بين حذر الدولة وتطلعات المجتمع

ضوء على مؤدّيات الإرباك السياسي

عبد الله الراشد

 

حذر مبالغ لدى الدولة من الانتقال الى الديمقراطية، يقابله نزوع شعبي نحو إصلاح سياسي جوهري يمثلان صورتين متضادتين تعكسان الارباك السياسي المحلي، وتنذران بقطيعة شبه تامة بين الدولة والمجتمع.

الايقاع الباعث على الضجر لدى الدولة يقابله إيقاع شعبي متسارع من شأنه إحداث إرتجاجات في بنية الدولة نفسها، بما يجعلها في عزلة تامة. هذا الارباك مبعثه الاصلاح السياسي الذي أصبح مادة إختبار حقيقية في علاقة الدولة بالمجتمع في الوقت الراهن، وهو يمثل المراهنة الكبرى على إعادة ترميم بنية الدولة المتهدمة، بفعل سلسلة إنهيارات إقتصادية وأمنية وسياسية.

يجدر إلفات الانتباه الى أن ثمة جناحاً داخل العائلة المالكة يستشعر بعمق الحاجة لمبادرة إنقاذ وطني، تستعيد بها العائلة المالكة هيمنتها على وضع بات مرشحاً للانقلاب، بيد أن هذا الجناح يفقد القدرة الكافية على الارتفاع بالمبادرة الى سقف التطلع الشعبي أو حتى دونه بقليل، فضلاً عن انحباسه ضمن هواجس وصراعات داخل العائلة المالكة، التي تميل بطبعها الى مناهضة التغيير، أو القبول به في حدود دنيا تحت ضغط الضرورات السياسية.

ثمة تداعيات على متغيرين محليّين تستحق قدراً كبيراً من الاهتمام والتحليل في ضوء حذر الدولة وتطلعات التيار الشعبي العام، لجهة إستشراف مستقبل الأداء السياسي للدولة وانعكاساته على العلاقة مع المجتمع.

إنعكاسات اللقاء الفكري ومركز الحوار الوطني على السكان المحليين تبعث على التفكير الجاد في موضوع بالغ الأهمية، وبخاصة حال قراءتها في سياق الاصلاح السياسي، كقضية مركزية في التناظر الداخلي. يجدر الاشارة هنا الى أن المتغيرات المحلية باتت تدرج في تفكير التيار العام داخل المملكة في سياق الرؤية الاصلاحية العامة، إذ بات الاصلاح السياسي أداة التقييم التي يستعملها التيار الاصلاحي العام إزاء مبادرات الدولة. ولنفس السبب يمكن تفسير المعاني الاضافية التي يضفيها التيار على أي متغير محلي وإن كان صغير الحجم، وهكذا محاولاته لتنميته بقدر يلبي جزءا من تطلعه الاصلاحي.

فقد حمّل اللقاء الفكري وتالياً مركز الحوار الوطني أكثر من الاغراض المعلنة لهما، فالحوارات والنقاشات التي جرت حولهما توحي وكأنهما المفتتح الكبير لمشروع إصلاحي واسع النطاق، وهو لم يكن بأية حال تعبيراً عن إرادة صانع المبادرة، ولكنما هي إرادة الشارع التي ترمق أي كوة يمر منها الهواء.

فلماذا يقتفي الناس أثر أي بادرة إصلاحية مهما كان حجمها، فينفخون فيها من روحهم، كيما تصبح مشروعاً طموحاً لم يكن بحال جزءا من إستراتيجية الدولة. فالأحاديث المستفيضة للناس حول مركز الحوار الوطني تضخ دفعة زخم نشطة تعكس توقهم الشديد لمرحلة يأملون أن تضع حملها المنتظر، ولسان حالهم يقول بفصاحة بالغة بأن جرعة الاصلاح هذه غير كافية لعلاج وضع منهك، ليوصولون عبره رسالتهم في الاصلاح الى الدولة.

لا يقف الأمر عند ردود فعل الشارع أو النخبة المثقفة، بل يمتد الى أعضاء في مجلس الشورى، بحيث بات الأخيرون ـ أو قسم منهم على الأقل ـ ينظرون الى مركز الحوار الوطني وكأنه نواة لبرلمان حقيقي، فأحد أعضاء مجلس الشورى طالب بتحويل المركز الى صندوق شكاوى لعموم المواطنين، وآخر دعى الى اعتماد مبدأ الانتخاب في إختيار الاعضاء، وتوسيع إطار عضويته بحيث يضم بداخله الطيف العام السياسي والايديولوجي والاجتماعي في البلد، وآخر دعا الى أن يضطلع المركز بمهمة مناقشة كافة موضوعات الوطن، الاقتصادية والامنية والسياسية والاجتماعية.

السؤال هو ما الذي يجعل أعضاء في مجلس الشورى يطلقون وبحماسة عالية أفكاراً من هذا القبيل، هل لشعورهم بأن مجلس الشورى دون مستوى الطموح السياسي لديهم ودون الوظيفة المنوطة به، أم لأن التطلع الاصلاحي بات طاغياً حتى وسط فئة يفترض كونها جزءا من مشروع إصلاحي قد تقرر رسمياً منذ مارس 1992.

والسؤال الآخر هو ماهو المسار الذي رسمته السلطة لمركز الحوار الوطني؟ هل تريد الدولة حقاً إرساء أساس مشروع اصلاح سياسي انطلاقاً من هذا المركز؟

جحفل الاسئلة المثارة حول إعلان مركز الحوار الوطني والتموجّات المحلية التي أحدثتها قياساً على التطلعات الشعبية، لا ريب أنها تتطلب معالجة جادة لقضية الساعة، أي الاصلاح السياسي.

ابتداءً تلفت اللغة الشائعة في وسائل الاعلام المحلية (بما في ذلك التلفزيون الرسمي) وبخاصة المتصلة منها بموضوع مركز الحوار الوطني الى أن ثمة إحساساً عميقاً بالحاجة للإصلاح ظل متفاعلاً في صدور وأذهان شريحة واسعة من السكان بدأ يكشف عن نفسه في أول لحظة تعبير سانحة. هذه اللغة غير المتساوقة مع الخطاب الاعلامي الرسمي تشي بانفراز جديد ليس داخل تركيبة السلطة ولكن بين السلطة وفئات جديدة كانت مصنّفة حتى وقت قريب بوصفها جزءا من حركة السلطة، الى حد باتت هذه اللغة قادرة على إختراق الادوات المستعملة من قبل الدولة نفسها، ومن قبل أناس باتوا يستعملون لغة التيار العام،  أي بكلمة أخرى لغة الاصلاح السياسي.

فمالذي يسمح بلغة كهذه أن تجد طريقها الى وسيلة إتصال مازالت وفيّة لخطاب السلطة؟ أليس ينبىء ذلك عن تمدد الاتجاه المطلبي الى داخل جسد الدولة، بما يجعل الأخير غير قادر على كبح تأثيرات هذا الاتجاه. فالدولة في راهنها تواجه حركة شعبية عارمة تتفق على تغيير مسار الدولة وانتقالها الى مرحلة تكون فيها مؤهلة للبقاء والتماسك.

فمضادات الاصلاح لدى العائلة المالكة فقدت، الى حد كبير، تأثيرها في الجمهور فلا هي قادرة على تعويض رعاياها إقتصادياً، ولا هي تملك أدوات الردع الكافية، ولا شبكة تحالفاتها الداخلية والاقليمية والدولية بالقدر الذي يسمح لها بالصمود أمام تيار التغيير الذي بات يحيط بمركز السلطة نفسها.

الحركة الشعبية بدأت تأخذ شكلاً تصاعدياً وتضخ من داخلها صوراً شتى في التعبير عن مطالبها، بغية إيصال سيل من الرسائل للدولة بما يوضعها على سكة الخلاص السياسي. هذه الحركة تحمل بداخلها تطلعاً يرتفع على مستوى الاستجابة الحذرة للدولة، فكلما أطلقت الأخيرة مبادرة قليلة الشأن تدافع الناس نحو العبور منها الى تمرير تطلعاتهم الطموّحة، بما يؤكد قناعات العائلة المالكة المؤسسة على قلق الانهيار، وإنفراط الزمام السياسي، وتالياً وقوعها رهينة لمتغيرات غير مدركة الابعاد والنتائج.

المخاضات الداخلية بعنفوانها الشديد لا تسمح بانتهاج سلوك مراوغ مع مطالب هي من الوضوح بمكان والحائزة على شبه إجماع شعبي، فأدوات اللعبة السياسية ليست ـ بكاملها ـ بيد السلطة الآن، فهناك واقع بات يفرض نفسه بقدر كبير من الجرأة ويعكس نفسه في لغة الشارع، ومضامين الصحافة المحلية، وبيانات القوى السياسية والاجتماعية، وسلوك السكان، وليس بإمكان الدولة أن تعيد عقارب الزمن للوراء، وهذا الواقع سواء حظي بإعتراف الدولة ورعايتها أم لا فهو ينبسط على المساحة الأكبر من البلاد، ويتمدد بسرعة تفوق قدرة الدولة على الكبح.

فحذر الدولة لا يبدّل في حقيقة الاشياء التي باتت تشكل صورة مستقبل ليس بإمكان أحد الفرار منه او الخروج منه، فالمجتمع يحمل مشروع التغيير للدولة، بإنتظار موقف تاريخي يحقق فيه الجميع إنجازاً شاملاً ويجني مكاسبه الجميع.

ليس جديداً القول بأن الدولة تطمح الى إستغلال مركز الحوار الوطني كجزء من بحثها عن حل لأزمتها، بحيث تجعله وسيطاً لها مع الجمهور الساخط، ولكن هل سيبقى المركز كذلك، وهل سيقبل أعضاؤه ممارسة دور (الشفيع) رغم ما تحمله هذه المهمة من محاذير أخرى تنال من سمعتهم وشعبيتهم وبخاصة في مرحلة تفقد فيها السلطة جزءا كبيراً من مكانتها وقيمتها لدى السكان. سؤال يبقى شديد الالحاح والاجابة عنه متوقفة على دور المركز وقدرته على إقناع الناس عبر سلسلة إنجازات على الارض.