الشروط المؤسِّسَة للحوار الوطني

  

يملي أي مسعى نحو الاقتراب من تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، بقطع النظر عن الصيغ التي تتخذها والمستويات التي تصل اليها، تأييداً مفتوحاً بكونه يمثل طموحاً مشتركاً لدى الأغلبية السكانية في هذا البلد، ممن عصرتهم محنة الواحدية الثقافية والنبذ الديني المتبادل. فالحوار الوطني بالنسبة للموقّعين، مثالاً، على وثيقة (الرؤية) يعادل في محوريته المدخل لتسوية أزمة الدولة والمشكلات الكبرى التي تحيق بها، فالحوار قاعدة الانطلاق نحو إعادة تأسيس الدولة على مبادىء جديدة في العلاقات الداخلية بين القاطنين في هذه الأرض، وبينهم وبين السلطة، مبادىء ترنو الى مستقبل تتحقق فيه معاني المساواة والعدل والعيش المشترك.

خلاصات اللقاء الفكري في الرياض في يونيو الماضي بين شخصيات دينية وثقافية، يمثّلون طيفاً متنوعاً من المذاهب الدينية، ترسم حلماً سعيداً لكل ضحايا الانفلاش والانقسامات العميقة في البنى الاجتماعية والثقافية في هذا البلد، كما تشق تطلّعاً مبالغاً لدى المشاركين في هذا اللقاء بأن ثمة تاريخاً جديداً قد عقدت أولى حلقاته في الرياض.

ما صحب وتخلل وأعقب اللقاء من توجّسات وتحفظات وتعضيدات تعتبر مشروعة وهي، على أية حال، تترجم بصدق الانشعابات العميقة في الوعي الديني كما في الواقع الإجتماعي، وتعرض إرثاً ثقيلاً من الخصومة والانقسام الداخلي في هيئة توجّهات ايديولوجية ومواقف متفاوتة في تأثيرها وانفعالها. فالذين أفصحوا عن تشاؤمهم حيال أي حوار فكري على قاعدة مذهبية تشرّبوا التشدد منسكباً في عقائد دينية صارمة، يتساوى في ذلك التقسيميون من كافة المذاهب، فالتشدد، كما كافة النزوعات الاجتثاثية والاقصائية، لا مذهب له، كما أن الذين أفعمهم الأمل بنهاية تاريخ من القطيعة المحاطة بشحن من الكراهية المتبادلة يمثّلون بقعة الضوء التي تحملها كافة المذاهب كمرشد للعبور عبر الزمن، بعد إزالة الانغلاقات المستحكمة في مصادر حركتها.

قد يجنح ببعض المتفائلين الأمل بتسوية اجمالية لمشكلات متجذرة في لقاء واحد أو عدد من اللقاءات، محثوثاً بالرغبة الى إزالة الارث الانقسامي بسطوته الدينية  والثقافية المرهبة، وإنعاكاساته الاجتماعية المتوترة.  أما الذين اصطفوا في طوابير المنتظرين والمتوقفين لما سينتجه اللقاء على الأرض فهم يمثّلون مجتمع المتوجسين ممن راقبوا مسلسل الاحباط المتواصل في تاريخ هذه الأمة، وقاسوا مستويات التوتر في المستودعات المذهبية عبر قراءات محايدة غالباً.

ولكن ثمة ما يبعث بعضاً من التفاؤل قد يكون مستوحياً من الاستطلاع الذي نشره موقع (الاسلام اليوم) بما يمثله من طرف وتيار ديني له امتداداته الاجتماعية في منطقة ولادته. فنتائج الاستطلاع بحسب الموقع تظهر بأن نسبة المتشائمين من مؤتمر الحوار الوطني كانت الأقل وبمسافة بعيدة بالمقارنة مع  فريقي المتفائلين والمتوقّفين. إن ما يلفت اليه الاستطلاع أن لغة الاسئلة المقدّمة في الاستطلاع كانت، بخلاف اللغة التقليدية المعهودة والمستعملة في الجدالات المذهبية، إيجابية وفي أسوأ الأحوال محايدة، فلأول مرة يشعر المشمولون بهذا الاستطلاع بأنهم يجيبون عن أسئلة بملء إرادتهم دون تدخّل من صانع الاستطلاع نفسه. فقد فتح الاخير خيارات ثلاثة أمام المستطلعين كيما يختاروا بمحض مشيئتهم بين النظر الى اللقاء الفكري باعتباره مدخلاً لإزالة الخلافات بين المذاهب، أو مبرراً لتعميقها أو أنه سيكون مسلوب التأثير.  

ولا شك أن الكلمات المقتطفة والنتف المنسوبة الى المشاركين في اللقاء إضافة الى البيان الختامي قد رسمت طريقاً وردياً على المستوى النظري مبشّراً بحقبة من الود في شبكة علاقات ظلت شديدة الاضطراب لعقود طويلة. ومما ينمّي تلك الروح المستبشرة أن ثمة توافقاً غير مسبوق في عبارات المشاركين في اللقاء، مع طرح المعتزلين لأي لقاء فكري والمنسحبين في مبتدئه، توافقاً ينمّ عن تحوّل مدهش في المواقف ليست المختلفة فحسب بل والمتناقضة وصولاً الى الانسجام.

مقاربات اللقاء الفكري كجزء من الحوار الوطني قد تقررت سلفاً، بالالتفاف على بؤر التوتر المذهبي، والدخول الى الحوار من بوابة المصلحة الوطنية، كجزء من ترتيبات الدولة ورعايتها، ولعل في ذلك ابتكاراً جديداً لا تلفت إليه سوى سيرة الداعين الى تبني (الحل السياسي) للمشكل المذهبي، على قاعدة أن الانقسامات المذهبية وقعت بصارم السياسة فلتسوّى الانقسامات إذن بنفس الوسيلة.

ثمة ما يحرّك مستودع هواجس المتوقفّين بأن السياسة لا تقدّم سوى حلولاً مؤقتة لمشاكل في الأصل متجذّرة في التكوينات العقائدية للمشاركين، ولذلك يمثل اللقاء لهذا الفريق من المتهاجسين ترسيباً للمشكلة الجوهرية/ المذهبية وتأجيل الحلول فيها. على أن الفلسفة القابعة خلف اللجوء الى المعالجة السياسية للخلافات المذهبية تسترعي تخليق إطار فعّال قابل لاحتواء تلك الخلافات وطمسها بداخله، ممثلاً في الاطار الوطني، وبالمناسبة يعتبر الاتفاق حوله وعليه تطوّراً ايجابياً بالنسبة للبعض الرافض للامتثال لاملاءات وطنية. هذا الاطار يرسي أساساً مشتركاً ومنطلقاً في الحوار، ويجعله المرجعية الفكرية والسياسية وقد يجري تطويره في وقت لاحق لأن يأخذ لوناً دينياً، لكل الفرقاء، فحينئذ تكون المصلحة الوطنية حافزاً جماعياً نحو تحييد كافة عناصر الانقسام على قاعدة مذهبية أو قبلية أو مناطقية.

التحفظ المركزي الذي سيظّل مطروحاً بصورة دائمة هو أن الاطار الوطني المزعوم مازال منحبساً في حد اللفظ أكثر منه تجسيداً لحقيقة سياسية وثقافية. فالوطن مازال مختزلاً في الدولة، وأن المصلحة الوطنية تتكافىء لفظياً وسياسياً في وعي النخبة الحاكمة مع مصلحة الدولة وحصرياً العائلة المالكة. ولذلك، فإن المجادلة التي يثيرها فريق المتوقّفين بأن المزعم الوطني للقاء الفكري يهدف الى تحقيق أغراض خاصة وليست وطنية مازالت صالحة، تأسيساً على إنعدام التدشينات الوطنية من أصل. فالانطلاق من قاعدة وطنية في الحوار الفكري يبشّر بولوج عهد جديد يتجاوز فيه المختلفون مزاعمهم الايديولوجية الخاصة وتطلعاتهم المخنوقة، سعياً الى البحث عن (مشتركات) مع الآخر المختلف. ولكن ما يستوقفنا دائماً هو أن هذه القاعدة الوطنية لم تتأسس بعد في هذا البلد، وأن مجرد الحديث عنها واستعمالها اللفظي في الخطابات والبيانات والتصريحات لا يدّل على وجودها.

إن التأكيد على المدخل الوطني لحل مشكلات الدولة يجب أن ينظر اليه بوصفه اعترافاً ضمنياً من قبل النخبة الحاكمة بأن صناعة الوطن ضرورة سياسية، كما أن الحل الوطني ضرورة وجودية للدولة، ولكن لن يمثل هذا التأكيد إقراراً بوجود وطن يحتضن القاطنين بداخل المسكونية الجيوسياسية السعودية. ما ينبىء عن الانطلاق من خلفية وطنية لتسوية المشكلات الفكرية هو أن ثمة استعداداً للمختلفين للالتقاء على مساحة مشتركة افتراضية وإن لم تكن موجودة وهي المساحة الوطنية، وبخاصة حين تشكل الوحدة الوطنية محوراً في اللقاء الفكري ويراد منها أن تكون هاجساً مشتركاً وهمّاً عاماً وقبل ذلك مشكلة بحاجة الى معالجة جماعية. ولا شك أن مقترح (تعريف الوحدة الوطنية) كأحد العناوين المركزية في جلسات اللقاء الفكري، يفصح عن إقرار الدولة، بعد نحو ثمانية عقود على إعلان قيامها، على أن الوحدة الوطنية لم تعرّف بعد للسكان، ولذلك فإن الوعي الوحدوي الوطني لم يتأسس بعد.

المقاربات الفكرية التي قدّمت خلال اللقاء تعالج قضايا شديدة الحساسية وخطيرة وذات أبعاد سياسية واجتماعية. بعضها يمسّ لاهوت التبرير الديني لنزعات التطرف والعنف، حيث يتم تكسير النص الديني عن طريق رفع الحظر المفروض على غير المنغمسين في حقل الفقه الشرعي، واعتبار الاجتهاد حقلاً مباحاً للمؤدلجين كيما ينتجوا أحكامهم الخاصة لتسويغ ممارسات سياسية محضة، انطلاقاً من رؤية كونية شديدة الاضطراب والنقص وايديولوجية دينية صارمة وملغومة.

يشي عنوان الجلسة الرابعة بقبول المشاركين بمبدأ التنوع الفكري بين شرائح المجتمع، بإنفراج أولي في أزمة الواحدية الفكرية التي ساهم بعض المشاركين في صنعها، وراح ضحيتها عدد كبير من أصحاب الرأي، قتلاً وتشريداً وحرماناً. القبول بالتنوع الفكري لا يمثل سوى إعترافاً بواقع قائم، وسيظل التعامل معه والاقرار بمشروعيته خطوة لم تتحقق بعد، وما إذا كانت النظرة الى والموقف من هذا التنوع كجزء من عملية الاثراء الثقافي والمعرفي.

لقد أظهر بعض المشاركين إشارات مخيفة الى حد ما وردت في ثنايا كلماتهم وهكذا غزارة الافكار الملتبسة فيها كتعبير عن محاولات للهروب من الاعتراف بالآخر. هذه الأفكار تجتمع عند القاعدة التسويغية المعروفة (الضرورة الشرعية) التي تبيح للمؤمن المصالحة مع فاسد العقيدة اضطراراً من أجل درء مفسدة محتملة، فبسط المساحة الاستثنائية في التعامل مع الآخر لا يعني سوى تلبيس الموقف السياسي بلبوس شرعي يعطي لصاحبه الحق في النكوص عن موقفه متى ارتفعت الحاجة والاضطرار في المصالحة. بكلام آخر، أن ثمة ما يبعث على الشك في أن حديث المشاركين عن التنوع الفكري هو إقرار بالواقع وليس قبوله، وأن الجزء الحامل لإشارة القبول متعلق بآخر وهو الدولة، التي قد تمثل مصلحة عليا ونهائية للبعض دون الآخر، ولا نعتقد بأن المشاركين يتساوون من حيث موقف الدولة منهم وحقوقهم منها، ولذلك فإن تقدير المصلحة لدى المشاركين هو تقدير نسبي.

يلزم الاشارة الى أن أغلب الموضوعات التي تناولها اللقاء تحمل خصوصية مكانية وأيديولوجية، وهي في الغالب تعالج مشكلات خاصة بالتيار العنفي المتشدد الناشىء من باطن المؤسسة الدينية الرسمية، بدءا من الوحدة الوطنية ومروراً بالغلو والتشدد والانفلات من رعاية طبقة العلماء في الفتيا، والتنوع الفكري، وحقوق المرأة، والعلاقة بين الفتوى والواقع الاجتماعي وتأثيرها على الوحدة الوطنية، والتعامل مع غير المسلمين، وانتهاءً بالجهاد وأحكامه. ورغم أن هذه الموضوعات من موراد الابتلاء الشرعي لدى كافة المذاهب في العصر الحديث، الا أن السياق التاريخي الذي تجادل فيه هذه الموضوعات ينزع عنها صفة العمومية ويدرجها بقوة ضمن الصراع المحتدم بين الحكومة والجناح المتشدد في التيار الديني السلفي، وبالتالي فالدولة تبحث عن معالجة مزدوجة الأبعاد والاهداف لمشكلات من صنع يدها.

ثمة توق شديد لدى الدولة من أجل العثور على حل نهائي وشامل لمشكلاتها، ولكن لا يفترض الانتظار من المشاركين أن يكونوا تضحويين الى حد الإثرة بمصيرهم من أجل دولة لم ترع الحدود الدنيا للعلاقة المفترضة بين السلطة والرعايا.

نشير هنا ضرورة الى أن الملاحظات النقدّية المدرجة هنا لا تمثل بأية حال موقفاً رافضاً للقاء الفكري، بل هي تعزيز له وترشيد  لهذا المسعى المراد تعميمه على مستوى الامتداد الجغرافي لهذا البلد، واعتبار اللقاء مفتتحاً صحيحاً ودقيقاً لمقاربة الملفات الساخنة والمركونة المتصل منها سواء بالدولة أو المجتمع.

لقد عاشت الدولة والفئات الاجتماعية المنضوية بداخلها تاريخ القطيعة الطويلة، وحصدت تجارب شديدة المرارة، وكان لا بد لشوكة التشدد والكراهية أن تخضّد، ولنزعات الاقصاء والتعالي أن تضمحل، ولذهنية التحريم والوصاية أن تترشد لبدء مرحلة الشفافية والعقل وتصفية المعتقدات من أوهام (الذات الكاملة).

ويوم تشهد النخب الدينية والفكرية مرحلة التصالح تكون قد حققت الدولة خطوة جبّارة في طريق صناعة الاجماع، تأسيساً على أن المشاركين يتحدّرون من منظومات أيديولوجية محكومة الى نظم مراتبية ذات أشكال هرمية يمارس فيها رجل الدين والوجيه الاجتماعي والقائد السياسي سلطة علوية وتوجيهية قادرة على صناعة توجهات الجمهور ومواقفه، ولا بد حينئذ من تغيير من في الأعلى حتى يتغير من هم دون ذلك.