إعترافات الخضير والفهد والانتصار الخادع

 مسكّنات الارادة المشلولة

 عبد الله الراشد

 هل نجحت الدولة في تجفيف منابع (الإرهاب) بإظهار الشيخين ـ زعيمي التطرف والعنف ـ ناصر الفهد وعلي الخضير على شاشة التلفزيون ليتبرءا من أفعالهما وفتاواهما؟ هذا المقال يقيم ظاهرة الإرهاب والعنف وكذلك الإعترافات المتلفزة في سياقاتها الإجتماعية والفكرية والسياسية؟

 هل حقاً أن الحكومة خرجت من المعركة ضد الارهاب بإنتصار كاسح بعد استدراجها إثنين ممن تصفهم بمنظّري الجماعات الارهابية أو رموز التيار التكفيري الجهادي مثل الشيخ الخضير والشيخ ناصر الفهد للإعتراف أمام شاشة التلفزيون بتراجعهم عن فتاوى سابقة حول مجاهدة الكفار والمشركين بما يشمل الدولة؟. وهل أن النزعات المتشددة بمضمونها الايديولوجي تتوقف على إعتراف شخصين أو أكثر، بما ينتج عنه إحباط للمفعول التدميري لهذه النزعات وتطويق لمناطق انتشارها؟ وهل هي في الأصل مشكلة مجموعة صغيرة شذّت عن الطوق وخرقت الاجماع؟، وماذا عن منهج التفكير الديني السائد والقادر على توليد أشخاص آخرين بل جماعات أخرى تتبنى ذات الأفكار وتحمل ذات الوسائل وترنو الى تحقيق نفس الغايات؟. وهل القضاء على الارهاب المتأسس على فكر ديني كفيل بإعطاب مولّدات العنف الأخرى، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟.

هذه الاسئلة وغيرها حين تدرج في سياق مفصول سنخرج جميعاً بنتيجة واحدة هي تلك التي أرادت الحكومة ووزارة الداخلية حصرياً غرسها في أذهان المشاهدين وعدد كبير من الموتورين حيال نشاط الجماعات الارهابية، وهي أن الدولة نجحت في (تجفيف منابع الارهاب) وأنها أصابت التطرف في مقتل، وبالتالي تحقق النصر المؤزر على الارهاب. أليس هذا ما توحي به المقالات المنشورة في بعض صحافتنا المحلية بعد إعترافات الشيخين الخضير والفهد، حين وجدت هذه المقالات فرصتها في إخراج المكبوت في الصدور للعلن ضد ممارسات التيار الديني المتشدد.

ليس الأمر بالتأكيد كما يبدو في ظاهره ولن يكون كذلك، فنحن نتعامل هنا مع قضية ذات أبعاد متعددة، لا يمثل فيها الإرهاب سوى جزءه الاشد ظهوراً وحضوراً، وهناك من الاجزاء ما طفح منها على السطح وبات يمثّل مصدر قلق شديد لدى الغالبية العظمى من السكان، وهي تمثل عناصر التجاذب في العلاقة الشائكة بين الدولة والمجتمع. ثمة ضرورة للاشارة هنا الى أن الدولة حاولت عن عمد نهب الاهتمام العام لقضية الارهاب لأنها تمثل خطراً مباشراً وآنياً على مصير السلطة، فيما يتم تنحية الأجزاء الأخرى، في مسعى لترتيب وإقحام أولويات الدولة في أذهان السكان.

بوضوح شديد، إن ما تحقق حتى الآن لا يعدو كونه إنتصاراً واهماً وخادعاً للدولة قبل المجتمع، فأزمة الدولة ليست قابلة للاختزال بطريقة ساذجة، فالاختناقات الحادة لا يمكنها أن تحلّ عن طريق ضربة حظ حققها القبض على شخصين، إو عبر إدخال التيار الديني في البلاد في أتون معركة داخلية، يمارس فيها رجل الدين دور المحقق بالنيابة عن وزارة الداخلية من أجل تمييز المعتدل من المتطرف داخل التيار الديني. إن الانتقالات الفجائية في المواقع وخلط الأوراق بغرض إخراج الدولة في المحصلة النهائية من الباب الخلفي في عملية إصطياد كبش فداء جاهز للابقاء على العقل المدبّر معافى من تبعات التخطيط والتدبير والتمويل في صناعة التطرف فشلت في صياغة قصة محبوكة الفصول، فقد دلّت بداياتها على الخاتمة، حتى بات معلوماً أن التطرف ليس شخصاً فقد كان منهج تفكير وسلوكاً وذهنية حاكمة أملت على المجتمع تفسيرات خاصة في الدين والمجتمع، واحتضنته أجهزة الدولة كيما تحقق غاياتها السياسية، وأن هؤلاء الاشخاص الذين ظهروا على شاشات التلفزيون لم يهبطوا بمضلات من الفضاء ولم يأتوا من كوكب آخر كي ينشروا رسالة التطرف في البيت والجامع والجامعة والمعمل والمؤسسة الحكومية وفي الشارع والشاطىء والمخيم، بل هم جزء من نسيج إجتماعي محلي الصنع.

ليس الخضير والفهد وحدهما مسؤولين عن تنشئة جماعات متشددة، وإلا نكون قد سمحنا لتسرّب التطرف من منافذ أخرى عبر تبرئة فكرنا الديني المتشدد الذي مازال يحظى بالرعاية المعلنة والمستترة من قبل الدولة. فأشكال التطرف المتفشية لم تعد مرهونة لما يتقنبل في حي سكني أو مؤسسة نفع عام أو جهاز أمني، بل هي ممتدة في السلوك العام وتبدأ أول مرة في تشكيل النظرة تجاه الآخر وتسري في العلاقة معه وصولاً الى إستئصاله، إنها بكلام آخر مسؤولة عن الاعدادات الذهنية لأجيال تم حقنها برؤية حول الكون والحياة والانسان على هذا الكوكب والتي شكلت البنية التحتية للتفكير، وأمدّته بكل مشرعنات التضحية بالنفس والآخر لخدمة أهداف دينيوية وليست دينية.

وهذا يدعو للتذكير مكرراً بأن اجتثاث جذور الإرهاب وتجفيف منابعه يتطلب نهجاً متقدماً في تشخيص (واقع الحال) قبل الإندفاع نحو حلول قد تبدو في ظاهرها قاطعة لدابر الارهاب، ولكنها ما تلبث أن تكشف عن أزمات أخرى أشد ضراوة. ومن المؤسف القول بأن الدولة ألفت هذا النوع من الحلول طيلة تاريخها، حين تستأنس لما تحققه من إنتصارات آنية والقضاء على تلك الظواهر المتفجرة بصورة مباشرة في وجه السلطة، فيما تغفل عن قصد أو دونه ما سينشأ في المستقبل من تداعيات مشتقة من تلك الظواهر، والتي كانت الدولة اعتقدت بأنها قد محقتها بالكامل. وهذا إنما يفشي شيئاً واحداً هو غياب مؤسسات استراتيجية قادرة على وضع سياسات مستقبلية لجهة إمتصاص التوترات الداخلية وإحتواء تداعياتها الآجلة، إستناداً على معطيات دقيقة وواقعية. فالخطر الداهم ليس مصوّباً ضد مركز السلطة فحسب، بل إتسع نطاقه ليدق أبواب البيوت ويتسلل من النوافذ ويتسرب عبر التلفزيون والراديو والكتاب والانترنت والصف المدرسي، ليختم دورته الانتاجية بولادة مجتمع التوتر، الذي يبحث عن ضحاياه في الداخل والخارج، فهل يمكن القول بعد ذلك بأن الدولة غير مسؤولة عن البقع المتفجرة؟!

إن الاستبسال المفتعل في دحض ظاهرة العنف لم يتجاوز حتى الآن حد البهلوانية الاعلامية بتأثيرها الآني، ولكنها بالتأكيد ستكون ـ كما الحال في غيرها من تجارب سابقة ـ سريعة الضمور، لأنها مصممة في الاصل لغرض إحداث تغييرات في السطح دون المساس بجوهر القضية المراد معالجتها، ولأنها أيضاً ترجمة غير أمينة لرغبة صناعة الحل لمشكلات الداخل. بمعنى آخر، أن الاستنفار الأمني بكل أشكاله هو محاولة لتقديم إجابة عاجلة ـ وإن كانت غير متقنة ـ لأسئلة تتدفق من خارج الحدود حول النشاطية غير المسبوقة لجماعات العنف ومصادر تغذيتها ومساحة انتشارها في الداخل، ولذلك فهي تصدر عن إحساس خادع بضرورة درء تهمة الأبوية لهذه الظاهرة. أي بوضوح شديد هي إجابة تقدّمها الحكومة للخارج، وحصرياً للولايات المتحدة والغرب عموماً وفحواها (إننا معكم شركاء في مقاومة الارهاب وفي الوقت نفسه نحن أيضاً أحد ضحاياه). ولكن هل توقفت ماكينة العنف عن العمل، وهل أن حمم الارهاب جرفها سيل التدابير الأمنية المشددة؟ بالطبع كلا، والسبب ببساطة أن وقود العنف مازال يتدفق في هيئة خطاب ديني استنفاري شمولي يستمد قوته من الركب السياسي المرافق له والعاضد لحضوره المتصل.

إن الدعوة التي أطلقها الأمير طلال لمحاكمة رموز التشدد الديني (وتحديداً الخضير والفهد) تستبطن هروباً من حقيقة مواجهة الذات، والمراجعة النقدية للسجل الايديولوجي، الذي مازال متماسكاً ومنبثاً بدرجة فاعلة في وسائل الاعلام المحلية والخارجية المموّلة محلياً. فمازالت فتاوى التكفير، وتنزيه الذات، وقذف المجتمعات بأحكام قصوى تمثل عناصر مركزية في الخطاب الديني المبثوث عبر وسائل الاعلام الرسمية وشبه الرسمية. إن مخزون التشدد لا يضمحل بمجرد تطويق فعله التفجيري، بل هناك حاجة مشددة لإخضاعه للفحص الشامل، لأن حملة الأفكار المتطرفة نشأوا وغرفوا وتشربوا من نفس المخزون، وهذا لا يعني بتاتاً إدانة لمجمل محتوياته. فالمخزونات الدينية والايديولوجية عموماً تمرّ بلحظات مراجعة نقدية ليست بالضرورة تقويضاً لها، بل تحريرها من انسدادات مصيرية، بما تتطلب إعادة بناء للأفكار والاجتهادات. ولكن بعضاً من هذه المخزونات تجف في لحظة تاريخية حين تفشل في وعي اللحظة المعاشة وشروط الاستمرار، كما تخبر عن ذلك تجارب أكثر من تسعة مذاهب دينية خرجت من تاريخ المسلمين.

 ولأن الدولة الحالية مؤسسة على عقيدة دينية فإنها غالباً ما تحسب المراجعة النقدية تجريحاً لمشروعيتها، وبالتالي فإنها تلجأ الى عمليات إزاحة مستمرة وتصفيات داخل التيار الديني دون التفريط فيه، والدفاع عن متبنياته العقدية، بوصفها ضماناً لصيانة الايديولوجية المشرعنة للدولة. إن النزوع المتعاظم والملحوظ أحياناً لجهة زيادة الجرعة الدينية في المجال الاعلامي يصدر عن إحساس عميق بالغرم الفادح من تآكل القاعدة الدينية، والرغبة الجامحة في تعويض الغرم بتأكيد الهوية الدينية للدولة، وإن تسرّب عبرها ما يفصح أحياناً كثيرة عن التزام وثيق بمجمل المتبنيات العقدية بما فيها تلك ذات الصبغة المتشددة.

لم يعد الأمر يتطلب جهداً ذهنياً للقول بأن عودة سريعة ستتم الى حيث يقف السكان بانتظار نهاية فصل المواجهة الأمنية بين الدولة والارهاب، هذا المسوّغ الذي أرادت منه الادارة الأميركية أن يتحوّل الى مكافئ سياسي لمعاداة السامية لتصادر بإسمه ارادة العالم، ويبدو أن  كثيراً من الحكومات قد تلقفته كيما تنهب به إهتمام وهموم رعاياها. فهذه البكائية المثيرة للازدراء في قصة الارهاب قد تمدّ في عمر الأزمة، ولكن بالتأكيد لا تقصي الحاجة المتعاظمة  لدى السكان في البحث عن تسوية لها. فالتعويل المفرط على حلول إستثنائية لأزمات السلطة يأكل من قدرتها المستقبلية على إدارة الأزمة، لأن الملفات العالقة تحتضن عناصر تفجر أخرى، فيما الآفاق تقترب من الانغلاق المحكم على صانع القرار، حيث لا مجال فيه حينئذ للاختيار.

لهذا السبب، جاء الحل الأمني مفصولاً عن سياق المعالجة الشاملة لأزمة الدولة، وكأن الأخيرة تتعامل مع قضية طارئة أو حادثة مقطوعة الصلة عن مجريات داخل بلغت درجة الغليان. فقد جرى إختزال الحوار الوطني بين خصمين هما الدولة وجماعات التشدد، مع إلفات الانتباه الى هذيانات الحوار وتسوياته الساذجة والادوار المتبادلة على رقعة الشطرنج بين الخصمين المتساندين. ولذلك، فإن ما يشي به إعتراف رموز التشدد يثير الريبة في نوايا أهل السياسة، فما قيل عن مقدّمات الاعتراف من ترتيبات الغرف المغلقة والمشاورات السرية بين أطراف داخل التيار الديني يؤسس لشكل حواري معلول، يقوم على إستعراضات القوة، وإعادة تنظيم الولاءات الداخلية، وتصفية الحسابات السياسية، وأخيراً إصدار شهادة البراءة لذمة الدولة، في مقابل عملية تخصيب لاتجاه ديني بديل يتموقع خلفاً لسلف جرى إحراق أوراقه ضمن صفقة تسوية، وفي ذلك إجهاض مبكّر لأية محاولات حوارية مستقبلية. فإذا كانت الدولة بكل المخاضات العسيرة التي مرّت بها منذ نحو عقدين لم تشق مساراً صحيحاً نحو الاصلاح الشامل فإن الحوار الوطني لن يغدو أكثر من كونه جزءا من المهرجانية الخطابية التي إعتاد السكان عليها وهم يقحمون في دورة دعائية أخرى لصالح منجزات غير مشهودة، والتي قد تفضي في الختام الى نفس الترتيبات الثنائية عبر إعادة تفعيل وتطوير لمفهوم (الشرهات) تحقيقاً لغاية الاحتواءات المنفردة والقاصمة لظهر القوى الوطنية الفاعلة.

من جهة ثانية، إن محاولة إشغال السكان بالمنجز الأمني الأخير (أي اعتقال عدد من رموز التشدد الديني في الداخل، وإقبارهم سياسياً واجتماعياً) قد تبدو في ظاهرها مسكنّاً آنياً ولكنها لا تدخل ضمن آليات الحل الاستراتيجي، الذي لم يتم إعتماده حتى الآن من قبل صانعي القرار في الدولة، إذ لا يمكن تصوّر إستراتيجية حل شامل دون وجود تشخيص شامل لأزمة الدولة. فبالرغم من أن المولّّد الايديولوجي للتشدد يعمل بطاقته شبه الكاملة، الا أن المحرّضات الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي الأخرى نشطة وتغذي مشاعر السخط وسط الغالبية العظمى من السكان.

لا يكفي نجاح الدولة في إغلاق بؤرة للعنف هنا وبؤرة للارهاب هناك، بل انتصارها الحقيقي يكمن في قدرتها على الوصول الى مصادرهما، وهذا يتطلب إرادة عليا واستراتيجية شاملة وجريئة ترسي أسس الحلول الجذرية لمشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية، تماماً كما لا يمكن تصوّر اصلاح سياسي مثمر دون بنية تحتية قادرة على صيانته وتطويره عبر تشجيع مؤسسات المجتمع المدني، ووضع آلية فاعلة لحوار وطني واسع وممتد، واطلاق للحريات العامة في الصحافة والتعبير والتشكّل النقابي على أساس مهني وحقوقي.