنيوية خطيرة في الدولة، ولم يعد هناك من حلول تلفيقية أو خيارات تكتيكية هروبية يمكن التوسّل بها لتعطيل المسار الانهياري الذي تسلكه الدولة.

يدرك المتضررون في الحجاز والشرقية والجنوب والشمال بأن الدولة لم تلبِّ الحد الأدنى من تطلعاتهم السياسية والثقافية كما لم تحقق لهم مستويات مرضية  من العيش والرفاه، ويدرك المتضررون أيضاً بأن الدولة نشأت على قاعدة خصومة مع عقيدتهم وخصوصياتهم الثقافية والتاريخية، وأن نشوة النصر العسكري قد عزّزت تلك الميول الانقسامية لدى قادة الدولة قبل غيرهم.

ثمة خشية بأن الخصومات الداخلية بين القوى الدينية والاجتماعية والتي جرى تغذية بعضها من قبل الدولة قد تتفجر هي الأخرى بصورة عنفية، في ما يشبه الحرب الأهلية. فمخزون العنف في هذا البلد هائل، وأن مبررات انفجاره قد تكون جاهزة، إن لم تكن جاهزة فعلاً، فالمبررات الدينية للبدء بتصفيات جسدية والاشتباك المسلح متوفرة لدى الجناح المتشدد من التيار السلفي. فالدوافع المحرّضة على قتل الأجانب وتخريب المنشآت قابل للاستخدام ضد السكان المحليين، فالأدبيات الدينية تلقّن الموحدّين رسالة أن قتل المشركين من أهل الكتاب ومن المسلمين سواء بسواء بعد إقامة الحجة عليهم واجب منزل من السماء. وهذه الرسالة لم تتسرب عبر منشور سري أو جلسة مغلقة بل هي تلقى جهراً وعلانية في مساجد الدولة وجامعاتها والكتب المطبوعة على نفقتها، كما تصدر في فتاوى علماء أعضاء في مؤسستها الدينية.

ثمة حيرة يتركها انحسار دور الدولة في غمرة الانفلاتات الخطيرة وكأن هناك من يريد إبلاغنا بأن الدولة فقدت السيطرة الأمنية على المساحة التي تتمسرح سياسياً عليها، وليس هناك من قدرة لديها سوى النزول الى مستوى الخصماء بأن تكون أحدهم.

كان مخيّباً حقاً ردود فعل وزير الداخلية وولي العهد ووزير الخارجية على تفجيرات الرياض، فقد أفرغوا حنقهم في لغة من الطراز القديم، لغة "سنضرب بيد من حديد" و"لن يفلت الفاعلون من قبضة الأمن" وباقي الجمل القصار المحمّلة بالنذير. لقد تعامل كبار القوم مع التفجيرات وكأنها قضية في حادثة، أو نبت طارىء، ولذلك جاء الحل من سنخ المشكلة، على طريقة معالجة الإرهاب بالإرهاب. ولأن الكبار يرون بأن العنف خارجي المنشأ والتوجيه، فقد أجمعوا أمرهم على التعامل معه بملاحقة المشتبه بتورطهم في الحادثة، والذين لا يتجاوز عددهم تسعة عشر شخصاً، وتناسى القوم سلسلة طويلة ممتدة من حوادث العنف والاضطرابات الأمنية. وسننقل هنا ما رصده موقع (الجزيرة نت) من حوادث استهدفت الأجانب وبخاصة القوات الأميركية المتمركزة في السعودية:

ـ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995: أسفر انفجار سيارة ملغومة بمجمع عسكري أميركي في الرياض عن مقتل سبعة أشخاص منهم خمسة أميركيين وهنديان وجرح أكثر من 60 آخرين.

ـ 25 يونيو/ حزيران 1996: أدى انفجار قنبلة في شاحنة وقود إلى مقتل 19 عسكريا أميركيا وجرح ما يقرب من 400 شخص في مجمع أبراج الخبر الذي تستخدمه القوات الأميركية كثكنات عسكرية، الأمر الذي أدى إلى انتقال العمليات الجوية الأميركية إلى قاعدة الأمير سلطان الجوية على بعد 60 ميلا من الرياض.

ـ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000: قتل بريطاني وجرحت زوجته عندما انفجرت سيارتهما في الرياض.

ـ 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000: انفجرت سيارة في الرياض مما أدى إلى إصابة ثلاثة بريطانيين بجروح طفيفة.

ـ 15 ديسمبر/ كانون الأول 2000: أصيب بريطاني بجروح خطيرة في انفجار طرد على شكل عبوة عصير وضع قرب الزجاج الأمامي لسيارته في مدينة الخبر شرقي السعودية.

ـ10 يناير/ كانون الثاني 2001: وقع انفجار في مركز تجاري وسط الرياض ولكنه لم يسفر عن إصابات أو أضرار حسب مصدر أمني سعودي.

ـ 15 مارس/ آذار 2001: أسفر انفجار قنبلة في سلة قمامة قرب أحد مطاعم كنتاكي بالرياض إلى جرح بريطاني وآخر مصري.

ـ 2 مايو/ أيار 2001: أدى انفجار طرد ملغوم إلى إصابة طبيب أميركي في مركز طبي بمدينة الخبر إصابة بالغة.

ـ 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2001: ألقى أحد المارة قنبلة على مركز تجاري بالخبر عشية القصف الأميركي لأفغانستان، مما أسفر عن مقتل مهندس بترول أميركي وإصابة آخر بالإضافة إلى بريطاني وفليبينيين.

ـ 12 مايو/ أيار 2003: هزت أربعة انفجارات ثلاثة مجمعات سكنية تضم أميركيين وغربيين وسعوديين في أنحاء مختلفة من الرياض مما أسفر عن مقتل 10 وإصابة أكثر من 60 شخصا منهم ما يزيد على 40 أميركيا. وتحوم الشبهات حول تنظيم القاعدة كما جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي كولن باول.

أما المشهد الأمني على المستوى الأهلي، وعلى مستوى المواجهة مع الدولة فهو الآخر يختزن قائمة مفتوحة من الحوادث المحمّلة بدلالات خطيرة ومفزعة. ففي الجوف جرت خلال الستة شهور الماضية أربع إغتيالات لمسئولين وقضاة محليين، ويجدر الالتفات هنا الى أن الوضع الأمني بلغ حداً من التدهور في هذه المنطقة بحيث أدى الى إنحسار السلطة بصورة نهائية في أوقات الليل. في الطائف أصبح القتل ومشاهد الجثث الملقاة على قارعة الطرق وحمل السلاح من قبل المعلمات في الطائف هو المألوف، يذكر أنه في النصف الثاني من أبريل الماضي وقعت اشتباكات جماعية متكررة قتل فيها اثنان، فيما يسمع بين حين وآخر عن اشتبكات بين السكان المحليين والعمال الأجانب.

سرقة السيارات والبنوك والاعتداء على المنازل وتجريف مراكز الصرف الآلي بما فيها من أموال، وبيع السلاح المهرّب من كل المنافذ البرية هي مشاهد أخرى تكاد تطبع مساحة واسعة من المملكة. ظاهرة المخدرات المنتشرة والعصابات المنظّمة والظواهر الفوضوية التخريبية التي تجتاح المناطق وسقوط المحرمات والتي كان أحد تعبيراتها الراديكالية ما حصل في المنطقة الشرقية مؤخراً حين قامت جماعة متشددة بحرق أربع مساجد وحسينيات في القطيف في ليلة واحدة وخطف عالم دين شيعي في القطيف ورميه في العراء دون اكتراث من أجهزة الأمن.

هذه نتف من المشهد الأمني الحالي في البلاد، ولا شك أن المشهد مفتوح على مستقبل مخيف طالما أن الدولة متمسكة بخيار الحل الأمني لمشكلة هي في الأصل غير الأمنية، أي بالتعامل مع الأعراض ونسيان المرض ذاته، فالمرض الحقيقي هو هذه الأزمة الشاملة التي أصابت الدولة فأخذت تعبّر عن نفسها تارة في بطالة مرتفعة ودين باهظ وانفلات أمني وسقوط مريع لهيبة الدولة وأشكال أولية من الإحتراب الداخلي والمرشحة لأشكال أخرى أشد قسوة. إن أول ما تخبر به تلك الحوادث هو أن مشروعية الدولة وهيبتها تآكلت الى حد لم يعد ينظر اليها بوصفها قوة رادعة، كما تخبر أيضاً عن فشل الخيار الأمني الذي كان أبرز تمظهراته العجز عن القبض على أي من المتورطين في حوادث العنف، وسقوط ضحايا من أفراد الأمن.

لم يكن الهدف من سرد القائمة المفزعة من حوادث سد منافذ الأمل، وليس الهدف أيضاً إسقاط خياراتنا في النهوض بالواقع نحو معالجته من جذوره، بل كل الهدف هو تنبيه الكبار في بلادنا الى أن الحل الأمني ليس المدخل الصحيح لتسوية المشكلات، فقد كان هذا الحل يصلح في الماضي لتحقيق هدف واحد فحسب، وهو تأجيل المشكلة وترحيلها، أما الآن فإن اللجوء إليه يعني تسجيراً للعنف وبأشكال أخرى غير قابلة للتنبوء. إننا نأمل في أن تنبّه تفجيرات الرياض وما قبلها الى ضرورة التخلي عن منطق شيخ القبيلة الذي يأمر فيطاع ولا خيار أمام أفراد القبيلة سوى السمع والطاعة.

البلد الآن تنتظر ظهور رجل رشيد يقود البلاد الى مصالحة وطنية شاملة، واضعاً نصب عينيه تصفية الخصومات الداخلية ووضع أسس التصالح بين السكان، داعياً الى حوار وطني مفتوح لتشخيص مشكلات الوطن ووضع البلاد في أيدي الكفاءات الوطنية النزيهة وتدشين مرحلة بناء الدولة على أسس ديمقراطية يرى فيها الجميع ضالتهم.