تفجيرات الرياض تشعل المناظرة حول السيادة المزدوجة

ثنائية الدين والدولة

محمد الهويمل

جاء في رسالة (الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك) للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب من كتاب (مجموع الرسائل) أن حفيد مؤسس المذهب الشيخ عبد الرحمن بن حسن خاطب الأمير عبد الله ابن فيصل قائلاً: (تفهّم أنّ أول ما قام به جدك محمد وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة، يطلبون الحق ويعملون به ويقدمون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدو كسره الله قبل أن يصل، لأنها خلافة نبوة، ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به، كما قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ).. وصار أهل الأمصار يخافونهم. وأراد الله سبحانه إمارة سعود بعد أبيه يرحم الله الجميع، وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قبله، وبغاها ملكاً وبدأ الأمر ينقص أمر الدين والدنيا تطغى..وصار العاقبة القصور – التي بنيت بقناطير – والمقاصير – التي تنفذ فيها الأموال العظيمة – التي تسوى ثلاثة آلاف ما تسوى اليوم الاجديدة لما جرى من تسليط الأعداء عليهم، هذا وهم على التوحيد، لكن ما أعطوه حقه، اشتغلوا بالدنيا ونضارتها وما فتح الله عليهم، وأعرضوا عما أوجب الله عليهم القيام به في أنفسهم وعلى الناس، فجرى ما جرى..وهذا بسبب الغفلة عما أوجب الله؛ لأن الله اختار لهم أمراً عظيماً ومكّنهم منه ومن الناس، لكن حصل تفريط في هذه النعمة العظيمة. والدرعية اليوم من تدبَّر حالها وحللها عرف أن ما جاءهم إلا ذنوبهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار).

هذه الرواية تعكس بدقة متناهية طبيعة العلاقة المتشابكة بين الدين والدولة، وتعيد إنتاج التحوّل في مسار جماعة المسلمين في مراحلها الأولى، حيث انتقال مركز السيادة من الدين الى الدولة ومن الخلافة الى الملك العضوض، منذ أن أرسى معاوية بن أبي سفيان  أساس الملك السياسي القائم على أساس تحقيق أغراض دنيوية سلالة خالصة مستبعداً أي دور سيادي للدين على الدولة، حين جعل من مؤسسة العلماء جزءاً ملحقاً بها ومتاعاً من أمتعة الدولة. وهكذا تاريخياً وعلى حد برهان غليون في (الاسلام والسياسة: الحداثة المغدورة) (فرضت السلطة السياسية منذ نهاية العهد الحماسي للخلافة نفسها كمركز للسيادة ووضعت حدودا لا يمكن تجاوزها على سلطة رجال الدين).

على أن القيود المفروضة على العلماء لم تحل دون التطلع نحو عودة خلافة النبوة وتطبيق الشريعة رغم الانهدامات المتواصلة لمؤسسة العلماء على يد خلفاء بني أمية وبني العباس، فقد ظلّ العلماء ينشدون عودة التجربة الخلافية الأولى. ورغم أن قيام الدولة الحديثة أحبط باقي الأمل المعقود على انبعاث الخلافة النبوية باعتبار أن السياق التاريخي الذي ولدت فيه الدولة الحديثة تم فيه بتر الذراع الدينية الممتدة في مجال السلطة الدنيوية، وباعتبار أن الدولة الحديثة نشأت في تواصل مع تصدّع وإنسحاب المؤسسة الكنسية، أقول رغم ذلك فإن صراع الساسة والقساوسة لم يحدث في الادارك الديني الشرقي إنذاراً مبكراً من سوء عاقبة تكرار التجربة، بل تمادى البعض الى حد تركيب أغراض دينيوية على كاهل الدولة الدنيوية. فقد نظر أهل الدين الى الدولة بكونها وسيلة دعوة وأداة لتطبيق الشريعة، فالدولة، في الادارك الدينيوي، هي العربة التي تنتقل عليها رسالة الدين الى العالم، وأهل الحكم ينظرن الى الدين باعتباره سابغاً لمشروعية علوية على ممارسات دنيوية محضة.

إستعمال الدولة كأداة دعوية يعكسه بوضوح النزوع المتزايد لدى التيار الديني في المملكة الى توظيف مناشط الدولة ما أمكنهم ضمن المشروع الدعوي. ويمثل التعليم الرسمي أحد المجابهات بين الدين والدولة، فبينما تنظر الدولة الحديثة الى التعليم كمجال لإعداد الكفاءات الادارية والفنية والعلمية القادرة على إدارة جهاز الدولة وتحقيق متطلبات اللحاق بالعصر، فإن التيار الديني ينظر الى التعليم باعتباره وسيلة دعوية محضة تستهدف تحصين الشباب من الانحراف وحسب أحدهم: (أنه بتربية النشء تتقدم الأمة، وبتعليم الشباب تتحصن بل وتهاجم أعداءها). ويرسم الكاتب وهو أحد المشاركين في النشاط الدعوي مخططاً يتضمن ما يصفه بطرق (نشر الخير في المدارس) (إنظر: إبراهيم الحمد، 46 طريقة لنشر الخير في المدارس)، وتمثل برنامجاً مكتظاً يتضمن: استضافة رجال الدعوة لالقاء المحاضرات الدينية في المدرسة للطلبة والمعلمين سواء بسواء، عقد الاجتماعات الدعوية خارج دوام المدرسة وتوسعة النشاط بحيل يشمل الحضور الدعوي مدارس عديدة، الاشتراك في الشريط الخيري، استغلال مجلس الآباء لالقاء كلمة توجيهية وتوزيع بعض النشرات التوجيهية، إنشاء حلقات مسائية داخل المدرسة أو حلقة داخل المسجد في الاحياء القريبة من المدرس، وتشكيل الجمعيات المدرسية ذات الاهتمام المتعدد الاغراض تهتم بتعليق الملصقات وتوزيع الاشرطة ووضع اللافتات وعقد الزيارات والرحلات والمخيمات الطلابية والكشفية بغرض تشكيل مراكز استقطاب لكل من المعلمين والطلاب، إقامة الرحلات والزيارات لطلاب المدرسة بشكل عام الى العلماء والدعاة ومعارض الكتاب الدعوي، إعداد ما يعرف بـ (الحقائب الدعوية) وتشتمل على مجلات وكتيبات قصصية ومسجل وأشرطة، واعداد مكتبة دعوية خاصة في كل فصل، ووضع لوحة في كل فصل تتضمن (نصائح أو توجيهات أو إعلانات أو فتاوى أو غيرها)، وإقامة معارض خاصة بالكتب الدعوية أو الأشرطة الدعوية، الاشتراك في حملات التبرع للجمعيات الدعوية وتوزيع النشرات في المساجد وهداية العمال الوافدين، اضافة الى الدورات الدعوية والفنية ذات الصلة بنشر الدعوة كتعلم اللغة الانجليزية والتدرّب على الحاسب الآلي. وأخيراً تشجيع أداء بعض السنن والنوافل العبادية داخل المدرسة.

هذا البرنامج الحافل بالمهام كما يقترحه أحد الدعاة ينطوي على إهمال مقصود لأهمية التعليم وقدسيته بصرف النظر عن كونه حاملاً لعبارات دينية، فالتعليم بما هو وسيلة وعي وإنماء لقدرة الانسان على التعامل مع الكون من حوله يعتبر عملاً في نظر معدّ البرنامج والتيار المحتشد خلفه غير مقدّس. إن ما تنبىء عنه قائمة طرق الخير المقترحة في المدارس أن ثمة رسالة للدين يجب على الدولة إيصالها وعلى الاخير أن توقف أجهزتها كيما يشيع الدين رسالته في الرعية، وهذا يعيد المناظرة وعلى أفق أوسع بين وظيفة الدين وظيفة الدولة.

تنتظم أسفل المهام المنشعبة للدين والدولة، والرسالة التي يحمل كل منهما للآخر منظومتا مفاهيم تنتميان الى مصدرين ثقافيين متباينين، ففي قائمة الدين يتصدر الايمان والرابطة الدينية والآخرة، والقيم الروحية ودار الاسلام ودار الكفر، ومنظومة عبادات وتكاليف شرعية، فيما تبرز  في قائمة الدولة،  حدود دولية ثابتة، مصالح دنيوية خاصة، قوانين مدنية، المواطنة كأساس للعلاقة داخل الدولة، والمصالح المتبادلة كأساس للعلاقات الدولية.

يلخّص الشيخ صالح الفوزان في كتابه (التوحيد) عقيدته في الدولة الدينية بما نصه: (إن الله سبحانه يريد منا أن نكون حزبا واحدا هم حزب الله المفلحون ولكن العالم الإسلامي أصبح بعدما غزته أوروبا سياسيا وثقافيا يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية والوطنية ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقية مقررة وواقع لا مفر منه. وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعا غريبا إلى إحياء هذه العصبيات التي أماتها الإسلام والتغني بها وإحياء شعائرها والافتخار بعهدها الذي تقدم على الإسلام وهو الذي يلح الإسلام على تسميته بالجاهلية، وقد منَّ الله على المسلمين بالخروج عنها وحثهم على شكر هذه النعمة). فهو هنا يرى بأن الدولة بكامل حمولتها منتجاً غربياً وأن المبادىء التي تسودها جاهلية، فهو لا يرى بأن المواطنة كمبدأ أصيل من مبادىء الدولة الحديثة أساساً يمكن الركون إليه والاقتداء به في تشكيل علاقات داخلية متوازنة وضامن لاحراز المساواة بين المواطنين، وهو ما ينبذه هذا الفريق لأن فيه تخفيضاً لما أعلاه الله وفيه مضاهاة بين المؤمنين (الفوزان وأهل دعوته) والفاسقين (ماعداهم). وبنفس المنظور الديني، إذا كان تشكيل السلطة وأداؤها، على سبيل المثال، مشروطين بالكفاءة التنظيمية والادارية، فإن أنصار الدولة الدينية يحتمون بدعوى أن العلماء هم الاتقى وتبعاً له الأكثر تأهيلاً للحكم، فهم صفوة الخلق، وحرّاس الشرع، فإذا كان الملوك حكّام على الناس فإن العلماء حكّام على الملوك كما في الأثر.

في التجربة السعودية خلال أطوارها الثلاثة،  لعب العامل الديني دور الحامل للمشروع السياسي، وقد أفضى ذلك، بطبيعة الحال، الى انتزاع حرية المعتقد والتفريط باستقلال المناطق الملحقة بالمشروع الناشىء وهكذا تجريد ارادة القاطنين، فقد استخدم العامل الديني لإنشاء اللحمة السياسية الضرورية لخلق دولة موّحدة بقيادة ابن سعود وأبنائه من بعده.

ولكن حين قامت الدولة بدأت المواجهة الحقيقية بين منظومتين ثقافيتين متعارضتين، فقد إرتضى القائد السياسي بالمعادلة السياسية الدولية وقرر القبول بالخارطة الجيوسياسية الاقليمية والدولية، ولكن القادة الدينيين المتشبّعين بعقيدة الفتح رأوا بأن القبول بالنظام الدولي يعني تعطيل فريضة الجهاد ونشر الدعوة في الآفاق. تلك كانت أول فارقة تشق أخدود الخلاف بين أهل الدين وأهل الحكم، ثم جاء حمل الناس على الانضواء في المعتقد الغالب، أي المذهب الرسمي للدولة الناشئة، وصدرت الفتوى عام 1927 بحمل الشيعة في المنطقة الشرقية على جرّهم كرهاً وبإستعمال أدوات القهر التابعة للدولة للانصياع الى المذهب بدءاً بالنخبة الدينية الشيعية التي ستتولى بعد تشبّعها بالمعتقد الجديد مهمة تشريب الأتباع بتعاليم الدين الحنيف بحسب التفسير السلفي.

في السياق نفسه، كانت سياسة عزل وإقصاء أئمة الحرمين الشريفين والمساجد الكبرى في الحجاز من أتباع المذاهب الاسلامية الشافعية والمالكية تسير وفق خطة معدّة بإتقان، فيما كان الأئمة الجدد منشغلين بحماسة عالية في تلاوة أركان الاسلام الخمسة وتذكير سكان الحجاز بفرائض الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج. ولحق ذلك أمر تطبيق الشريعة، حيث قرر الملك عبد العزيز وبعد اتمام مهمة إحتلال الحجاز بأن الاحكام السارية في هذا البلد ستكون وفق ما ورد في فقه الإمام أحمد بن حنبل إرضاء لعلماء المذهب الحنبلي. على أن هذه الأحكام لم تمثل السجل القانوني والحكمي الشامل والمبرم، فقد إستعارت الدولة الحديثة وهي في أطوار تقلبها وتحوّلها وانتقالها الى مراحل متقدمة قوانين ليست مستمدة من تعاليم المدرسة الحنبلية ولا من مدارس دينية أخرى.

وهناك تفجّرت معركة في الخفاء بدت بعض إشاراتها خلال عهد الملك فيصل حيث بدأ المفتي العام الشيخ محمد بن إبراهيم يحصى على الدولة أخطاءها القانونية ويحاسبها على اقترافاتها في تطبيقها المنقوص للشريعة وإدخالها قوانين وضعية الى نظامها القضائي بل وتشكيل محاكم مدنية في تضاد مع المحاكم الشرعية وحصر سلطة الأخيرة في الموضوعات ذات الطابع الشرعي المحض كالزواج والطلاق والمواريث والأوقاف والخصومات والمنازعات الفردية والعائلية دون الخصومات والمنازعات التي تتم بين الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى وبين الأخيرة والدولة فضلاً عن  البنوك وغيرها.

ثمة سؤال عريض حملته الدولة منذ قيامها، وما تلك التناظرات المنبعثة تباعاً سوى إلحاحاً على أهمية السؤال وتالياً ضرورة البحث عن حل حاسم. السؤال العريض هو: لمن السيادة؟ هل للشريعة وتالياً لأهل العلم الشرعي أم للدولة وتالياً لولاة الأمر وأهل الحكم الدنيوي.

في نظر أهل الشرع أن مهمة ولي الأمر ـ كرمز للسطة السياسية واستطراداً للدولة ـ هي على وجه الحصر تطبيق أحكام الشرع والقيام عليها وحمل العامة على الامتثال لها، فإذا عجز عن ذلك سلبت منه الولاية وانتزعت منه مشروعية الدين، وأصبح لكل جماعة تشربّت الحكم المنزل الحق في مزاولة ما تراه شريعة الله، ولا ينظر الى ما هو عليه عامة الناس والسطة (وهذا ما يشي به رأي لشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 35/378).

يقول الشيخ بن تيمية: (فقد وعد الله بنصر من ينصره ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار). فالعلاقة بين الدولة والرعايا تتوثق عراها وتستمد مشروعيتها من الامتثال لاملاءات الشريعة كما يقرر الشيخ بن تيمية في المنهاج 5/132.

إن أبرز ما تومىء اليه هذه الفتوى هو أن حركات إنفصالية عن الدولة على خلفية تطبيق الشرع وإقامة حكم الله تعتبر عملاً مشروعاً، إذ أنّ مشروعية الدولة متوقفّة على قابليتها على تطبيق الشريعة، كشرط للحصول على مناصرة ومساندة السماء. فنموذج الدولة الدينية يأمل في تنشئة جماعة متوحدة عقدياً يسودها الشرع وتمتثل لحزمة التعاليم الدينية ولا يعتنى كثيراً بكيفية إدارة الدولة لعلاقات هذه الجماعة وماذا تكفل لهم في دنياهم، فهي دولة تعد رعاياها بمكافأة مؤجلة، أي بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ولذلك فهي دولة صممت كيما تضمن مصائر الرعايا بعد موتهم ورحيلهم عن دار الدنيا.

الدولة الحديثة، على الضد، نشأت كحاصل لصراع ضد إستحواذ السلطة الكنسية على السلطة السياسية، ولذلك مثّلت الدولة الحديثة إنعتاقاً تاماً من قيد الاكليروس، تحقيقاً لمفهوم السياسة كما إفتتحه أرسطو وجرت مزاولته في شكلها البدائي في نموذج الدولة/ المدينة وصولاً الى انطلاق عصر الدولة القومية الحديثة التي حققت أكبر انتصار لها حين جعلت السياسة وممارستها شأناً دنيوياً محضاً يراد منها تحقيق المصالح العمومية وباعتبار الدولة جهازاً ضخماً ينظّم عملية تداول السلطة وهكذا إدارة العلاقة بين قوى متصارعة على شؤون الدنيا، وفي سياق إتمام هذه المهمة جرى تخفيض دور المؤسسة الدينية في المجال السياسي الى حد لم تعد تلعب دوراً تقويضياً لشؤون الدولة أو الوقوع تحت ضغط ابتزازات سياسية دنيوية للانتصار لهذا الطرف أو ذاك.

فالدولة بهذا التعالى جسدّت عملياً المفارقة بين التنظيم الاجتماعي الذي يتفوق فيه الديني على السياسي والتنظيم الاجتماعي الذي يرتكز على المعطى السياسي والعلاقة السياسية متحرراً من سطوة الاستعمالات المتكررة والمشوّهة لسلطة الدين من أجل إحراز مكاسب سياسية محضة. فالدولة الحديثة وضعت أساساً للعلاقة بين رعاياها، وتلك علاقة المواطنة أما الدين فالعلاقة فيه قائمة على الأخوة الايمانية "إنما المؤمنون أخوة"، ونذكّر هنا بأن الاخضاعات الصارمة التي تشهدها تلك العلاقة أفضت الى عزل جزء كبير من السكان ممن لا تنطبق عليهم المواصفات المطلوب توافرها في المؤمن بالمعنى الديني الصارم وهذا لا ينحصر في المعتنقين لأديان أخرى غير الاسلام بل يمتد الى أتباع هذا الدين ولكن لا ينتمون الى المذهب المنتصر من قبل الدولة.

كتاب (التأصيل لمشروعية ما حصل لأمريكا من تدمير) الصادر عام 2002 لمؤلفه الشيخ عبدالعزيز بن صالح الجربوع، يلفت الانتباه الى إحدى المجابهات بين رموز الدين والدولة، فهو يلمح الى أن سيادة الدولة ليست نهائية بل قد تخضع للمساءلة الدائمة بما يجعلها عرضة للتخفيض وقد يسمح بتدخل سيادة أخرى أعلى منها، وهي سيادة الشرع وتالياً العلماء كممثلين عنه في الخلق. في العلاقات الدولية على سبيل المثال حيث تقيم الدولة الدينية (المملكة هنا) علاقة مع قوى دولية غير مسلمة (الولايات المتحدة مثالاً) فإن هذه العلاقة يجرى فحصها وتقويمها على ضوء الشريعة وحينئذ يتقرر ما اذا كانت تلك العلاقة مشروعة، وبالتالي لا يصح خرق ما ورد فيها من شروط وعهود ومواثيق، أو كانت على الضد من ذلك فحينئذ فلا طاعة للدولة ممثلة في ولي أمرها ـ الامام.

يستهدي الشيخ الجربوع بكلام للإمام الشافعي في كتاب (الأم) بما نصه: (إن صالحهم الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم في النساء وقد أعطى المشركين فيهن ما أعطاهم في الرجال ولم يستثن فجاءته أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط مسلمة مهاجرة فجاء أخواها يطلبانها فمنعها منهما وأخبر  أن الله منع الصلح في النساء وحكم فيهن غير حكمه في الرجال وبهذا قلنا : لو أعطى الإمام قوما من المشركين الأمان على أسير في أيديهم من المسلمين أو مال ثم جاءوه لم يحل له إلا نزعه منهم بلا عوض... وقال في موضع آخر: بهذه الآية ..مع الآية في براءة قلنا إذا صالح الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه..). ويعلّق الشيخ الجربوع قائلاً: (هذا في الإمام الأعظم فما بالك بمن دونه) في إشارة واضحة الى حكام المملكة.

وهذه الاشارة تأكدت في نفيه مشروعية الدولة السعودية ذاتها من خلال التساؤل الحامل بإجابته عما اذا كان للإمام الأعظم (الخليفة) وجود اليوم. يقول المؤلف: (إن المتأمل لكلام أهل العلم في الشروط التي اتفقوا عليها واختلفوا في بعضها خلافاً لا يكاد يذكر.. في تنصيب الإمام للمسلمين..يجد بكل وضوح أن هذه الشروط لا تنطبق على حكام المسلمين اليوم حيث لم يجرؤ أحدٌ منهم أن يعلن أنه الإمام الأعظم للمسلمين..لأن هذا سيلزمهم تبعات هم يرون أنهم في غنى عنها..فهم يكتفون بأن يكونوا حكام بلاد وولاة أمر وليسوا أئمة فالملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود يحدثنا عنه أجدادنا أنه كان يقول للإخوان أنا لست إماماً لجميع المسلمين.. وإنما حاكم هذه الجزيرة...وما ذكرتموه من وجوب جهاد جميع الدول الكافرة يجب على الإمام الأعظم وأنا لست كذلك!)، في إشارة واضحة الى المجابهة التي جرت بين أهل الدين وأهل السياسة، حيث كان الفريق الأول ينزع الى الإبقاء على فورة المشروع الجهادي وديناميته وديمومته فيما كان الفريق الثاني يميل الى الامتثال الى قوانين السياسة والتعامل مع الواقع الدولي بقوانينه وحدوده ومتطلباته.

ولأن الشيخ الجربوع ممن يرى في القرشية شرطاً لازماً لتحقق الامامة العظمى فإن آل سعود ليسوا ممن تصدق عليهم الامامة. ولكن ماذا يعني ذلك: يعني كما يوضح الشيخ جربوع صراحة أن غياب الامام الأعظم يعني بطلان العقود والمواثيق المبرمة بين الدولة السعودية ودول العالم وأنها ليست ملزمة لأنها فاقدة لشروط الشرعية.

إن نزع مشروعية الدولة يحرمها السيادة وينقل المشروعية والسيادة الى طرف آخر وهو المحكّم للشريعة، أي العلماء، الذين يتحوّلوا، تبعاً له الى المصدر الوحيد للمشروعية والتجسيد الديني لمعنى الامامة المنشودة، وتالياً الى ولاة أمر مطاعين يأمرون وينهون ويمنحون ويمنعون.

هناك اليوم إتجاه متزايد داخل المملكة ينادي بتسوية الصراع الايديولوجي الذي تعيشه الدولة، والثنائية الصابغة لسياساتها ومواقفها وخطابها، بين أن تكون دولة وطنية أم دولة دينية. فالتيار العام ينادي بإخضاع الدولة لقوانين السياسة والفكاك من النزعة التيوقراطية القائمة والتي آلت الى إنهيار صدقية الدولة والخطاب الديني الحاف بها. إن الاجترار المتكرر لدعوى دينية الدولة والتأكيد على تشرّب السلطة بقيم الاسلام واستسقاء مشروعية الدين بزعم الاستلهام من مبادئه وأحكامه إنتهى الى إنسحاب التيار العريض من السكان من مجال تأثير الدولة بانتظار  تحررها من النزعة الدغمائية التي لم يعد التلبّس بها سوى إمعاناً في السير بالدولة نحو حرب أهلية نتيجة إقتراب نقاط الاحتكاك بين معسكرين متناقضين: معسكر ينزع نحو الالتصاق بوظيفة الدولة وشروط تكوينها باعتبارها آلية لادارة المصالح الدنيوية والعمومية للأغلبية السكانية ومعسكر ينزع الى تحويل الدولة الى منبر للآخرة من أجل إستحواذ السلطة من قبل أقلية.  هناك دعوة الآن الى تخليص الدولة من ربقة السلطة الدينيوية وإرساء نظام سياسي يبتني على المواطنة كمدخل لارساء قاعدة المساوة، والحرية الفردية والمشاركة العملية في تحقيق الاجماع وتقرير مصير المجتمع.

خلاصة الأمر: أن ما حققه العامل الديني في إنشاء دولة موّحدة سياسياً أدى الى الاستلاب الثقافي والروحي، فقد تزايد النزوع بمرور الوقت وسوف يزداد بسرعة وقوة وسط الجماعات الملحقة قسرياً وهكذا النخب الحديثة والمثقفة الى الدخول في مواجهة التحديات الفعلية التي تواجه المملكة شأنها في ذلك شأن الكثير من الدول والجماعات التي تطمح للانضواء في نظام قيمي يسهم في تحديثها وتحريرها من ربقة الواحدية المقيتة ومنطق الاقصاء وامتلاك الحقيقة المطلقة،، واكتساب قيم العصر بما تبشّر به من حرية فردية وتعددية وتنبذ كافة أشكال الكراهية وهذا هو الاتجاه الذي سوف يسود.