من يقرر التغيير في المملكة؟

الزمن الإصلاحي مفصولاً عن حاجات السكان

 كيف يمكن للدولة تنظيم العملية الإصلاحية زمانياً، وهل الأجندة الإصلاحية تخضع لحساب زمني دقيق حتى يمكن معرفة مسار الخطوات الإصلاحية؟. سؤالان مركزيان لا بدّ من الإجابة عنهما من أجل استشراف مستقبل الإصلاح السياسي في بلادنا، وقبل ذلك التنبوء بنجاحه أو فشله.

ثمة تركيز كثيف على عامل الزمن في المشروع الإصلاحي، ما يشي أحياناً بأن هناك زمناً إصلاحياً يجري الالتزام به، ويتم خلاله تنفيذ بنود أجندّة معدّة سلفاً، بملامح واضحة ومحددات دقيقة. وعلى أية حال، فإن ما يظهر حتى الآن هو زمن مفصول عن الحاجة، فليس هناك ما يمكن وصفه بالعلاقة المتكافئة بين الزمن والحاجات الملحّة سواء الراهنة منها أو المستقبلية في التخطيط الإصلاحي الرسمي. بل هناك ما يشير الى أن عامل الزمن يُستعمل لتحقيق غرض مضاد للعملية الإصلاحية، أي التعويل على عامل الزمن في إمتصاص أو إدحاض ضغوط الإصلاح ومؤثراته الراهنة، وتالياً إستخدام عامل الزمن كقوة كابحة للمشروع الإصلاحي.

فإذا رجعنا الى الوراء قليلاً، الى حيث التجارب الإصلاحية ـ جدلاً ـ لم يكن عامل الزمن يمثل عنصراً هاماً فيها، بل كان ينظر اليه معزولاً عن حاجات اللحظة المعاشة، وهذا ما كان يجعل مقادير الإصلاح ضيئلة بالقياس الى حاجات الزمن كما يعبّر عنها السكان، من خلال العرائض بدرجة أساسية.

إذن، ما يجب علينا حقاً أن نتفحصه ليس ما تقرره الحكومة من إصلاحات بل ما تتطابق معه من زمن يضبط حركتها في الواقع. إن التجارب السابقة لم تقدّم دليلاً على الرابطة المفترضة بين الإصلاح السياسي والجدول الزمني المناسب، وهناك ما يدعو للريب المشروع في إحضار الزمن داخل العملية الإصلاحية، فكثير من الخطوات الإصلاحية جرى إما تأجيلها أو اسقاطها بالكامل بفعل الإبتذال المفرط لعامل الزمن.

لا يمكننا ونحن نرمق قراراً جديداً ببدء خطوة إصلاحية جديدة كالتي أعلنت عنها الحكومة مؤخراً بإنتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية إلا أن نفكر مليّاً في الزمن المقرر كي تستغرقه هذه الخطوة. ولا يمكننا أيضاً أن نفصل الفترة الزمنية لهذه الخطوة عن الزمن الإصلاحي المصاحب لهذه الخطوة، أي أن الحاجات لا تقف عند نقطة زمنية جامدة بإنتظار استكمال شروط ما سبقها من خطوات، فنحن نتفاعل مع زمن متحرك في حاجاته وشروطه، وبالتالي فإن حاجات ما قبل عقد من الزمن ليست هي حاجات الآن، ولن تكون هي قائمة حاجات المستقبل.

فكما هو معلوم فإن الزمن الراهن يحمل معه مؤجلات إصلاحية متراكمة، وهكذا فإن الزمن المستقبلي سيكون مكتظاً بقائمة حاجات ـ قليلة أو كثيرة ـ غير قابلة للتحقيق بالنظر الى قدرات الدولة المتآكلة في الايفاء بمستلزمات السكان بحسب المعطيات الحالية. وحينئذ سيصل الزمن الى نقطة إنقطاع تامة، أي إنسداد كامل لأفق الخروج من الأزمة الشاملة.

الزمن لدى العائلة المالكة قد بدأ بحسب قرارها الاخير من إنتخابات بلدية عرجاء، وليس هناك ما يدعو للتأمل في أن حاجات المواطنين وتوقعاتهم قد بلغت مستوى متقدماً، حيث ينظر كثيرون الى أن الإنتخابات البلدية تعتبر مرحلة نائية عن خط التوقعات لدى السكان في العملية الإنتخابية. وهناك في وسط التيار الإصلاحي الوطني من يرى بأن ليس هناك طرقاً عديدة ممكنة للخروج من الورطة السياسية التي وقعت فيها الدولة بفعل عامل الزمن نفسه، وهذه الورطة تمارس الآن تأثيراً قوياً على سلوك الأفراد والجماعات ومواقفهم من العائلة المالكة، وخصوصاً في عالم مازال يتغير بوتائر متسارعة. لكن من المفيد أيضاً أن لا نغفل جدوى تبلوّر وإعلان مبادرات إنقاذ وطني جاد، رغم المخاطر المحدقة بمبادرات كهذه خصوصاً في لحظات تاريخية يصعب فيها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حين تقع إرتجاجات عنيفة في بنى المجتمع والدولة معاً وليس هناك من وسائل كفيلة بإيقاف مسلسل التذمر المتفجّر في كافة الأرجاء بفعل بلوغ اليأس الى درجات متقدمة.

ولا بد من التشديد مكرراً على أن الزمن الذي كان يؤوي كل هواجس الدولة وارتجافاتها يفقد مفعوله الحمائي حين تُمس حاجات السكان المباشرة واليومية، فهناك يتم إغلاق نطاق الزمن بالكامل ولا يكون أمام الدولة سوى تلبية تلك الحاجات وإن إضطرت الى وضع سياسات إستثنائية أو برنامج طوارىء على المستوى الوطني، إذ لا معنى لزمن لا يأتي بحلول منقذة للدولة والمجتمع معاً.

إن الارتباط العضوي بين حاجات السكان المباشرة، المادية تحديداً في التوظيف والتعليم والصحة والخدمات العامة، والحاجات السياسية والثقافية يزيد في إضعاف قدرة الزمن على الدخول كعنصر إيجابي لصالح الحكومة، فالحال الراهن يقدّم دليلاً دامغاً على أن ثمة تكلفة باهظة قد يوقعها الزمن في الدولة، ويأكل من استقرارها، ووحدتها ومصيرها.

لا يبدو حتى الآن أن ثمة أفق مصالحة وطنية شاملة قابلة لأن تثمر في المستقبل المنظور، لأن الدولة ببساطة شديدة أفقرت خياراتها الراهنة وأوصلت المواطنين الى قناعة نهائية بأن التغيير لم يعد متروكاً للدولة كيما تقرر منفردة حجمه وأمده، بل باتت أغلبية المواطنين ترى بأن التغيير أصبح شأناً عاماً يشترك فيه المواطن العادي، وداعية الإصلاح، ووصولاً الى رجال السلطة.

إن لحظة التطابق بين الزمن والحاجة في أي عملية إصلاحية مرجوة لم تتحقق حتى الآن، وأن البون الشاسع الفاصل بينها يعني تفاقماً في أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإن إستمرار الحال كما هو عليه الآن وتواصله يعني السير بإتجاه واحد وهو إنفلاش الأوضاع الداخلية.

إن الاصوات المتذمرة التي خرجت عن مألوف التعاليم الرسمية في الصحافة تمثل قمة جبل الثلج المغمور والمختزن حمماً من الغضب الشعبي، والمرشح في أي لحظة للانفجار. فما عاد نقد الحكومة والسخرية منها سراً مخفياً بل يكاد يخترق قصور الأمراء من شدة دوّيه وشياعه المنفلت، وما عبّر عنه ولي العهد عن ضعف الوطنية لدى السكان ليس سوى مثالاً من واقع الحال. فالزمن هنا أصبح خارج دورته المرسومة، فلم يعد زمناً إصلاحياً بل هو زمن التعبير المتفجر عن أوضاع غير محتملة وغير قابلة للتأجيل، في ظل تبدد الثقة بالدولة على الإتيان بحل سحري.

فالزمن هنا بات يلحّ بشدة على الالتحام بحاجات السكان الراهنة، وأن فشل الدولة في وضع تقدير زمني دقيق لهذه الحاجات لا يثني السكان عن عمل كل ما من شأنه تحقيق المهمة، وتالياً إجبار الدولة على أن تتعاطى مع مطالب المواطنين الآن وليس ما مضى منها.