بعد أن كشفت الحكومة أوراقها الإصلاحية
ضربتان موجعتان للتيار الإصلاحي في المملكة

 مرتضى السيد

 يعيش التيار اللبرالي حرجاً شديداً هذه الأيام، فقد أصبح بين كماشة الحكومة التي لا تريد الإصلاح، وبين جهات منافسة يمكن لها أن تختطف الشارع بكامل حمولته (وبمختلف اتجاهاته) وتصبّه في قناة التغيير الشامل، وبينها إنهاء الحكم السعودي نفسه.

 ضربتان محرجتان جاءتا في أقل من أربع وعشرين ساعة تلقّاهما التيار اللبرالي الإًصلاحي العريض في المملكة، من جهتين مختلفتين. الضربة الأولى جاءت من العائلة المالكة حين أعلنت عزمها ـ خلال عام ـ تشكيل مجالس بلدية (نصف منتخبة) حيث شقّت تلك الخطوة التيار الإصلاحي فأسفر الأمر عن أغلبية ليبرالية معارضة بشدّة، وأقليّة ليبرالية مؤيدة بشدّة أيضاً! للخطوة الحكومية. الضربة الثانية جاءت بسبب قيام بضع مئات بتظاهرة في الرياض العاصمة تطالب بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ضمّت نساءً ورجالاً، تبيّن أن كثيراً منهم لا ينتمون الى التيار الديني، رغم اعتراف الحكومة شبه الرسمي بأنها جاءت بتحريض من الخارج، وبالتحديد من المعارض السعودي المقيم في لندن الدكتور سعد الفقيه.

اعتبر الليبراليون السعوديون في أكثرهم إعلان الحكومة بتشكيل المجالس البلدية بالصورة التي قدمتها (نصف انتخابية)، وبالصلاحيات التي أعلنتها في البيان الرسمي، ليس خطوة في طريق الإصلاحات، بل خطوة كشفت عن أن نيّة العائلة المالكة لا تتجه في الأساس الى الإصلاحات، وأنها خطوة تافهة الحجم والتأثير لا تستطيع معها تلك المجالس إذا ما قامت من إصلاح أيّ شيء، كونها مجرّدة من الأسنان (الصلاحيات). وهي فوق ذلك، كشفت عن محاولة التفاف على الإصلاحات كونها مسألة لم تتضمنها الدعوات الإصلاحية التي ركزت عليها العرائض التي كانت تشير الى تشكيل مجالس (مناطقية) وليس (بلدية) منتخبة بالكامل، والى انتخاب مجلس الشورى، إضافة الى أن الدعوات الإصلاحية ركزت على فورية الحلول وشموليتها بحيث تتضمن تغييرات هيكلية دستورية. لكن المجالس البلدية المعلن عنها، وبحسب كتابات عديدة لشخصيات ليبرالية، هي أدنى مما كان عليه الوضع السعودي قبل خمسين عاماً وأكثر.

فالمجالس البلدية ليست تجربة جديدة، وكانت تقوم بالإنتخابات الكاملة، ولهذا اعتبرت الخطوة الحكومية الأخيرة تخلّفاً وارتداداً عن منجز كان قائماً وتراجعاً عن إصلاح مجلس الشورى نفسه الذي طال انتظار إصلاحه منذ تأسيسه. ويرى كثير من الليبراليين السعوديين، أن الإعلان الحكومي عن المجالس، أثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن حلم المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي صعب التحقّق في الظروف الحالية، وأن الإرادة السياسية غير متوفرة للإصلاح.

وتأتي أهمية إعلان الخطوة الحكومية من جهة أنها أوضحت بكل جلاء ما هية (ممكن) الحكومة، أي ما يمكن للعائلة المالكة التنازل عنه، وبهذا فهي أغلقت الأفق بشكل شبه كامل أمام أيّ إصلاح أو مطالب إصلاحية في المستقبل يأتي من جانبها بشكل طوعي واختياري، وبأمل أنها فهمت الدروس المحلية وقدّرت حجم التهديدات التي تتعرض لها البلاد، وبالتالي فإن استجابتها الطوعية الأخيرة تشبه (الكارثة) التي لا يريد بعض الليبراليين المقربين من دائرة صنع القرار تصديقها!

أهمية أخرى كشف عنها قرار تشكيل المجالس البلدية، وهي أنها بقدر ما سدّت الآفاق الطوعية الحكومية للمبادرة بالإصلاحات، فإن القرار حفّز خيارات الضغط الشعبي. فكثير من الليبراليين نأى بنفسه عن إقحام الشارع في معادلة الصراع السياسي، إما خشية من الحكومة، أو بأمل أنها أكثر وعياً بموقف البلاد الذي لا تحسد عليه. ولهذا كانت النقاشات السابقة التي تدور حول تفعيل الشارع، وتنظيمه وزجّه في مظاهرات واعتصامات سلميّة وغيرها، لا تحظى بالإهتمام المطلوب، ولا تحوز على رأي أكثرية النخب. اليوم، وبمجرد أن أعلن عن تشكيل المجالس البلدية، فقد قُطع الشك باليقين، وأصبح الحديث يدور حول (ممكن الجمهور) أي ماذا يمكن للجمهور أن يفعله (لإجبار) النخبة الحاكمة على تغيير مواقفها، فالقبول بالمجالس البلدية بالصورة التي ظهرت عليه، وبدون أية أجندة سياسية تحدد الخطوات اللاحقة ـ رغم أنها معروفة سلفاً ـ يعني عدّة مسائل خطيرة: منها تأجيل عملية الإصلاح لسنوات طويلة قادمة، ومنها التخلّي فعلياً عن مطالب النخبة الليبرالية التي تضمنتها عرائض المطالبة بالإصلاح التي قدمت مؤخراً للمسؤولين السعوديين.

ومن هنا نتفهم حدّة المشاعر التي طغت في مجالس (ديوانيات) السعوديين عشيّة إعلان تشكيل المجالس البلدية، فكثير من النخب عبّرت عن اشمئزازها من الخطوة الحكومية، وبعضها عبّر عن قناعته بأن الإصلاح غير ممكن مع وجود الطاقم الحالي حاكماً، وبعضها رأى بأن الشعب يجب أن يأخذ دوره. لقد حفّزت الخطوة الحكومية الحديث والتفكير في الخيارات الأخرى، التي كان يأمل البعض أن لا يحتاج للخوض فيها.

الأمر المؤكد، أن التيار الليبرالي مقبل على عمليّة نخلٍ ضرورية، فقد انضوى تحت هذا التيار أصناف مختلفة، وبينها شخصيات مقربة من السلطة أو جزء من ماكنتها، وجدت أن ركوب موجة الدعوة الى الإصلاحات قد تعود ببعض الفوائد، أو لا يترتب عليها أضرار. ولكن مع مرور الوقت، ومع إعلان المجالس البلدية، سيكون هنالك فرز في المواقف حسب البعد أو القرب من المواقف الرسمية. ومن المحتمل جداً، أن تميل مواقف النخبة الى شيء من الراديكالية في التعاطي مع الملف الإصلاحي، ومن المرجح أيضاً أن تخسر الدعوات كما يخسر الداعون الى مسايرة وتبرير الموقف الرسمي الحالي.

فيما يتعلق بالمظاهرات، فإنها أوقعت الحيرة بالبعض بشأن الموقف منها. فالجميع يتفق على أنها وسيلة من وسائل التعبير التي يجب أن تحترم، فإذا ما أضيف اليها حقيقة أنها جاءت من أجل الدفاع عن حقوق المعتقلين السياسيين، وأن بين المشاركين فيها نساء، أمكن تفهم مقدار الحرج الذي أصاب التيار الليبرالي المتشدد في مواقفه من (السلفيين) والذي يميل في بعض الأحيان الى تحريض الحكومة من أجل قمعهم. لقد شعر بعض الليبراليين وكأن المبادئ التي يدعون اليها وقد اختطفت من التيار المنافس! الذي أثبت لهم على الأرض، أن (ممكن الجمهور) أوسع كثيراً من (ممكن الحكومة) وأن الجمهور مهيّأ جدّاً للعب دور سياسي في فرض إرادة الإصلاح. فإذا كان أحدهم وعلى بعد آلاف الأميال قادرٌ على تحريك مئات من المتظاهرين ـ مختلفي المشارب السياسية ـ فلماذا لم يقم أحد ممن يعيش بين ظهراني الشعب بتحريكه نحو تحقيق أهدافه؟

يبدو أن بعض النخب الليبرالية تميل الى رفضها للمظاهرات، لا لأنها وسيلة غير صحيحة في الأساس، ولا لأن أهدافها غير مشروعة، بل لأنها جاءت من أو حُسبت على طرف منافس، وهذا لعمري ـ إن صدق ـ خطأ سياسيٌ قاتل.

أهمية التظاهرات الأخيرة في الرياض، أنها نادرة الحدوث في مثل هذه المدينة، وأنها فتحت الأعين على (الخيارات) المؤجلة التي رفض الكثير من الإصلاحيين القيام بها تماشياً مع المنع الحكومي. ولكنهم الآن ـ وبعد أن وقعت ـ إما أن يبادروا لتحديث آلياتهم والإصرار على جوهر أهدافهم التي حددتها (وثيقة الرؤية) وإما أن يخسروا الشارع والحكومة معاً، ويركنون جانباً من قبل جمهور تاق أن يكون خلاصهم على يديه.

مما لا شك فيه، أن المظاهرات رغم محدوديتها إن نجحت في أصل قيامها فإن عدواها ستنتقل الى مناطق ومدن المملكة الأخرى، وسنجد أن مختلف الشرائح تعبر عن نفسها والمطالبة بحقوقها. تساءل بعض الإصلاحيين عن طابور الأربعين ألف مواطن الذين اصطفوا في الرياض بداية شهر اكتوبر أمام وزارة المالية للحصول على وظيفة بين ثمانين منها فحسب عرضتها للجمهور، تساءلوا: لماذا غاب عنا دفع أولئك للتظاهر والإحتجاج؟ ولماذا لم يتحرك الطلاب ـ خاصة في الجامعات ـ وكذلك العاطلون عن العمل، وخريجو الثانوية الذين لم يجدوا مقعداً شاغراً بصورة احتجاجية بدل انتظار الفرج على يد حكومة فشلت في توفير الحدود الدنيا من الخدمات الإجتماعية؟.

المظاهرات والإحتجاجات السلمية ـ وإن ووجهت بالعنف الرسمي كما هو متوقع ـ هي التطور الطبيعي والحتمي لرد الفعل الجماهيري الشعبي على سوء الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. ورغم أن الحكومة احتاطت للأمر بمخزون من الفتاوى الرسمية التي تحرّم المظاهرات شرعياً، فإنها لن تفلح في الفترة القادمة من انفجار الشارع. وخير لها القبول ومن ثم احتواء مظاهرات الغضب التنفيسية، من أن يحتقن الشارع أكثر فأكثر ويتحول الى مادة خام تغذّي العنف القائم والمتصاعد. وبالنسبة للنخب الليبرالية التي لاتزال تلوك أحاديثها القديمة عن (المظاهرة النسائية) المطالبة بقيادة السيارة في بداية التسعينيات من القرن الماضي، فإنها لم تلتفت حتى الآن بأن ثقة الجمهور بها تتضعضع حين تفشل في فرض مطالب الإصلاح وتحسين الأوضاع بشكل عام، ولا يمكن المحافظة على تلك الثقة إلا بالدفاع المستميت عن مصالح الجمهور، لا الإنجرار وراء مشاريع الحكومة التي يعلم الجميع أنها لن تؤتي أكلها ـ إن كان لها أُكُلٌ  في الأصل ـ إلا بعد سنوات وسنوات، تكون البلاد ومن عليها قد تغيّرت ـ الى الأسوأ على الأرجح!