صفحة جديدة من التاريخ السياسي السعودي

(أم سعود) تفتح باب التغيير الكبير

 عبد العزيز الخميس*

 أم سعود امرأة من نجد، اختفى زوجها قبل 11 عاماً، ولم تبذل حكومتها جهدا يذكر للبحث عنه حتى داخل أقبية تعذيبها، فلم يبقى لها سوى ابنها سعود وثلاث بنات ظللتهم بحنانها وحمايتها خوفا عليهم من عاديات الزمن.. لكن الزمن الغادر خطف منها ابنها على دفعات فسجن بتهمة تنكرها، ثم أحرق السجانون قلبها بحرق جسد إبنها داخل سجن الحائر قبل أسابيع.

أم سعود امرأة قحطانية من نساء المملكة العربية السعودية الصابرات على غدر الزمان وصلف الرجال وتجاهل النظام وضياع الهوية، ثكلت في قرة عينها فخرجت من منزلها لتتقدم مظاهرة الثلاثاء في العاصمة الرياض ولتصرخ بشعار اصبح حديث كل من تواجد في جوفه قلب عطوف. حملت قرآنها وسجادتها وتوجهت الى مقر المظاهرة، وبينما كان الشباب المتظاهرون يهربون من هراوات جلاوزة النظام.. وقفت أم سعود تصرخ بأعلى صوتها: (يا ويلي يا سعود! أين أنت أخذوك مني الظلمة)؟ لم يستمع اليها ضابط القوات الخاصة فانهال عليها ضربا ثم كوّم جسدها الضعيف داخل حافلة امتلأت بنساء المظاهرة.

نعم نساء سعوديات من قحطان ومطير وشمر وغامد وتميم وبني خالد لم تمنعهن عباءاتهن ولا ما تندر الرئيس المصري أنور السادات عليها يوما ملقبا اياها بالخيام السوداء. لم تمنعهن هذه الخيام من ان يضربن اطناب خيامهن في قلب شعب صابر بحب وحنان، ولم يتعثرن بثيابهن الطويلة، بل اظهرن انهن اكثر رجولة ورفضا للظلم ورغبة في الحرية من اصحاب الشوارب الطويلة الذين يتشدقون بانتصاراتهم في ملاهي بيروت وكازينوهات لندن.

قدمت المرأة السعودية دليلا لا يدحض انها موجودة في الساحة السياسية، بل انها اللاعب الأول ما دام بعض رجال البلاد يرون في الظلم عدلاً، وفي انتهاك الحقوق قسطاطاً، وفي التعبير عن الرأي فتنة، وفي المشاركة السياسية تهجماً على ولي الأمر الذي لم نرَ له ولاية ولا أمراً.

لم تكن أم سعود وحدها بل ان المرأة السعودية والشاب السعودي لعبا دورا مهماً فيما يمكن تسميته بانتفاضة الثلاثاء العظيمة.. خرج الجميع ليس لأنهم يؤيدون (حركة الاصلاح الإسلامية) التي دعت للمظاهرة او لأنهم اعضاء فيها.. بل لأنهم سمعوا قولا يرفض الظلم، ويطالب بحقوقهم، فنهضوا وضربوا مثلا عظيماً هو ان المرأة التي ظلمها النظام، والشباب الذين نسي مشاكلهم وتجاهلهم، هم من تقدموا بصدورهم مستقبلين هراوات النظام، وهم من حشر في حافلاته، وليقدموا فتحا جديدا في التاريخ السعودي المعاصر، يلغون فيه هيبة النظام ويثبتون ان المواطن السعودي في اضعف حلقاته (المرأة وصغار الشباب) يستطيع القيام بفعل مضاد ومعارض وفعال أقلق كثيرا من الطفيليين الذين يعيشون على جسد النظام المتهالك.

كان الغائب الأول عن الساحة هم اولئك الذين يقبعون وراء زجاجات خمرهم من اللبراليين يتباكون على حقوق المرأة التي قهرها المطاوعة، وينظمون قصائد طويلة في ضياع الشباب واستقطاب التيار الاصولي له، بينما تتسلل المرأة من بيتها حاملة مصحفها وسجادتها متجهة الى الساحة المجاورة لبناية المملكة شمال الرياض لتعلن احتجاجها، ليس على لون عباءتها او طولها او قصرها. خرجت أم سعود وبنت الخوالد وبنت شمر وحصة القفاري والغامدية ليرفضن جميعاً الظلم بمعناه الحقيقي، رافقهن شباب متعلم وعاطل عن العمل.. لم يتعلموا يوما في مدارس الليسيه، ولم يقرأوا جملة لروسو، ولا يعرفون هل نيتشه مفكر او لاعب كرة قدم.

لم تفلح المناهج التعليمية التي لا تعرف من تاريخ بلادنا المعاصر الا تاريخ الأسرة الحاكمة، ولم تمنع الحملات الاعلامية وغسيل العقول المستمر بكل قوة ابناء وبنات الوطن من الوقوف ضد الظلم، فمهما بلغت قوة آلة النظام الاعلامية وانبطاح المطبلين للظالم.. الا ان القائمين على النظام يمنحون بعنجهيتهم وصلفهم فرصة لشعبنا كي يرفض قمعهم. وبينما يمجد النظام نفسه نهارا عبر اعلامه، يدمر ما حققه ليلا بسرقته ونهبه لثروة الوطن وتعذيب ابنائه.

خرج المواطن والمواطنة في الرياض وغيرها من المدن السعودية ليصبحوا ليبراليين حقيقيين، وليس اولئك الذين يباركون القمع يوميا، ويعتبرون قمة المناداة بالحرية ان تلبس الفتاة جنزا وان يطيل الشاب ظفيرته. كل تلك الحشود يومي الثلاثاء والخميس العظيمين مزقت ثوب الكذب والنفاق الذي لبسه مجتمعنا السعودي وأعادته الى صوابه، والى روحه الحقيقيه الرافضة للظلم والمطالبة بالمشاركة السياسية، ولتقول بأن حقوقنا تماثل حقوق اولياء الأمر بل انها اكبر وأعظم منهم، فهم خدم للشعب ونحن الشعب.

خرجت جموع ابناء وطني المغلوبة على أمرها لتطالب بأمرها، فقدم لها ولي أمرها وبعد فوات الأوان قرار مضحكا لا يعدو عن كونه دليلا على طريقة تفكيره.. فحين كان الشعب يبكي تصور النظام ان الشعب مجرد طفل، فأعطاه لعبة صغيرة حتى يسكت عن البكاء لفترة تريح اعصابه. لم يقبل الشعب قرار مجلس الوزراء السعودي إتاحة الفرصة للمواطنين السعوديين في المشاركة بإدارة شؤونهم البلدية مثل ما أستقبله بعض المحللين السياسيين الذين هللوا وتحدثوا عن تطور في مسيرة الإصلاح السياسي السعودي، لأن شعبنا الصابر يعرف الحقيقة المرة ان هذا القرار لا يمثل سوى طعنة نجلاء في ظهر المواطن السعودي وحقوقه في إدارة بلاده بنفسه والمشاركة في تقرير مصيره ومصير ابنائه. ولا يعدو هذا القرار إلا خطوة متسمة بالخجل والرغبة في كسب الوقت، ومن ساهم في اتخاذ القرار يعرف جيدا ان عجلة الإصلاح الضخمة والتي لا وجود لترس حكومي صالح يدور فيها تراوح مكانها، بل ان مشاركة الحكومة في الإصلاح لا تعدو عن تعطيل مسيرته او وضع العراقيل أمامها.

في المملكة العربية السعودية يمنع المواطن من اختيار ولي أمره وممثله في الحكومة، ولم يتطور الأمر الا بمكرمة مخجلة لا تعدو عن منحه الحق في اختيار نصف اعضاء مجلس بلديته التي لا تحوز إلا على سلطات النظافة وتحديد ارتفاع المباني، بل نزع من هذه البلديات في نفس القرار سلطة توزيع الأراضي في استمرار لسياسة أن الارض وما عليها ملك لولي الأمر. وكمن يقول أكرمتني بعد صوم يوم صيفي ببصلة، وجد المواطن نفسه أمام حكومة قررت ان له نصف الحق في تحمل مسؤولية نظافة منطقته وللحكومة النصف الأخر، حتى في نظافة شوارعنا يرى النظام ان شعبنا غير مهيء لها!.

هذه الحكومة التي تتعامل مع شعب يضم أكثر من مليون مؤهل جامعي وعشرات الآلاف من رجال الاعمال الذين يستثمرون اموالهم في أسهم الشركات الدولية التي تقرر مستقبل العالم الاقتصادي بل والسياسي، لا يأتمنه ولي أمره على اضاءة شوارعه ولا حتى تصريف مجاريه، في نفس الوقت الذي يمتلك فيه مواطنون سعوديون شركات كهرباء في بريطانيا وشركات مياه في اميركا. هذا الشعب الذي تربى منذ الاف السنين على التعامل مع رمال الربع الخالي واستطاع ان ينقذ عينيه ورئتيه من رياح السموم، لا تعتقد السلطة التي تتربع على كرسي القيادة ان لديه القدرة على ان ينظف شوارعه بنفسه دون ان يشاركه ولي الأمر القرار. وكأن ولي الأمر ليس من نفس أرومة مواطنيه وينتمي الى عائلة من عوائله، فهل ذلك البروفيسور إبن القرية القصيمية والذي أفنى شبابه بين قاعات المطالعة في جامعات غربية وعاد الى وطنه يعلم تلاميذه مبادئ السياسة وأصول القانون لا يحق له ان يتحمل بشكل كامل قرار نظافة شوارعه ولا صحة بيئته ناهيك عن توزيع ثروته الوطنيه وعلاقات بلده الخارجية.

الكثير من الفاعلين في مجال حقوق الإنسان في داخل الوطن لا يرون فيما قررته الحكومة السعودية من تنظيم انتخابات بلدية سوى انه كنس للدرج من أسفل وليس من أعلى. لكن البعض يتفاءل بأن الفرصة تحققت أخيرا في ان يتعلم السعوديون ممارسة الديموقراطية، ومنطقهم يقول: صحيح ان التجربة قاصرة وناقصة بل ان البعض يعتبرها تافهة وغير جديرة بالاعتبار.. الا انها أفضل من لا شيء. هذا الشيء الذي يبدو بعيد المنال قد بدا للمجتمع السعودي طيفه فحق لهم ان يداعبوه ويقتربوا منه كي يروا ماهيته وهل هو غول حقيقي بشع المظهر والمحتوى كما يصر علماء السلطة الرسميين الذي حفروا في عقول ابناء الوطن ان الديموقراطية رجس من عمل الشيطان وان الانتخابات افتراء على الله وتعدي على الإسلام الذي شوهه وعاظ السلطان بأن حولوه الى برنامج سياسي يبرمج الحياة السياسية لصالح الحاكم.

اين رجال السلطة والعلم الشرعي الذين سجنوا ابناءنا وحكموا عليهم بالقتل ونفوا بعضهم لأنهم دعوا للانتخابات كحل سياسي؟ وهل اصبحت الانتخابات حلالا اليوم لأن ابناءنا خرجوا الى الشوارع رافضين كذبهم وتزييفهم لتاريخنا وحاضرنا؟. تختلف التحليلات والتنبؤات عن نية السلطة وسبب اعلانها عن هذه الانتخابات وما ستقوم به في المستقبل.. الا ان ابرزها وأقربها الى الواقع ان ما أعلنته السلطة ليس سوى امتصاص للحماس الذي كشفت عنه قوى المعارضة والتي أبدت خلال العام الحالي قدرة كبيرة ومهارة متميزة خاصة بعد ان تملكت وسائل وقدرات اعلامية استطاعت رغم صغرها هز كرسي النظام وحشد القوى الضاغطة من امامه وخلفه، ويساعد النظام عن جهل أو غرور منه في حشد صفوف ليبراليين (حقيقيين) وإسلاميين تجاه هدف واحد وهو الضغط على النظام من أجل الإصلاح، بل ان اصوات قوية في داخل الوطن تدعو للتغاضي عن الاختلافات الفكرية والاجتماعية من اجل صياغة عقد اجتماعي جديد برضا او رغما عن السلطة. وهذا المقال جزء من الدعوة الى التحالف الوطني من اجل الديموقراطية بين جميع قوى الشعب بمختلف توجهاتها.

ان من خرجوا في مظاهرة الثلاثاء العظيمة لم يفكروا في الايديولوجيا او المذاهب الفكرية او الملل والنحل ولا بطول اللحى او قصرها.. بل خرجوا لأنهم يرفضون الظلم، ولم يعد يروا في النظام والأسرة المالكة حلا او صماما يمنع الانفجار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. خرجوا نساء ورجال كي يقولوا لولي الأمر ان الأمر لم يعد حكرا عليه، وان عليه ان يقبل بأن هناك شركاء في رسم الخريطة السياسية الوطنية. خرجوا كي يقولوا لأولئك الذين يتشدقون بالحديث عن الحريات والليبرالية ومن تمتلئ لياليهم تدفقا وبإسهاب في الحديث عن ان الحرية جميلة بينما يزدحم جدولهم النهاري بحثا عن صالح ولي الأمر من تقارير عن معارضين وغيرها.. خرجوا ليقولوا لهم: لم يعد لكم مكانا في قلب الشعب، وخاصة اولئك الذي يسمون انفسهم بالنخبة ويكتبون عن الاصلاح السياسي، لكن اذا ثار غبار قرب عباءة أميرهم امتشقوا اقلامهم دفاعا عنه حتى لو كان رافضا للاصلاح ومطبقا للظلم والسرقة وتبديد الثروات.

ولو استعرضنا ما كتبته الصحف الحكومية لوجدنا العجب العجاب، فجريدة عكاظ تصف المتظاهرين بالغوغاء وناشري الأحقاد بين الناس، وتشترط للإصلاح ان يتلاحم افراد الشعب بالقيادة! ولم يتحدث كاتب رأيها عن مطالب المتظاهرين بل اغتصب حقهم في التعبير عن الرأي واتهمهم بالغوغائية التي بناء على منطقه تتمثل في ان تحمل مصحفا وسجادة صلاة وتفترش الأرض رافعا مصحفك ومطالبا بحريتك وإطلاق سراح المعتقلين. اما جريدة الوطن والتي اسبغت على نفسها لقب صوت الوطن فاهملت في افتتاحيتها اصوات بعض المواطنين المعتصمة واتهمتهم بأنهم منساقين وراء دعوات وحملات مغرضة، ونسيت الجريدة ان أم سعود القحطانية لم تعرف يوما علم الاجتماع السياسي، ولم تطلب الا ان تجتمع بجسد ابنها المحترق ظلما. وزادت الوطن الطين بلة فمارست قمعا فكريا ودعت الى سلب الشباب حرية الاستماع للرأي الأخر وهي من عانت كثيرا لأنها تبنت حملات لها رأي آخر. أما رئيس تحرير جريدة الرياض فقد اتهم الف مواطن كما بينت اجهزته الاحصائية بأنهم مجموعة تافهة ونسي وهو يرأس جمعية الصحفيين السعوديين ان يمارس شيئا من المهنية وان يرسل مصوري جريدته ومحرريها كي ينقلوا لشعبنا ما حدث يومي الثلاثاء والخميس، ولو فعل حينها كنا سنرى  هل هم الف او مائة او خمسون الف. ولم ينفذ الرئيس العزيز واجباته المهنية بأن يسأل من تظاهر عن سبب خروجه وشكواه ومطالبه بدلا من ان يسيل قلمه دفاعا عن ولي أمره. ولو كانت التظاهرة في ميدان صيني لوجدت صورة ملونة وخبرا طويلا يتحدث عن قلاقل في الصين واعتصامات في كوريا الجنوبية. لكنه يوم الثلاثاء نسي أم سعود وتذكر ابن سعود فقط.

 

ماذا بقي للنظام بعد الثلاثاء العظيم؟

 

تقوم اجهزة النظام بتحركات تعيد للذاكرة ما فعله يوما وزير داخلية المغرب السابق والذي عرف بقسوته على معارضي النظام فقد فاجأ اعدائه وحل بينهم في مؤتمر الكونفدرالية الديموقراطية للشغل عام 1997 لابسا ثوب الحمل الوديع متحدثا عن اصلاحات وشفافية، واليوم نرى وزير الداخلية السعودي وهو يصبح ناشطا حقوقيا رغم ان في جيبه مفتاح زنازين كثيرة يعذب فيها ابناء وطننا. زمما يثير العجب قيامه أمام مؤتمر حقوق الإنسان في السلم والحرب بالحديث عن كرامة الإنسان وحقوقه. ولا يدفع الوزيرين الى ذلك سوى الإحساس بأن من الممكن ان يتلاعبا بالألفاظ وأن يتحدثا وكأنهما ناشطين في حقوق الإنسان بينما أيديهما ملطخة بدماء الأبرياء، ولا يلفظ اسميهما على ألسنة الأرامل والثكالى إلا بالسوء.

لكن ماذا يحدث على أرض الصراع بين النظام ومعارضيه؟ ومن سيتفوق على رقعة الشطرنج؟ لقد حققت المعارضة عدة انتصارات واستطاعت حشد الآلاف في عقر دار ابن سعود الرياض وهي بذلك هزت أهم ركن من الاركان التي يستند عليها النظام، وهي القاعدة النجدية القوية، فما بالك وقد اهتز المحور، هل ستبقى الأطراف هادئة؟. الحقيقة بل والبديهة السياسية تنفي ذلك وترفضه.

تختلف طرق الصراع السياسي بين المعارضة والأسرة المالكة السعودية حتى انها تصل الى اقتناع بعض المعارضين للنظام أن للسحر والشياطين مكانا في هذا الصراع.. فحينما اعلنت المعارضة عن القبض على طيارين كادا يقصفان المنصة التي يجلس فيها الأمير سلطان في استعراض جوي وقال انه قد تم القبض عليهم قبل اقامة الحفل بيوم واحد وهو يوم الثلاثاء، لم يجد احد المعارضين سببا لنجاة الأمير سلطان من محاولة الاغتيال سوى السحر، الذي يؤكد المعارض ان الحكومة السعودية تعتمد عليه وهي لا تستغني عن ذلك في الدفاع عن نفسها!. ولم يتوقف آخر عن التأكيد على أنه (يوجد في وزارة الداخليه 18 مكتبا مكتوب عليها: ضباط تحقيق. وهي في الواقع لسحرة تستخدمهم الداخليه لكشف الجرائم وغيرها! ونلاحظ أن بعض التفجيرات التي حدثت من المحسوبين على التيار الجهادي نفذوا عملياتهم ولم تكشفهم أعمال السحرة لأنهم كانوا يذكرون الأذكار والأوراد فأعماهم الله تعالى.. وهذا سبب طلب الدكتور سعد الفقيه في يوم المظاهرة تلاوة الأذكار جميعها.. لذا نحن متأكدون من استخدام الداخلية للسحرة). لكن المعارض الظريف برأ الى الله انه ليس متأكداً من وجود سحرة في وزارة الدفاع! وإنما في الداخلية فحسب!

فات على من تحدث عن سحر النظام انه لم يخالف الواقع، ولكن النظام سحر مواطنيه ليس بأعمال الشعوذة بل بأعمال مختلفة اولها المرجعية الدينية ثم القوة ثم المال ثم الاعلام بالترتيب، وكل هذه الاعمال انتهت صلاحيتها فلم يبق للنظام ورقة توت تستره، وانتهت اعماله، فلا مرجعية دينية له بعد ان اصبحت السلفية التي وقف متسترا وراءها ليست ملكا له، فقد سجلت براءتها تحت حيازة الشيخ ابن لادن وغيره ممن يختبئون في الكهوف او المزارع النائية في أطراف القصيم. اما القوة فلم يعد استعمالها ممكنا لقمع الناس، فخبر اعتقال شخص في النماص المعلقة على جبال السروات الحجازية يسمع به صياد كوري في كوخه البارد بعد دقائق.

أما بقي من مال فلا يكفي ازلام النظام، ناهيك عن الشعب الذي تكوم ابناؤه في انتظار فرص وظيفية. وسلاح الاعلام الذي كان اخر سهام النظام انكسر بسبب قناة اذاعية معارضة لا يخرج منها الا صوت صادق استقطب بسرعة الريح اصواتاً غاضبة، ولم تنفع مليارات الدولارات التي انفقت لشراء الاقلام والأصوات بل والأعراض، فانتبه الشعب السعودي على تردد لم يكلف صاحبه الا بضعة الاف من الدولارات النظيفة، لكن هذا التردد ازاح ببساطة كل تلك المليارات من البنكنوت الأخضر الوسخ.

لقد فشل النظام فشلا ذريعا نتيجة لافتقاده الى خطة مضبوطة تهدف الى تحقيق تغييرات جوهرية عبر مراحل، فخططه الخمسية لم تسفر الا عن كتل اسمنتية مخلفة داخلها نفوساً حائرة لم تصدق انها يمكنها التعايش مع فكرة المستبد العادل التي ينادي بها النظام. تهاوت فكرة المستبد العادل والتي كانت تهدف الى تبرير القمع والظلم والسرقة وأخفقت عملية تحويل شخصية اللص المنفرة الى شخصية مقبولة لأنه يسرق كي يعدل، وتوارت مصداقية فكرة انه يمكن للحاكم المستبد العادل ان يقمعنا على ان يعمل للحيلولة بيننا وبين قتال بعضنا البعض. نسي المستبد العادل ان زمن القبائل المتنافرة انتهى، وان المجتمع غير نفسه بنفسه وأصبح يقبل التعايش دون حساسيات، فقضيته لم تعد في خوفه من شقيقه بل في البحث عن لقمته. لقد بذل منظرو النظام جهدا باء بالفشل في تسويغ الاستبداد بإسم العدل، والترويج له على انه ضرورة لا أمان بدونها.

لم يستطع النظام السعودي خلق آليات جديدة من شأنها الحد من هيمنة قوى التطرف، بل انه على العكس من ذلك وقف وقتا طويلا بجوارها، فدفع ثمن ذلك غاليا، إذ رغم علاقته الوثيقة بالتجربة الملكية في المغرب فإنه لم يعمل بنتائجها، فلم يطبق طريقة التغيير الممنهج، ولم يحرص على الاستجابة لبعض مطالب قوى المعارضة، وفي نفس الوقت قام ويقوم بخلق آليات تحد من قوتها، ويبدو ان سبب فشله هو عدم توفر القدرة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، فقد استعمل صانع القرار الزمن كحل مما عاد عليه بالضرر.

قدم النظام للمعارضة فرصة ذهبية بأخطائه فوجدت نفسها تقترب من بعضها البعض، فرغم ان مظاهرة الثلاثاء حسبت على القوى السلفية الا ان معظم المتظاهرين كانوا غير محسوبين على هذه القوى، وينتظر ان يتطور الأمر الى خطر داهم على استقرار النظام بل وزواله حالما يكون هناك تفعيل لحوار بين القوى الضاغطة في المجتمع وهي القبائل والعائلات الكبيرة والعلماء التقليديين والمثقفين وعلماء الاسلام السياسي.

حالما يتمكن هؤلاء من الاتفاق على الحد الادنى وهو التعبير عن امتعاضهم عبر اعتصامات ومظاهرات، فلن يلبث الامر طويلا كي يذهب النظام الى غير رجعة. فلم يعد امر تحرك هؤلاء سرا، فالحوار بدأ يبرز الى السطح، ولا يعني كما كان قديما رد فعل ضد مسلسل الحداثة الجارف بل اصبح الآن انعكاسا لأزمة عميقة يمر بها المجتمع السعودي ناتجة عن فشل النظام في القيام بالمأموريات المناطة به، وهي تدبير الموارد وتوزيع الفوائد والتنسيق بين المصالح المتنافسة.

يعتقد السعوديون ان الوقت قد حان لإعادة تحديد القواعد التي تقنن اللعبة السياسية في بلادهم. ويرى معظمهم ان الأمر يتطلب خلق حقل سياسي عصري جديد وضرب مبدأ احتكار المؤسسة الملكية للوظائف الشرعية وفتح المجال امام اجتهادات خاصة خارجة عن دوائر المؤسسات الدينية التقليدية التي تعمل في خدمة السلطة السياسية. وفي هذا المجال وبعد المظاهرات والاعتصامات الاخيرة حاول النظام التعامل معها في جانبها النظري باستعمال ديناصورات شارع عسير (مقر دار الافتاء) فلم يفده الأمر شيئا بل عاد عليه بالوبال. ولا يمكننا انكار ان هناك اصوات من علماء الاسلام السياسي الجدد اتخذوا منحى انتهازياً فقد استشعروا ضعف النظام وتحطم قاعدته الشرعية وتيقنوا من ان العلماء الشرعيين التقليديين لم يعودوا قادرين على ضمان استمرار الشرعية الدينية للنظام وان النظام لا بد وان يلجأ اليهم كي يساعدوه في تدعيم مرجعيته الشرعية، هذه الاصوات تبدو مسموعة في تصريح الشيخ عايض القرني لجريدة الجزيرة المحلية حيث قال: (المظاهرات والاعتصامات تحدث الفوضى، وتجلب الفتن، وتجر إلى اختلاف الرأي وشتات الكلمة). ولفت الشيخ القرني إلى أخذ العظة والعبرة من الدول التي تحدث فيها المظاهرات حيث لم تخلف من وراء ذلك إلا ذهاب الأنفس والأموال والدماء وفساد الممتلكات العامة.

الانتهازية السياسية التي تبدت في طرح بعض العلماء الشباب الشرعيين قدمت هدية لليبراليين في ان يفعلوا ما يستطيعونه من جهود لاقتناص الفرصة وتدعيم مكانتهم داخل المجتمع السعودي، لكنهم فعلوا ما اعتادوا عليه من بيات شتوي ولم يفعلوا سوى استنكار المظاهرات معتبرينها فتنة وتصرف أصولي لا يمكنهم المشاركة فيه، وبهذا كشفوا عن عدم فهم للخريطة السياسية السعودية وعن غباء استراتيجي فاضح.

ما فعله من خرج في مظاهرات الثلاثاء والخميس العظيمة لم يكن عملا بسيطا بل كان بداية للعصيان المدني في السعودية، وخرقا للقوانين الظالمة التي تمنعهم من التعبير عن ارائهم، وقد تذوق السعوديون طعم الحرية حتى ولو فروا من هراوات ورصاص النظام واعتقل اكثر من 400 مواطن ومواطنة منهم، ولكنها معركة اعتاد عليها اجدادهم: فكر وفر الى ان يتحقق الأمل. لم يكن عصيانهم سلاح جبناء كما يعتبره بعض انصار العنف، بل انه يتطلب شجاعة متميزة وتضحيات بطولية، فمن يخرج ليعبر عن رأيه يعرف جيدا تبعات ذلك: الأمنية والاقتصادية، لكن ابناء الشعب السعودي قدم وسيقدم تضحيات بطولية حتى يصل الى حلمه في ان يحكم نفسه بنفسه.

 

* المشرف العام على المركز السعودي لحقوق الإنسان