أضواء حول تعيين سعود بن نايف سفيراً في مدريد 

سعودة داخل السعودة للجهاز الدبلوماسي!

 

حين عيّن الأمير بندر بن سلطان سفيراً في واشنطن في بداية الثمانينيات أعطى دفعة قوية للعلاقات السعودية ـ الأميركية، فقد كان الأمير ـ خريج أميركا ـ وبما يمتلك من مواهب وصلاحيات واسعة، الرجل المناسب للعائلة المالكة في إضفاء الصفة الحميمية على العلاقات الخاصة مع واشنطن، وكذلك في حفظ أسرار تلك العلاقات مما لا يجوز لسفير من العامّة الإطلاع عليها، فضلاً عن تنفيذها. وفعلاً، استطاع الأمير بندر تشكيل ما سُمّي بـ (اللوبي السعودي) في واشنطن، حسب تعبير الصهيوني ستيفن إمرسون، وضع قبالة (اللوبي الصهيوني) واستطاع أن يحقق بعض المكاسب بالإعتماد على الشركات الأميركية الفاعلة في السعودية، النفطية وغير النفطية، خاصة وأن حقبة الثمانينيات شهدت أوج (الإلتحام) في السياستين السعودية والأميركية، سواء بشأن إيران، أو الحرب العراقية الإيرانية، أو شؤون النفط، أو الحرب في أفغانستان في مواجهة ما أُسمي بالشيوعية، أو مواجهة الأخيرة في نقاط أخرى من العالم، والتي تجلّت في تمويل مرتزقة الكونترا. لهذا كلّه، كان المسار في العلاقات السعودية الأميركية دافئاً حميمياً طيلة فترة الثمانينات قبل أن تنقلب بعيد الغزو العراقي للكويت، أو على الأقل تتضرر بذلك وقبلها بسقوط الإتحاد السوفياتي الذي قلّص من مساحة المشترك بين السعوديين والأميركيين. وحين جاءت أحداث سبتمبر 2001، بدا أن زخم العلاقات السياسية المشخصنة في الأمير قد وصلت الى مستوى الحضيض، مع أن السعوديين كانوا على الدوام يراهنون على علاقات طيبة مع الحزب الجمهوري المحافظ.

هنا، اكتشف السعوديون بأنهم في حاجة ماسّة الى جناح أقلّ راديكالية يستطيع التأثير على سياسات واشنطن التي كشفت عن ضيق واسع في صدور رجالها، فما كان منهم إلاّ تعيين أميرٍ آخر، وهو تركي الفيصل ليكون سفيراً لبلاده في لندن، والتي بدت وكأنها أكثر استيعاباً للموقف السعودي، وأقلّ تهوّراً في الظهور بمظهر المهدد لحكم العائلة المالكة. ولأنه كان من الصعب على السفير غازي القصيبي أن يتنازل عن معقله في لندن الى سفارة أدنى، ولأنه كان يفضل الإستقالة عن الإنتقال الى سفارة أخرى (في ألمانيا أو غيرها) كما عرض عليه ذلك فعلاً، اضطر الأمراء الى إعادته الى الوزارة كوزير للمياه، ومن ثم إضافة الكهرباء إليها.

يحاول الأمير تركي الفيصل، رئيس الإستخبارات السعودية السابق، أن يضيف روحاً جديدة للعلاقات السعودية ـ البريطانية، والعمل على نمط ابن عمه بندر بن سلطان في واشنطن: حملات علاقات عامّة واسعة للتصدّي لمحاولة ما يسمونه بـ (تشويه) صورة المملكة في الخارج. وتأسيس لوبيات من المنتفعين من رجال السياسة القدامى والحديثين، والتقرّب من النخبة صانعة القرار، كمراكز الدراسات وغيرها، إضافة الى الصحافة والصحافيين المعنيين بتوجيه الرأي العام المحلي. ويضاف الى ذلك كله، إغراء بعض الشركات البريطانية وتحويل بعض المشاريع إليها، وتفعيل دورها سياسياً ضمن اللوبي المراد صناعته.

قد نفهم السرّ وراء تعيين أمراء من ذوي الوزن الثقيل في سفارات المملكة الرئيسية في واشنطن ولندن، نظراً لأن السياسة لدى الأمراء قائمة على العلاقات الخاصة والمشاريع السريّة. لكن ما أثار الدهشة مؤخراً هو تعيين سعود بن نايف، إبن وزير الداخلية، والذي يتولى نائب أمير المنطقة الشرقية، في منصب سفير المملكة في مدريد، والتي لا توجد بينها وبين المملكة علاقات استراتيجية تؤثر في صناعة القرار أو تهدد بنيان الدولة!

قيل أن الأمير عبد الله بن عبد العزيز حاول ولم يفلح حتى الآن في منع تعيين الأمير سعود بن نايف في المنصب، لكن ما هو أهم من هذا كلّه، هو أن الأمراء وفي سباقهم وتنافسهم المحموم على السلطة بدأوا بتوسيع دائرة المناصب التي يشغرونها، فالوزارات ووكالات الوزارات والمؤسسات المنفصلة عن جسد الوزارة إضافة الى المناصب العسكرية الكبيرة والإستخباراتية، فضلاً عن وزارات السيادة.. كل هذا لم يعد كافياً لاستيعاب طموحات الأجيال الجديدة من الأمراء، ولا حصر اللعبة التنافسية ضمن حدودها القديمة بل توسيعها الى هامش المؤسسات والمواقع التي عادة ما يتولاها العامّة.

في الخمسينيات كان السفير الوحيد من العائلة المالكة هو طلال بن عبدالعزيز الذي ضاقت زوجته إبنة منى الصلح بالبقاء في الرياض، ومنذ ذلك الحين وحتى الثمانينات لم يعين أمير في سفارة، الى أن جاء بندر، وهاهم الأمراء اليوم يوسّعون دائرة التعيين في الجهاز الدبلوماسي من بين صفوفهم، وكأنها (سعودة داخل السعودة)! أو تهيئة لمن يسمّون بأعضاء (الجيل الثالث) لتولي السلطة في قادم السنين.

بقي أن نعرف أن الأمير سعود وهو في منصبه كنائب لأمير الشرقية اصطدم مراراً مع الأمير محمد بن فهد، وقد قام الأخير بتقليص صلاحياته الأمر الذي دفعه للمطالبة بنقله من موقعه، تماماً مثلما حدث مع الراحل الأمير فهد بن سلمان. وينبغي التذكير هنا بأن الأمير سعود عُرف بالغلظة، وبالطائفية المكشوفة، فكثير من القرارات الباطشة لا يمرّرها إلا هو، وكأنه يقوم بنسخ سياسة أبيه في وزارة الداخلية من محاباة للتيار السلفي، واضطهاد للمواطنين المختلفين في المذهب.

وفي الجملة، إن تعيين سعود بن نايف، يعطي مؤشراً بأن البلاد لا تسير في طريق الإصلاح، بل هي أبعد ما تكون عنه، وإن تضخم دور العائلة المالكة في إدارة الدولة وشؤونها، يأتي عكس ما تسعى القوى الإصلاحية في المملكة إليه.