أولوية الأمن والخيارات المؤجّلة

 فؤاد إبراهيم

 يقدّم عامل الزمن مرة أخرى خدمة جليلة للقيادة السياسية في المملكة، فمغناطيسية الاصلاح السياسي قد فقدت جزءا كبيراً من تأثيرها بفعل حوادث أخرى لاحقة نهبت رصيداً كبيراً من الاهتمام الرسمي والى حد ما الشعبي واكتسبت أهمية خاصة، حقيقية تارةً ومفتعلةً تارة أخرى.

 دعاة الإصلاح يخضعون لمحاسبة الضمير الوطني، بكل عناوينه المنذرة والمحفّزة كالحفاظ على الوحدة الوطنية، والتلاحم بين الشعب والقيادة، ومحاربة الارهاب، ومواجهة التحديات المصيرية والمخاطر المحدقة بالأمن العام وباقي قائمة المفردات التي يراد منها إطفاء مكائن الاصلاح السياسي، وتشغيل محركات الولاء للدولة وإعادة تصفيف القوى الاجتماعية والسياسية في مسعى لتحقيق أكبر إصطفاف شعبي ممكن للسلطة..

في غمرة الترتيبات اللغوية لمرحلة (الاستثنائية المفتعلة) في أوضاع هذا البلد، تعاد صياغة أولويات الدولة، ويعاد في ضوء تلك الصياغة إحضار أولوية الأمن، بما تمثّله من (مخرج شرعي) يرحّل المسئوليات الوطنية الأخرى، ويخفي الى أمد مفتوح فورة التذمّرات الشعبية إزاء أوضاع عاصرة.

مفردات الخطاب السياسي الحالي مستمدة من نفس اللغة المدقعة، ولكنها مازالت تحتفظ بمفعول سحري في تحفيز مشاعر خاصة تولّدها أجواء ذلك الخطاب الذي يجعل متلقيه أسرى للاحساس العميق بالتقصير فيما لو تباطأوا عن الامتثال لإملاءاته العملية، فهذا الخطاب يجعل المنخرطين في الشأن العام وأصحاب الموقف جميعاً أمام مسئولية وطنية حَديَّة، فإما أن يكونوا مع الارهاب أو مع الحكومة. هكذا تصنّعت الحكمة السياسية بعد الحادي عشر من سبتمبر، وليس هناك معسكر ثالث يمكن لغيرهم أن يسلكوه.

وعلى أية حال، فإن هذا الخطاب يعجز عن إخفاء الحقائق الكبرى، فثمة أوضاع سياسية وأمنية مستجدة جلبت معها معادلة جديدة وواقعاً مختلفاً، يكاد يمحو بداخله ماضياً مزدهراً. فتفجيرات الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي مثّلت علامة فارقة في مسار الدولة، كانت كفيلة بتغيير الصورة النمطية المنتجة من قبل الدولة ذاتها، تلك الصورة كما أوحت لفترة طويلة بإستتباب الأمن، تزخمها وتؤكد صدقيتها الوتيرة المتصاعدة للأحوال الاقتصادية حتى أواخر الثمانينات.

ظروف التسعينيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية رهنت الدولة الى تقلّبات داخلية مفاجئة أمنية وسياسية، قرّبت معها حدود المواجهة بين المجتمع والسلطة، كرد فعل على إخفقات الأخيرة المتكررة في الايفاء بالحدود الدنيا من حاجات الرعية، قد تنذر بتآكل مشروعية، وهيبة، وأخيراً مصداقية الدولة.

وكان إنتقال التخاصم الداخلي بين المجتمع والسلطة الى مرحلة شهر السلاح كلغة تعبير عن الاحتجاج السياسي وتفشي ظاهرة العنف في شكلها الانتحاري اللانموذجي يشكّل انزلاقاً مفزعاً نحو السقوط في دوامة الثأر والثأر المضاد. وبقدر ما يمثل طغيان نزعة العنف الجامحة كوسيلة للتخاطب بين المجتمع والسلطة تحريفاً متعمداً لرسالة الاصلاح، فإن ثمة تواطئاً بين الضالعين في حلبة العنف، وبوجه خاص بين الجماعات الارهابية المحلية المولد  والتوجيه والتمويل من جهة والسلطات الأمنية من جهة أخرى على تعميد هذه الوسيلة، نبذاً للأصوات الراشدة. وهذا التواطىء يجسد رغبة متناقضة مؤسسة على منطلقين متنافرين، فالجماعات الارهابية بنزوعها الاستئصالي ترى الحل على طريقتها، عبر إزالة خصمها ـ السلطة ووراثة تركته السياسية، وإن تبطّن هذا الحل إقصاءً إجمالياً لكافة القوى الإجتماعية والسياسية الأخرى. السلطات الأمنية، هي الأخرى، بحكم تكوينها والوظيفة المنوطة بها تنزع نحو إنتاج حلول على طريقتها، تكون متطابقة مع أصول التنشئة السائدة في المؤسسات الأمنية، وإن أفضت الى تهزيل الحلول السياسية والارادة العليا للدولة معاً، فضلاً عن معاكسة التيار العام، المناهض للحول الأمنية.

ثمة ما يدعو للجدل بأن الدولة عثرت في تفجيرات الرياض على مجال تسعيد به وعبره هيبتها المحطمة من خلال تمسرح واسع النطاق للنشاط الأمني. وهو حدث يحمل بداخله جرعة إستغلال كافية من قبل الدولة كيما تكبح بها مسار التغيير الديمقراطي، فحين يكون (أمن الوطن) مكشوفاً أمام مخاطر مصيرية، تصبح إرادة التعطيل مشروعة ويجب أن تحظى بالدعم الرسمي والشعبي، هكذا هو إملاء المنطق السياسي المسوَّّد عبر شبكة التحالفات الداخلية، وهو أيضاً أحد المتطلبات الأساسية المراد إبرازها عند منافذ العبور الى المراكز العليا، بل وشرط رئيسي للتزكية.

إستعادة هيبة الدولة يلتقي مع النزوع الخانق لدى السلطات الأمنية من أجل استرداد مجدها القمعي المهترىء، متمظهراً في صور فشل مثيرة للسخرية، عبر سلسلة مواجهات مسلحة على امتداد الجغرافيا السعودية. فالخيار الأمني، لهذا السبب وغيره، شديد الاغراء للدولة كونه ينسجم مع طبيعة الحلول التي تنتجها لمشكلاتها الداخلية، ولأن الدولة ذات الطابع التسلطي تؤكد ذاتها ومصداقيتها، في الغالب، من خلال الاستعمال المفرط لوسائل القمع، والحضور الأمني الكثيف. الدولة السعودية، كباقي الدول الشمولية في منطقة الشرق الأوسط، تميل الى تسوية مشكلاتها عن طريق أحد الخيارين أو بهما معاً: التأجيل أو الإخماد التام والذي غالباً ما يتم بالتصفية الشاملة.

ربما لم يأت يوم يكون فيه الخيار الأمني مدعوماً محلياً ودولياً كما هو الحال هذه الأيام، فالطلب المتنامي على السهم الأمني رغم ما يحمله من مؤشرات إرتكاس الدولة، الا أنه يعكس إتجاهاً إختزالياً ضارياً فيها يرجع، كما في سابق عهدها، إرتجاجات الداخل (السياسية والاقتصادية والإجتماعية) الى عوامل أمنية محضة، وبالتالي فإن الهيبة التي كان يتكفل الجهاز الأمني بسطوته المعهودة في أزمان سابقة بإنتاجها وصيانتها سيضطلع بمهمة تركيبها ثانية. 

هذه المهمة توفر مبررات الاستنزاف المالي وامتصاص خزينة الدولة من قبل طبقة المنتفعين تحت مسمى توفير لوجستيات البرامج الأمنية المتكفلة ببناء هيبة الدولة، وسيصبح الافراط في الانفاق من المال العام، وتشديد الاجراءات الأمنية، وخرق الحقوق الفردية، وانتهاك الحريات العامة، أي بكلمة تغوّل الجهاز الأمني وتورّمه مباحاً بل ومباركاً من القيادة السياسية ومن الطاقم المتحلّق حول موائد الدولة.

إن ثمة تفسيراً براغماتياً يعزز النزعة الأمنية في مواجهة مشكلات ذات جوهر غير أمني، وبطبيعة الحال، فإن الانفجارات قادرة على إيصال صوتها المدوّى للأعلى بقوة تفوق بأضعاف الصوت المنطلق من حناجر المصلحين، وهذا يفسر جزئياً على الأقل سر اختطاف العمل التفجيري إهتمام الحكومة. ولكن ما يلزم إلفات الانتباه إليه أن هذا الاهتمام لم يولّده التفجير ذاته، بل هو في حقيقة الأمر يستجيب معه ويلتقي به ويحفّز نشاطه. 

الخيار الأمني، من جهة ثانية، يغري أيضاً الولايات المتحدة، فهي تود رؤية إستجابة عملية من حلفائها لرغبتها الجامحة نحو الانخراط الكثيف في الحرب على الإرهاب، وهذا وحده الكفيل بإرجاء العقاب الديمقراطي المقترن بردود أفعال الحلفاء إزاء الشروط الأميركية. فهكذا تقتضي سخرية السياسة، إذ تتحول الديمقراطية الى عقاب أميركي وأن تصبح الديمقراطية أداة ابتزاز سياسية، فالادارة الأميركية باتت تدرك تماماً بأن الاستبداد يمثل الضامن لمآربها الحيوية في الشرق الأوسط، وأن التلويح بالديمقراطية يحقق وحده أرباحاً أكبر من إقرارها.

تماماً على طريقة الادارة الأميركية، فإن الحكومة السعودية نالت نعت (الضحية) بعد تفجيرات الرياض، سواء على المستوى المحلي، حيث كانت القوى الوطنية والليبرالية والدينية غير السلفية تحمّل فيما قبل تلك الحوادث الحكومة مسئولية انتاج التطرف وثقافة الارهاب عبر مناهجها التعليمية والسماح لتمدد تيار التشدد داخل البلد، وعلى المستوى الخارجي، حيث مازالت كتلة الاتهامات تتجه بكثافة عالية نحو الحكومة السعودية بتورطها في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر.

الخروج من تفجيرات الرياض بعنوان الضحية قد حقق فصلاً بين الحكومة والجماعات الارهابية، وهو فصل لم تستطع الحكومة السعودية إقناع الرأي العام الأميركي به عبر حملة علاقات عامة واسعة النطاق داخل الولايات المتحدة، فقد إنتقلت الحكومة عقب تفجيرات الرياض الى مصاف الضحايا الآخرين، ويحق لها حينئذ أن تدافع عن نفسها بالطريقة التي تراها، وبالتالي فإن (الاستثنائية) تصبح قاعدة ممتدة الأجل. هذه الاستثنائية تشبه الى حد كبير حالة طوارىء غير معلنة ترفع العتب عن الدولة وتمحو الى حين أوزارها في تفشي ظاهرة البطالة، وتضخم الدين العام، وإنهيار المداخيل الفردية، وانتشار الفقر والجريمة، وانسداد أفق التنمية الشاملة، وبلوغ الفساد الإداري والمالي مستوى غير مسبوق من التوحش والفحش.  ومن جهة أخرى، فهذه الاستثنائية تمدّ الدولة بأعذار لا حصر لها في تعطيل مسار التغيير السياسي في الدولة بذريعة الخطر المتربّص بالأمن الوطني.

تحت طائل الاستثنائية هذه، سيغدو الاصلاح في إتجاهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية خياراً مؤجلاً، فحين يتعلق الأمر بمصير الدولة يصبح الحديث عن إصلاح مهما كان شكله وإتجاهه ممقوتاً، كالذي يطلب من شخص يرقد في غرفة الرعاية المكثّفة الايفاء بالدين المترتب عليه.

نعود هنا للحديث عن الدور السياسي لعامل الزمن، فالمملكة تستمد جزءا كبيراً من قوتها من خلال تفويض الزمن مهمة تسوية مشكلاتها، وخصوصاً حين يتصل القرار بموضوعات شديدة الحساسية، فكيف إذا كان في جعبة هذا الزمن تباشير تغني عن المجازفة بصناعة قرار قد يجلب الندم عليه في قادم الأيام.

فيما يتصل بالإصلاح السياسي، ترمق الحكومة السعودية تطورات مستقبلية هامة ترفع عن كاهلها ضغوطاً منهكة لوضعها المحلي. وهناك حدثان شديدا الأهمية بالنسبة للمملكة:

الأول: الانتخابات الأميركية عام 2004: فرغم أن العلاقات السعودية ـ الأميركية خلال الفترة الديمقراطية لم تكن مرضية ومستقرة، فيما كان الانسجام ينعقد على الدوام مع الادارة الجمهورية التي غالباً ما تضم شخصيات لها مصالح إقتصادية ونفطية تحديداً مع المملكة، الا أن الادارة الحاليةـالجمهورية مثّلت إستثناءً شديد الاخلال بالمعادلة التقليدية، نتيجة الحوادث المصاحبة لها. فزلزال الحادي عشر من سبتمبر بكونه أسوأ طالع بالنسبة لإدارة بوش، يعتبر حدثاً جمهورياً، وإن العقاب الناشىء عنه هو الآخر جمهوري، ومن جهة ثانية، فإن السعودية مثّلت دور البطولة في قصة سبتمبر، ونالت بسببه العقاب الجمهوري. هذا العقاب تضمن تلويحاً متكرراً بتقسيم المملكة، واحتلال آبار النفط، وإزالة العائلة المالكة، وتضمن أيضاً تشديد الضغوط على الحكومة السعودية من أجل الانتقال الى الديمقراطية. لم يكن بالإمكان حمل أجزاء العقاب على المعنى السياسي في حينه، حيث كانت جروح سبتمبر ساخنة، وأن الانفعالات النفسية كانت سيدة الموقف.

وعلى أية حال، فإن هاجس التغيير في تركيبة السلطة السعودية كان ومازال شديد السطوة، رغم التطمينات الصادرة عن مصادر متعددة في الادارة الأميركية للقيادة السعودية بأن ليس ثمة ما يدعو للقلق. وفيما كان التلويح بالديمقراطية يصدر غالباً من إدارة ديمقراطية،  أصبح الأمر معكوساً، فهناك ثمة تعويل سعودي على وصول إدارة ديمقراطية تزيح شبح التغيير وتعيد الصفاء الى العلاقات العكرة مع الولايات المتحدة، وتسحب جزءا كبيراً من الرصيد الاستراتيجي في الخارج، لجهة ترميم البنى الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، بما يمنح دولاً مثل السعودية إحساساً بالاطمئنان من أن تركة سبتمبر قد تم تقسيمها وأسدل الستار عليها.

الثاني، فشل الدور الأميركي في العراق: لقد عنى إسقاط النظام العراقي بالنسبة للسعودية بداية تغيير حاسم وشامل لوجه المنطقة ونظامها الأقليمي، وإن الخروج من الوحل العراقي بسلام يعني الانتقال الى مواقع أخرى قد تكون سهلة الهضم. الانغماس في المأزق العراقي يمثل إذن تأجيلاً آخر وربما إنفراجاً للمملكة التي باتت أطراف عديدة بداخلها رسمية وشعبية ترقب عن كثب حركة كفتي الميزان السياسي في هذه البقعة الاستراتيجية من أجل تحديد وصياغة مواقفها السياسية وربما خطابها الايديولوجي القادم.