إنفجارات الرياض تدفع باتجاه مراجعة ملف العلاقة بين الدين والدولة

المعالجات ستكون قديمة.. والإصلاحات مؤجلة

حمزة الحسن

 

توضيح العلاقة بين الموضوع الديني والسياسي قد يكون الخطوة الأولى لحلحلة جملة من الأزمات العميقة التي رافقت الدولة منذ نشأتها، وبينها أزمة العنف الذي يتفجر بين الفينة والأخرى، وأزمة جمود النظام السياسي وبعده عن الإصلاحات، وأزمة الهوية الوطنية، والمخاوف التي تتهدد المملكة بالتقسيم والتجزئة.. وغير ذلك. في هذه المقالة محاولة لاستجلاء خلفيات العلاقة بين الدين والدولة وكيف أثرت على جوانب الحياة السياسية والإجتماعية في المملكة، ومستقبلها.

مرّة أخرى تفتح التفجيرات التي وقعت في الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي مجموعة من الملفات القديمة ـ الجديدة التي تصب في مجملها في رافد إشكالية العلاقة بين الدين والدولة. ومع أن هذا الموضوع ليس جديداً، فقد تمّت مناقشته باستفاضة في بعض الكتابات والبحوث العربية والأجنبية، إلاّ أن جوهر الأزمة في المملكة يتمتع بفرادة من نوع ما، تعود في الأساس الى طبيعة نشأة الدولة السعودية التي أعلن عنها في بداية الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي من جهة، والى نوعية نظام الحكم وسياساته ورؤاه حول هذا الموضوع.

أمران يلحّان على الدولة لإعطاء دور متميز للدين في الشأن العام: أولهما وجود الأماكن المقدسة التي تفرض على الدولة انتهاج سياسات معيّنة وتفعّل دور الدين في السياسة الخارجية كما الداخلية. وثانيهما، وهو الأهم، أن الدولة نفسها قامت على أساس ديني، وحروب دينية/ مذهبية، وقد ساهمت الوهابية بمشائخها في توفير الغطاء الشرعي لآل سعود في حكم نجد أولاً، وفي توفير غطاء شرعي آخر للحروب المذهبية واحتلال المناطق الأخرى ثانياً. وجاءت الإخوانية كصناعة مشتركة بين العلماء وآل سعود، فأدّت دورها كجيش أيديولوجي ضارب القوة سحق كل الخصوم، ثم جرى التخلّص منه من أجل بقاء الدولة نفسها، ومن أجل استمرار العلاقة بين العلماء والعائلة المالكة. كان استمرار العلاقة متميزة بين الطرفين ضرورة لبقائهما: النظام يحصل على الشرعية الدينية في محيطها الإقليمي النجدي، إذ لا ضرورة لها خارج هذا الإطار، حيث لا يعتبر السكان في خارج نجد الخضوع لآل سعود واجباً دينياً، بل ربما عكس ذلك. ومن جهة ثانية، يستطيع المذهب الإستفادة من الدولة في توسيع رقعة أتباعه ونشره في أصقاع المملكة والعالم.

لكي تضمن الدولة خضوع مشايخ نجد لها، وهم وحدهم المعنيون بتوفير الشرعية (إذ لا يهم نظام الحكم كثيراً موقف العلماء الآخرين سواء في الحجاز أو بين الشيعة في الشرق) كان لا بدّ من مأسسة النشاط الديني في مؤسسات ووزارات وإدارات وهيئات أصبحت من الناحية النظرية جزءً من جهاز الدولة. وبدا للبعض أن هذه المؤسسات الدينية قد حسمت إشكالية الموضوع الديني والسياسي فأُخضع الأول للثاني، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً بالقدر الكافي.

فالإشكالية الأولية جاءت من حقيقة أن الطرفين: الديني ممثلاً في المؤسسة الدينية، والسياسي ممثلاً في العائلة المالكة لم يلتفتا الى حقيقة وجود شيء إسمه (دولة قطرية) إذ لم تعد نجد مجرد مشيخة مثل المشايخ القديمة، فقد دخل العالم العربي والإسلامي بل والعالم أجمع حقبة الدولة القطرية بعيد الحرب العالمية الأولى، وتشكلت أنويتها في عهد حكومات الإنتداب، كما توضحت معالم حدودها، والدور الذي بدأت تأخذه ضمن مفاهيم الدولة الحديثة سواء تجاه مواطنيها أو تجاه الدول المجاورة. في حين أن الطرفين ـ آنفي الذكر ـ تعاطا مع الدولة الجديدة ضمن السياق القديم، سياق المشيخة، وحكم المتغلب، وسيطرة الغازي، وحقوق المنتصر القوي، وبقي الدين في شكله القديم غير قابل للتطويع ضمن حدود الدولة الجديدة، أو يعمل ـ بسبب التفسير الوهابي المتطرف ـ وفق مبادئه العامّة وقيمه الجمعية في حفظ الوحدة الداخلية. رجال المؤسسة الدينية لم يفصلوا ولا يؤمنون ـ كما هي الرؤية العامة بين المسلمين ـ بالفصل بين الفضاء السياسي والفضاء الديني، فهم يعتبرون أنفسهم شركاء في الحكم وفق قاعدة (أهل الحل والعقد) ورأوا بأن لهم الحق في التدخل في كل شؤون الدولة التي يفقهونها، أو التي تعرض لهم بصورة عرضية، رغم الإعتراف بأن هناك مسائل سياسية لا يفقهونها. ومن هنا فإن تقسيم المؤسسات الى دينية وغير دينية ليس أمراً ممكناً، فمما لا شك فيه أن هناك مؤسسات ذات طابع ديني مخترقة من قبل (السياسي) ومؤسسات سياسية وعسكرية وعلمية وأمنية مخترقة من (الديني) فكل من الطرفين اقتحم فضاء الآخر وأثّر على قراراته. وإذا كانت السلطة السياسية قد استطاعت تطويع القرار الديني الرسمي لصالحها في معظم الأحيان، فإن السلطة الدينية استطاعت هي أيضاً التأثير على القرار السياسي بقدر ما، خاصة فيما يتعلق بالشأن المحلي.

 ثنائيات لم تحسم حول طبيعة العلاقة

 حتى الآن لم تحسم في المملكة ـ وربما في غيرها من الدول ـ ثنائية عالمية الإسلام من جهة وتأطير التفسير الديني ضمن حدود الدولة القطرية. فبالرغم من أن المذهب الرسمي هو أكثر المذاهب الإسلامية إغراقاً في القطرية، لطبيعة نشأته المناطقية وبقائه ضمن أسوارها فيما يتعلق بالأفكار والقيادات والسياسات، إلا أنه يرى في ذاته مذهباً رسالياً يتجاوز دوره الحدود، ولا يعترف بالقطرية إلا على مضض، ولا يؤمن كثير من أتباعه بالوطنية (السعودية) كما لا يؤمن بالمواطنة كإحدى حقائق الدولة في عالم اليوم، بل يرى أتباعه من خارج الحدود أقرب إليه من المواطنين الذين يقطنون في نفس الدولة وعلى ذات الأرض.

هناك أيضاً ثنائية أخرى لم تحسم: هل نحن دولة إسلامية، أم دولة سلفية ـ كما أكّد الأمير نايف في أبريل الماضي ـ وعلى هذا تبنى الكثير من المفاهيم والسياسات. فإذا كانت الدولة إسلامية فإن المبادئ العامة للدين تعمل على تمتين اللحمة الداخلية وتعزز المشترك، أما إذا كانت الدولة سلفية فإنها تشق الصف، لأن أكثر سكان المملكة ليسوا سلفيين، وبالتالي تتخذ السياسات الدينية وما يبنى عليها من قرارات صفة الجبر والإكراه. وغير هذا، هناك إشكالية حقيقية تتعلق باتجاه الدولة نفسها، فهل نحن بصدد صياغة دولة (دينية) وهل يمكن في الأصل قيام دولة (دينية) هدفها صناعة مجتمع ديني، أم أننا أمام دولة لها صفة الدين، ولكنها دولة (المواطن) وليس دولة (الدين).

يستتبع هذا التساؤل موضوعاً له علاقة بالتفجيرات وله علاقة بالراديكالية السلفية، يقوم على المجادلة بأن الدين (الوهابية) رغم أنه خلق الدولة، فإنه لم يستهدف في الأصل إنشاءها بل جاءت بصفة عرضية، وكان غرضه صناعة المجتمع الديني، ولذا لا يجوز أن تسيطر الدولة على الدين (المذهب) بل يجب أن تكون الدولة إحدى أدوات الدين يستخدمها كآلية لتحقيق أغراضه، وبإمكانه التضحية بها إذا لم تستجب تلك الآلة لأهدافه أو تعارضت معها. هذا بالتحديد كان عمق الأزمة بين حركة الإخوان والملك عبد العزيز أواخر العشرينيات الميلادية، وهي نفس الفلسفة التي تقوم عليها حركة العنف الداخلي اليوم.

يضاف الى ذلك كله، تعترضنا في دراسة إشكالية العلاقة بين الدولة والدين في المملكة مسألة المفاهيم، فهناك قضايا لم يستطع التفسير الديني الوهابي مواءمة أفكاره مع متطلبات الدولة. فالمساواة في المواطنة مثلاً قضية، الدولة من الناحية النظرية تهتم بالمواطنة ولا يفترض أن تتدخل في المعتقدات والإنتماءات الفطرية التي يولد معها المواطن وعلى أساسها تتحدد هويته. إنها تتعامل مع المواطنين ـ في موضوعة الحقوق والواجبات ـ كأفراد لا كجماعات ولا كمذاهب وأعراق وقبائل، في حين أن التفسير الوهابي لا يرى المساواة باعتبارها خلاف الدين (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون).. الوهابية ترى المواطنين طبقات ليست متساوية في الحقوق والواجبات، وهو ما تمارسه الدولة فعلياً، فغير المتدين، والمختلف مذهبياً ومناطقياً لا يمكن أن يتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها النجدي المسلم الموحد الملتزم، ولا يمكن أن تنعم مناطقه بنفس الإمتيازات. إننا هنا أمام معاملة تشابه معاملة أهل الذمة وتوضع في مقابل المواطنة.

أيضاً هناك مسألة أهل الحل والعقد، وموضوع الشورى، فالرأي الديني يحصرها بعلماء السلفية النجديين، ولا يعطي حقاً للمواطن في تقرير مصيره عبر الإنتخاب، فالشورى (معلمة) وغير (ملزمة) وصار بإمكان رموز نظام الحكم، الإعتماد على هذا الرأي لتهميش دور الجمهور، والإكتفاء بمشاروة بضعة أعداد من المشايخ لا يستطيعون وإن زعموا أنهم الممثل (الطبيعي) لمصالح الأمة مقابل رجال الحكم، ولا أن يفرضوا رأياً ولا أن تعتبر مشاركتهم نيابة عن الجمهور. وزيادة على ذلك، لا يمكن أن يكون مشائخ الوهابية ممثلين عن غير جمهورهم، ولا يمكن أن ينحصر أهل الحل والعقد فيهم دونما سواهم من العلماء في المناطق الأخرى.

 حجم المؤسسة الدينية ودورها

 قد لا يكون هناك خلاف كبير حول مسألة أن للدين دوراً يلعبه في المجتمع والدولة. الخلاف هو حول النسخة التفسيرية لهذا الدين (المذهب) وطبيعة هذا الدور وحجمه وحدود نشاطه. فيما يتعلق بالمذهب الرسمي، فإن هناك احتجاج على أن يكون ممثلاً لجميع سكان المملكة، فهو ـ كما هو واضح ومعلوم ـ لا يمثل كل السكان، واحتكاره لكل الموضوع الديني وفرض نسخته ورؤيته وطبع المجتمع والدولة بهما يؤسس قاعدة احتجاج ضد الدولة نفسها. إزاء هذه الحقيقة، كان يفترض حين قامت الدولة وأعلنت، أن لا تكون رهينة مذهب أقليّة، إذ ليس من صالح أي دولة أن ينظر إليها على هذا النحو، أو أن تحابي مذهباً على الآخر، فضلاً عن أن تتعرّض لمواطنيها وتنتقص حقوقهم بناء على ذلك المذهب. لو كانت الوهابية تمثل أكثرية سكانية، لكان بالإمكان هضم الأمر، وأن يكون مذهب الدولة الرسمي، ومع هذا فإنه يفترض حينئذ أن تحترم التعددية الدينية كإحدى حقائق المجتمع السعودي. ربما كانت الدولة في بداية إعلانها أكثر حاجة الى مذهب معتدل أقرب الى تلبية احتياجات الدولة وشرعنة الوضع القائم، منها الى حاجتها الى المذهب الوهابي. لكن الذي حدث هو أن التحالف القديم بين آل سعود والوهابية استمرّ دونما إدراك لاحتياجات الدولة ودونما مراعاة لخصائص المجتمع، ونُظر الى الوهابية كمذهب نجدي منتصر مقابل المذاهب الإسلامية الأخرى التي جاءت هزيمتها مترادفة مع الهزيمة السياسية، وانتقال الثقل الديني والسياسي الى المنطقة المنتصرة.

ومع الشعور باستمرار الحاجة الى تصليب الوضع الإجتماعي والسياسي في نجد، تشكلت المؤسسة الدينية ولم تطعم إلا نادراً بأفراد قلائل من خارجها، وبقيت تعبر عن حقيقة وفكر معين أحادي مفروض على الدولة والمجتمع. في ذات الوقت الذي تمّ فيه إضعاف بل (خنق) النشاط الديني في الحجاز، ومحاصرة النشاط الديني في المنطقة الشرقية سواء للسنّة أو الشيعة، تغوّلت المؤسسة الدينية بدعم من الدولة، ولكنها مع ذلك فشلت في تمثيل كل قطاعات المجتمع، ولم يفسح المجال لأن تساهم فيها كل الأطياف والمدارس، إذن لأصبحت أكثر إدراكاً ووعياً بما اصطلح عليه (فقه الواقع)، ولكانت أكثر قدرة على ترشيد الشارع، وتطويع الفكر المتطرّف، ولكانها للأسف أصبحت أداة انشقاق داخلي، تخدم الدولة ـ النظام السياسي ـ في جانب، وتوسع الفتوق في جوانب أخرى موجودة أو تستحدثها.

إن الإصرار على (سلفية) الدولة عطّل معايير الإسلام الكبرى عن الفعل في مجال العدالة والمساواة والأخوة في الدين، وجعل من الصعب على المذهب الرسمي التحوّل من مذهب (مناطقي) الى مذهب (سعودي) إن جاز التعبير. بمعنى أن الوهابية لم تتحول رغم جهود الدولة المكثفة في دعمها الى ما يمكن تسميته بـ (الدين الوطني)، كما جعل بؤر التطرف الفكري مرادفاً لها، وبقدر ما رهن ذلك الدولة اليها في قراراتها الدينية والسياسية (في بعض الأحيان) فإنه حجب القدرة على تطويرهما معاً: المذهب لم يتطور منذ نشأته الحديثة رغم تشكله في مؤسسات، وكذلك الدولة بقيت على صفتها القديمة، يفكر قادتها بعقلية المشيخة، ويشرعنوا أنفسهم وفق نظرية الغلبة وحق المنتصر. إن إجتماع الدين والدولة على النحو الذي شرحناه آنفاً، مضرّ لكليهما، ومن ورائهما المجتمع السعودي نفسه. وكان ينبغي بعد تأسيس الدولة أن لا تتحول الى (دولة المذهب) ولا أن تتحول الوهابية الى (مذهب الدولة). ولأن العنصر الأخير كان شبه مستحيل بالنظر للظروف السياسية وملابسات النشأة الطائفية للدولة، فإنه كان بالإمكان تطعيم المؤسسات الدينية الوليدة شيئاً فشيئاً بعناصر من خارج نجد ومن خارج المذهب، تتفق في السياق الديني العام، ولا تحتكر من فئة مذهبية قد تجبر الدولة على خوض معارك داخلية وخارجية والوقوع في منزلقات التفتيت التي كانت سابقة لقيامها. كان يفترض أن يكتفى بالتوحيد السياسي، لا أن يترجم على أساس توحيد وصهر دينيين مذهبيين، نعلم اليوم ـ يقيناً ـ أن المذهب الرسمي غير قادر عليهما، ولا تؤدي السياسات المحلية لتحقيق الصهر الديني إلا الى المزيد من التطرف وادعاء احتكار الحق والحقيقة، وإلا الى المزيد من الإنشقاق الإجتماعي الذي يأخذ الدين/ المذهب أحد أبعاده الواضحة.

لكن العائلة المالكة وقتئذ كانت تنظر الى الموضوع من زوايا مختلفة، فأساس (المُلك) الذي كان قائماً يعتمد في جانب كبير منه على نجد، ووحدة الأخيرة لا تتحقق بدون الأرضية الثقافية التوحيدية التي جاءت بها الوهابية، وبدا كما لو أن ولاء نجد ووحدتها ضمانة لوحدة المملكة ومنع تفككها، وكانت الرؤية تقول بأنه مهما بلغ تطرّف الوهابية فإنه محتمل، وستكون هناك قدرة على مواجهة التحديات التي تأتي من المناطق الأخرى، سياسية أو دينية أو أمنية.

نأتي بعد هذا الى موضوع (حجم) المؤسسة الدينية وحجم (الدور) المعزى لها. من الطبيعي أن وجهة الدولة الدينية/ المذهبية وشرعنة نفسها ضمن إطار المذهب، يفرض عليها أن تقدم في المقابل امتيازات لمانح الشرعية، وأن تطوّر المؤسسات الدينية وتوسّع نشاطها وسلطاتها بحيث تخدم النظام السياسي الذي لازال حتى اليوم ـ ورغم كل العنف الذي شهدته البلاد ـ يرى بأن الولاء للمذهب الرسمي ضامنٌ للولاء السياسي. بمعنى أن تطوير مؤسسات الدولة الدينية وزيادة أعدادها جاء في الغالب مقابل المحافظة على (شرعية الحكم) بين أتباع المذهب الرسمي، وإرضاء للمشايخ وتعويضاً عن النقد الذي يوجهونه للدولة وأجهزتها لانحرافهما عما يعتبر مبادئ الدين في ممارساتها اليومية، وكأن الدولة كانت تبحث عن الموازنة بين خروج بعض سياساتها عن المألوف المذهبي، وبين التعويض عن ذلك بزيادة الحقنة الدينية والنفوذ للمشايخ.

أيضاً، أدّى إستخدام الدين في السياسة الخارجية، سواء لمواجهة القومية العربية، أو الأيديولوجيات المناهضة للدولة في الداخل، أو الشيوعية، الى استحداث مؤسسات دينية تقود هذا التوجه وترفده، كرابطة العالم الإسلامي والمؤتمر الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي والجامعة الإسلامية وأعداد هائلة من المراكز الإسلامية في كل أنحاء العالم. ومثل هذا الأمر، وسّع نشاط المؤسسة الدينية في الداخل، ووجه بعض طاقاتها الى الخارج التي تصاعدت بعد انتصار الثورة في ايران والإحتلال السوفياتي لأفغانستان، ليتمّ تسييس وعسكرة هذا التوجّه الديني الطاغي الذي كان يقصد به الإستهلاك الخارجي، وليعود بآثاره المباشرة على الوضع المحلي عبر موجات عنف تواصلت في المملكة منذ عقد.

لا شك أن هناك تضخماً في مسؤوليات المؤسسة الدينية وأجهزتها على الصعيد المحلي، بلغت ذروتها في عهد الملك فهد في عقد الثمانينيات الميلادية. ولا نظن أننا بحاجة هنا الى تعداد المؤسسات الدينية ولا أدوارها الأمنية والدينية والسياسية والتوجيهية والرقابية والمالية وغيرها. ونظراً لهذا التضخّم فقد تزايدت مواقع الإحتكاك بين المجتمع وتلك المؤسسة، وتالياً بين المجتمع والدولة، بل وبين تلك المؤسسات الدينية وسلطة الدولة نفسها. ذلك أن توسع صلاحيات الأجهزة الدينية خنق المجتمع من التعبير عن ذاته ضمن أنساق مختلفة، وفرض قيوداً ثقيلة على الأفكار والسلوكيات الى حد أن المجتمع السعودي لم يعد يعيش حياة طبيعية مسترخية، ففي كل يوم هناك قضية ومشكلة وصدام بين تلك المؤسسة وفئات أو أفراد من المجتمع. وأدت قسوة الضغط الى بروز نوع من النفاق الإجتماعي، فصورة المجتمع الظاهرية تكاد تختلف كلياً عن واقع الأفراد وحياتهم إذا ما خلوا مع أنفسهم بين جدران بيوتهم أو حين يسافرون الى الخارج.

المجتمع السعودي هو بالقطع أكثر المجتمعات التي تحقن بالجرعات الدينية سواء في المدرسة والجامعة والمسجد والقادمة من التلفزيون والراديو والصحافة وغيرهما.. ولكن ليس هناك ما يشير الى أنه أكثر المجتمعات تديّناً، بل يمكن القول أن التدين السعودي المغالى فيه خلق غلواً وإلحاداً معاكساً أخرج من دين الله أفواجا من البشر، نتابع بعض نتاجاته ونتائجه على صفحات الإنترنت. لا ننس هنا أنه خرج من المملكة نفسها أعظم الكتاب إلحاداً ودفاعاً عن الإلحاد وعن الشيطان نفسه، ونقصد بذلك عبد الله القصيمي، الذي كان يوماً ما مدافعاً عن الوهابية بلسانه وقلمه. ما نقصده هنا أن الشخصية السعودية في المجمل أصبحت شخصية حادّة لا تميل الى الإعتدال في أفكارها ورؤاها، فالتشدد الديني وتقليص دائرة (الحلال) بذرائع درء المفاسد، إضافة الى التجاوز على حقوق الآخرين بإسم الدين، ولّد تشدداً فكرياً وأيديولوجياً مضاداً له في الإتجاه.

أيضاً، فقد كان ارتباط المؤسسة الدينية اللصيق بالعائلة المالكة ـ كنظام سياسي ـ جعل العداء لتلك المؤسسة يتحوّل أوتوماتيكياً الى عداء لنظام الحكم الذي يمنحها القوة والأسنان للبطش بخصومها الدينيين والسياسيين، وكذلك العكس. فحين يعارض مواطنون النظام السياسي على قاعدة مواقفه السياسية، فإنهم بالضرورة يجدون أنفسهم في تضادّ مع المؤسسة الدينية التي توفّر له الغطاء الديني لضرب خصومه. من الناحية الواقعية، فإن هذه النتيجة ليست في صالح الطرفين، فليس من صالح النظام السياسي أن يكون في تضاد مع مواطنيه ويتحمّل أخطاء المؤسسة الدينية وممارساتها، كما ليس من صالح التيار الديني أن يتحمّل أوزار النظام السياسي ورموزه.

 السلفية باقية والإصلاحات مؤجلة

 قضيتان تشكلان مفصل القلق والحاجة للإرتباط بين النظام السياسي (الممثل في الدولة) وبين الدين (بتفسيره الوهابي):

الأولى ـ قضية الشرعية، فالنظام السياسي كان مديناً في انتصاراته لشرعية الدين بنسخته الوهابية، ولكن يمكن المجادلة بأن بقاءه ليس رهيناً بها. فإذا كانت الشرعية تستهدف الإنقياد الطوعي لنظام الحكم، فإن الوهابية اليوم لا تقدّم ذلك إلا ضمن إطار محدود من المواطنين، ومع هذا الدعم المحدود للشرعية، فإنها تنتقصها في مكان آخر، ذلك أن بقاءها، أو الركون إليها كليّاً بلحاظ الثمن المدفوع لأجهزتها، يثير بقية السكان الذين لا يؤمنون بها، أو الذين يرون بأن ثمن الشرعية باهظ بالنسبة للمجتمع والدولة، ويكمن ذلك في إعاقتها لشرعنة النظام على أسس أخرى مختلفة، ويمنع انطلاقة المجتمع فكرياً وذهنياً وثقافياً وسياسياً. هناك وسائل أخرى لشرعنة الوضع القائم لا تريد العائلة المالكة النظر اليها، كالإنتخابات والمشاركة الشعبية.

والعائلة المالكة تبالغ في حجم الشرعية المتوفرة من التيار الديني السلفي، الذي بدأ اليوم ينقض الشرعية الدينية للنظام بدل أن يوفرها له. وكما أن الأمراء يحاولون شرعنة أنفسهم دينياً، يأتي الدين ليشرعن المعارضة ضدهم في نفس السياق. ولذلك، فإن أقل ما يمكن أن يقال هو أن هناك ضرورة ماسة لإعادة النظر في حسابات الأرباح والخسائر الناجمة عن الإنحصار في شرعية دينية مذهبية محدودة يكتنفها النقص الشديد، ويعتورها الخطر من كل جانب. هناك ضرورة أيضاً لمناقشة مسألة ما إذا كانت الشرعية الدينية السلفية كافية وفي أفضل صورها لحماية النظام ومنع الخروج عليه محليّاً. لقد تطور الوضع المحلّي الى حدّ كافٍ جعل الأفراد يرون في النظام السياسي القائم استبداداً وتسلّطاً، وأن ما يمنعهم من الخروج عليه هو القبضة المستبدّة، ومصير هذه القبضة الى الزوال عاجلاً أم آجلاً. ولذا لا غنى عن الشرعية (الوطنية) التي وحدها تستطيع أن تخضع الشارع السعودي بكل أطيافه الى النظام السياسي بعد أن يكون شريكاً في صناعة القرار ويتحمل مسؤولياته الناشئة من مبدأ المشاركة الشعبية.

الثانية ـ الوجود الواقعي المكثّف للمؤسسة الدينية في أجهزة الدولة والحياة العامّة.. هذا الوجود الذي تنامى مع مرّ العقود لا يمكن بسهولة التخفيف منه بصورة دراماتيكية فضلاً عن إنهائه، وقد لا يكون من صالح المملكة حكماً ومجتمعاً إنهاؤه، بل يجب ضبطه وترشيده. هذا الوجود المكثف فرض على أجهزة الدولة التعامل بحذر بالغ مع الموضوعات والقضايا المتصلة بالجهاز الديني، وكلنا يعلم حجم اللغط الذي دار حول موضوع الهيئات وحول دمج الرئاسة وغيرها. البعض فسّر هذا الحذر بأنه ممالأة من الدولة للتيار السلفي، وآخرون اعتبروه تضحية حكومية بالشعب من أجل مصالح فئوية. لكن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال، هي أن تردد الحكومة في المواجهة له أسباب عدّة:

أولاً، إن العائلة المالكة تعتقد بأن إضعاف التيار السلفي إضعاف لها، فهو الحليف، الذي رغم كل إختلافاته الحادّة الظاهرة مع الحكم، الوحيد الذي تجمعه مشتركات أكبر معه من حيث مقاومة الإصلاحات، ومن حيث (تنفيع) الطرفين لبعضهما البعض، وإن غياب أحد الطرفين أو تصادمهما لا بدّ أن يضعفهما معاً مقابل القوى السياسية والإجتماعية الأخرى، وهو أمرٌ لا العائلة المالكة مستعدة للمجازفة به، ولا رجال المؤسسة الرسميين يقامرون بوقوعه.

ثانياً، إن الصدام مع التيار السلفي غير مأمون العواقب بالنظر لتغلغله في كل أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والإعلامية والقضائية، فضلاً عن قدرته التعبوية الشعبية التي يمكن أن تفرز عنفاً متسارعاً لا قبل للحكومة بمواجهته بدون سند شعبي، ترى أنه في الوقت الحاضر غير متحصّل بما فيه الكفاية، أو غير مضمون الصمود.

ثالثاً، مهما كانت مطالب الإصلاح بسيطة في ظاهرها، فإنها تستبطن متطلبات حادّة ستفضي بدون شك الى تغيير شكل الدولة ومظهرها ومحتواها السياسي والإجتماعي. سيكون لو حدث ذلك بمثابة ولادة جديدة للدولة السعودية.. وهي ولادة يتمنّاها الكثيرون قبل أن يموت وليد الإصلاحات في رحم الدولة أو بموتها.. ولكنها ـ أي الولادة التي لا تزال متعسّرة ـ مخيفة لرجال الحكم من أن تنتج مخلوقاً لا قبل لهم التعايش معه او التنازل له أو القبول بتحديد لدور العائلة المالكة وفق مستلزمات الدولة الجديدة.

ولهذا كلّه، فالعائلة المالكة ترى الإستمرار في التعامل مع (المجنون) الحالي خشية أن يأتي ما هو أكثر (جنوناً) بنظرها.. وعليه يمكن التوقع بأن علاقة الدين والدولة ماضية على نسقها القديم مع بعض التشذيب، وقلع أظافر المتطرفين السلفيين. إن العائلة المالكة ـ وضمن المعطيات الحاضرة ـ ستبذل غاية جهدها في استئصال شأفة الجناح المتشدد، عبر جراحة موضعية شديد الحذر والإحتياط من أن تطال آخرين (المؤسسة الرسمية ومن يسمون أنفسهم صحويين ووسطيين كانوا يصنّفون فيما مضى في خانة المتطرفين). ستحاول العائلة المالكة القيام بعملية تأديب محدودة، ولن تغامر بمواجهة شاملة، وستحاول إقناع الولايات المتحدة بأنها تبذل جهدها بما فيه الكفاية في مكافحة الإرهاب والتطرف، ولكنها لن تمسّ الثوابت والجذور الفكرية التي قامت على أسسها أركان الدولة الفئوية. وفي نفس الوقت، ستحاول العائلة المالكة أن لا تفتح معركة شاملة حتى مع الجناح المتطرّف، المتهم او اللصيق بالتفجيرات الأخيرة، لأن ذلك قد يؤدي الى انتقام معاكس، وجرّ ذلك التيار للإصطدام بالدولة ومصالحها الداخلية والقيام باغتيالات لرموز السلطة.

المسألة كما يظهر صعبة للغاية.. فالحلول السهلة والإنتقائية هي ما عودتنا الدولة عليه. وثوابتها تبدو وكأنها غير قابلة للمراجعة، ومسألة الإصلاحات السياسية غير واردة حتى إشعار آخر، مهما كثر الكلام، فالعائلة المالكة غير مهيئة لمثل هذا الفعل، ولا يبدو أن الضغط الخارجي والداخلي كافٍ لإجبارها على فعل ذلك.

وإذن.. فلننتظر ما ستفعله السلطات الأمنية، ولنرَ الحلول الأمنية ومدى نجاعتها، ولنتوقع انفجارات أخرى تصمّ الآذان. فالمعركة لم تكن في يوم من الأيام بين التيار السلفي المتشدد والعائلة المالكة فحسب، بل هي معركة بين كل قوى التحرر والإصلاح في المملكة من جهة ورجال الحكم والمؤسسة الدينية من جهة أخرى. صحيح أن العنف هو المخيف حالياً، ولكن للتيار الإصلاحي أدواته ووسائله في المعركة مختلفة عن تلك التي بيد السلفيين. وإذا كانت الإنفجارات تصمّ الآذان الآن، فقد نصحو على واقع دعوات إنفصالية أكثر خطورة وإيلاماً.