خلاصة ورقة مقدّمة لمؤتمر الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة

المشاركة السياسية والتطرف

 د. مشاري بن عبدالرحمن النعيم

 قام النظام السياسي السعودي منذ البداية على موازنة توفيقية بين جذور دينية وعرفية من جهة، و متطلبات التحديث والعصرنة من جهة أخرى. لم يكن التوفيق بين هذا وذاك سهلاً دائمًا، ولم يخل من صعوبات وهو ما تطلب حضور القيادة السياسية كي تضع ثقلها هنا تارة وهناك تارة أخرى وفق مقتضيات الاستقرار السياسي؛ لقد توافقت الكثرة الغالبة من المهتمين بالشأن العام أن اللحظة التي نعيشها في هذا الوقت تمثل منعطفًا تاريخيًا يحتاج إلى تطوير للموازنة السابقة؛ وقد التقطت القيادة السياسية هذه الإشارة واستعدت لإطلاق عملية سياسية تطويرية لا تخرج عن المعادلة التوفيقية المشار إليها؛ وما هذا اللقاء الكريم إلا إحدى بواكيرها.

اتخذت المشاركة الشعبية في عمليات ُصنع القرارات عدة صور تاريخية كالاتصال الشخصي ورفع العرائض بصفة فردية أو جماعية، غير أن أسلوب الانتخابات ظل الأكثر استحواذًا على مطالب الشعوب، بل وربما زادت جاذبيته مع تسارع وتيرة الاتصالات المعولمة. في ظل التحولات الجذرية في الخريطة السكانية في المملكة (تصاعد نسب التحضر إلى معدلات غير مسبوقة، تخطى نسبة شريحة الشباب نصف إجمالي عدد السكان، ارتفاع أرقام مخرجات مؤسسات التعليم العالي ونسب المثقفين والمتعلمين في مختلف التخصصات بمعدلات قياسية) من جهة، والتغيرات العالمية والإقليمية الحالية من جهة أخرى، لا مناص من القول : إن تطويرًا للعمل السياسي في المملكة في اتجاه ديموقراطي ـ مع استلهام واعٍ بالطبع لثوابتنا الدينية والوطنية ـ قد بات أمرًا محسومًا.

يستخدم مفهوم الديموقراطية هنا ليعني نظامًا يتنافس فيه عدد كبير من الموظفين الحكوميين سلميًا للحصول على أصوات المواطنين الناخبين للحصول على مناصبهم. تستدعي الديموقراطية عدة مفاهيم محورية غدت جزءًا منها مثل الحقوق المدنية والسياسية وفصل السلطات والمراقبة المتبادلة بينها والدستور وتنظيمات المجتمع المدنية

من هذا المنطلق، يمكن القول بكل ثقة ـ وجريًا على منهج النهضويين المسلمين السابقين والمعاصرين ـ إن بالإمكان التوصل إلى صيغ خلاقة للتوفيق بين الثوابت الإسلامية والممارسة الديموقراطية. لا شأن لنا هنا بالآراء المتشنجة التي تصر على فرض تعارض أو تناقض بين الإسلام كدين والديموقراطية كأسلوب حكم، لما في ذلك من تضييق وحجر للطابع العالمي للإسلام ولصلاحيته باختلاف المكان والزمان؛ ولا يغمض الكاتب عينيه عن أثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية التي تسود في مجتمعنا وما تفرضه من ضرورة التفكر في تبني صيغة أو صيغ توفيقية تراعي الخصوصية الاجتماعية ضمن حدود المنهج العلمي. من هذا المنطلق تهتم الورقة الحالية بالمشاركة الديموقراطية في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحالية في مجتمعنا وخصوصًا موجة التطرف الديني تأثيرًا وتأثرًا.

تأخذ المشاركة الديموقراطية عدة صور أدناها التصويت وقد ترتفع وتيرتها بالمشاركة في الحملات الانتخابية وحضور اللقاءات السياسية [كالندوات والمحاضرات وحلق النقاش..] والترشح للمناصب العامة والانضمام للتجمعات السياسية.إن من نافلة القول: إن المشاركة السياسية الديموقراطية من ضرورات المجتمع الحديث من الناحية المبدئية؛ إنما يبقى ما تجب مناقشته قضية مقدار هذه المشاركة وسرعة جرعاتها وتوقيتها أخذًا بعين الاعتبار الظروف المجتمعية السائدة [كالخريطة الفكرية والطبقية والبيئة الإقليمية والعالمية وتأثير ذلك كله على الاستقرار السياسي.

 التطرف والارهاب

 بنية الفكر المتطرف هي عادة نظام منغلق على ذاته يقوم على مجموعة مما يعده أصحابه «مسلمات بديهية» لا تقبل الجدل؛ يجري التوصل إلى هذه «المسلمات» عن طريق توظيف نصوص أو مبادئ معينة بطريقة لا عقلانية مبتسرة أو لا تاريخية بما يفرغها من مضمونها وخصوصيتها التاريخية (تأثيرات الزمان والمكان)؛ يؤدي هذا النظام المنغلق إلى إدانة الواقع وتجريمه ـ أو جوانب منه ـ وتجهيل كل من يفكر ضمن أُطره، ومن ثم مقاطعته أو حتى محاربته وإياهم. المتطرفون عادة لا يفكرون ضمن أركان النظام القائم ولا يقبلون غير تقويضه والبدء من ثم في «تشييد» نموذجهم المثالي الذي يتصورون أنه سوف يستجيب لمسلماتهم ويخلص العالم من شروره ومفاسده؛ ما يجعل كلاً منهم يحمل مشروعًا «استشهاديًا»؛ و«الشهيد» الذي يؤمن عادة بصحة مواقفه وآرائه لا يقبل نسبية التفكير وتعددية الخطابات والتسويات الظرفية وهي كلها بالطبع من خصائص التفكير العقلاني النسبي.

ويمكن القول عمومًا : إن الإرهاب هو كل استخدام غير مشروع للعنف المادي أو الفكري ضد الغير لتحقيق أغراض سياسية.

 علاقة التطرف الفكري بالبنية الاجتماعية

 من المعترف به ـ ولو ضمنًا ـ أن استقرار وانسيابية العملية السياسية الانتخابية تستلزم الارتكاز على مساحة وسطية اجتماعية ـ دينية ـ سياسية عريضة توفر قاعدة من الإجماع أو شبه الإجماع السياسي. (لا يتناقض هذا مع ضرورة وجود حماية قانونية للآراء المخالفة التي تقع ضمن مساحة فضفاضة من الإجماع الوطني). إن ما سبق ذكره من تعزيز لجوانب الثقافة السياسية العقلانية يصب في قنوات هذه المساحة الوسطية ويوسعها ويقلص بالتالي مساحات التطرف الفكري والديني ويجف منابعهما ويؤدي بها إلى الضمور.

تحتاج هذه الوسطية العقلانية إلى حامل اجتماعي لها وهو الذي سيكون ليس إلا بنية اجتماعية حيوية تتوسع وتترسخ فيها الطبقة الوسطى الجديدة التي تتفاعل إيجابيًا مع قوى السوق والعولمة الاقتصادية؛ وفي الوقت الذي تأمن فيه الطبقة الرأسمالية على أعمالها واستثماراتها، يتم تبني برامج وسياسات نشطة تقلص دائرة الفقر وتحاصرها.

في ظل عدم توافر دراسات علمية لظاهرة التطرف وللخلفيات الاجتماعية ـ الاقتصادية للمتطرفين والإرهابيين في المملكة في هذه الفترة، لا مناص من القول اعتمادًا على ما يتوفر من معلومات شحيحة: إن شريحة واسعة من المتطرفين يأتون من أوساط اجتماعية وسطى أو حتى عليا أحيانًا، وبالتالي لا يبدو أن المقولة التي تربط بين التطرف والإرهاب من جهة، والظروف الاجتماعية ـ الاقتصادية من جهة أخرى بصورة مباشرة، تستند إلى أرضية صلبة. لا تربط الورقة الحالية تلقائيًا بين العوامل الاقتصادية والنظام الفكري، فللأخير منطقه الخاص الذي لا يعكس غالبًا مؤثرات البناء الاجتماعي ـ الاقتصادي بطريقة ميكانيكية آلية؛ غير أن الخطاب الثقافي ليس منعزلاً تمامًا عن هذه المؤثرات، وإنما يتأثر بها بطريقة نسبية غير مباشرة.

 

حو ل مقدار المشاركة السياسية

 

لقد كان من الحكمة التقليدية أن المشاركة السياسية الانتخابية كفيلة بتقليص مساحة التطرف الفكري والسياسي وتوسيع مساحة الوسط والاعتدال السياسي. كان هذا على الأقل هو ما أوحت به التجارب السياسية الأنجلوـ أمريكية؛ والحق أن هذه القناعة تعززت بتجارب سياسية عبر العالم في عدة مجتمعات؛ غير أن تجارب مجتمعات انتقالية في أوروبا وغيرها هزت شيئًا من القناعة السابقة وعلمت بعض علماء السياسة أن العملية السياسية الانتخابية قد تعطي اتجاهات متطرفة ـ لا تضمر ولاءً للعمل السياسي التنافسي ـ فرصة للتهييج الشعبي والنفاذ إلى المؤسسات السياسية المعنية دون إيمان حقيقي بشرعيتها أو جدواها.

لا يعفي السيناريو السابق من التفكر في وسائل لتفويت الفرصة على المتشككين والمتطرفين وتعزيز مصداقية العملية السياسية التنافسية وذلك بإعطائها اهتمامًا جديًا وجعلها أكثر من مجرد واجهة سياسية فقيرة المضمون. ولذلك، يرى الكاتب أن الخطوة التي أعلن عنها أخيرًا بشأن إنشاء مجالس بلدية منتخبة جزئيًا يمكن أن تكون ذات أهمية خاصة إذا ما جرت وفق نظام محدث يعطي لهذه المجالس اختصاصات ذات شأن حسب مقتضيات نظام إداري لا مركزي؛ ومن المؤمل أن تجري مراقبة عمل هذه المجالس بروح إيجابية بغية تذليل المعوقات أمامها وتوفير المعلومات والمخصصات الضرورية لحسن سير العمل. من المهم كذلك أن يتم تطوير هذه التجربة في ذات المجالس وفي مؤسسات سياسية أعلى بطريقة حكيمة واعية لضرورات العصر وتضاريس المجتمع.

إن ما يسبق ذلك أولوية في هذا المضمار أن يجري العمل على توفير البنية الثقافية السياسية الحديثة التي تهيئ المجتمع لهذه النقلة المهمة بما يعزز فرص التطوير السياسي السلمي ويحافظ بالتالي على الاستقرار السياسي للمملكة.

يبدو للباحث أنه يمكن تصنيف الآراء التي طرحت في الساحة الوطني حول مقدار ما يجدر تبنيه من إصلاحات سياسية إلى صنفين:

* تبني إصلاحات سياسية جذرية تسفر عن إقامة نظام سياسي برلماني ليبرالي حديث من أهم أركانه أن تكون الحكومة فيه مسؤولة أمام مجلس شورى (برلمان) منتخب انتخابًا شعبيًا مباشرًا.

* تبني إصلاحات سياسية جزئية متدرجة تحافظ على الشكل العام لنظام الحكم في المملكة مع إنشاء مؤسسات سياسية جديدة أو إصلاح مؤسسات قائمة بما يوسع مجالات المشاركة السياسية الشعبية.

 

حول سرعة المشاركة السياسية

 

يغلب على النقاش الدائر حول المشاركة السياسية الشعبية في عملية صنع القرار اتجاهان:

* الاتجاه الذي يرى أن المشاركة السياسية الشعبية مبدأ أصيل منشأه أن تعزيز قدرات المواطنين وتوسيع مداركهم الاجتماعية والسياسية بصفة خاصة أمر يتحصل من خلال عمليات المشاركة السياسية؛ فآليات المشاركة حسب أصحاب هذا الاتجاه كفيلة أن توسع الآفاق الفكرية للمواطنين وتوجهها نحو تعزيز تمثل الفرد لمفهوم الصالح العام.

* الاتجاه الآخر الذي يرى أن المشاركة السياسية يجب أن تكون خطوة تالية لنشوء فضاء اجتماعي مستقل ووسيط بين الدولة والمجتمع؛ هذا الفضاء هو ما يعرفه علماء السياسة بالمجتمع المدني الذي يتكون من منظومة من الجمعيات والنقابات والأحزاب المستقلة عن الدولة والتي تعمل على توليف الآراء والمطالب الاجتماعية وصهرها على شكل مواقف وبرامج وسياسات عامة. لا ينفك علماء السياسة من الإشارة إلى أن هذه التنظيمات ترفع مستوى الوعي الشعبي بالشأن العام وتنمي مفهوم المصلحة الاجتماعية وتؤطر عملية التصويت.

لا غنى عن ذكر أن لمفهوم المجتمع المدني بعدًا مهمًا آخر يتمثل في تبلور ثقافة سياسية وطنية عقلانية تقر ـ ضمن ثوابت الإجماع العام ـ بالتعددية السياسية والاجتماعية وتعترف بحق الآراء المتعددة في التداول والنقاش العام.

لا مراء في أن ثقافتنا المحلية تتضمن عناصر عقلانية و إيجابية ينبغي تعزيزها، وأخرى دون ذلك من الأولى تهميشها. لن يكون هذا العمل سهلاً وسوف يتطلب وقتًا طويلاً نسبيًا، حيث يعرف المختصون أن التغير الثقافي عملية بطيئة وليست دائمًا أحادية الاتجاه. إن تعزيز الجانب العقلاني في ثقافتنا المحلية هو من مقتضيات العصر وهو أمر حاصل جزئيًا نتيجة لتسارع التقدم العلمي ولقوى العولمة الثقافية والاقتصادية؛ غير أنه من الملاحظ أن جوانب غير عقلانية لا تزال ترتع في خطابنا الثقافي وممارساتنا الاجتماعية. لا تقتصر هذه الظاهرة على مجتمعنا بالطبع، إذ توجد في مجتمعات عدة بدرجات متفاوتة، غير أن حدتها تعمق ازدواجية في التفكير والسلوك الاجتماعيين، ويهمنا هنا ما يتعلق منهما بالجانب السياسي.

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن إقحام المجتمع في ميدان المشاركة السياسية قبل نضوج مؤسسات المجتمع المدني يصب كما هو حاصل في بلدان مجاورة في خانة الانتماءات التقليدية القبيلة والطائفية والجهوية بل ويزيدها صلابة؛ إذ أن العملية الانتخابية سوف تنحرف عن هدفها الحقيقي وتعكس الانقسامات الاجتماعية والدينية المعروفة في المجتمعات التقليدية؛ وفي حين أن المجتمعات التقليدية معروفة باستقرارها السياسي لأن مجال السياسة معزول عن تلك الانقسامات، فإن عملية انتخابية تنقل تلك الانقسامات إلى الميدان السياسي قد تهدد بتعريض الاستقرار السياسي للخلل.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن بعض حالات التغير السياسي الحديثة والمعاصرة أعطتنا وما تزال تعطينا دروسًا في العلاقة بين التغيير السياسي من جهة، والتغيير الثقافي والاجتماعي ـ الاقتصادي من جهة أخرى. ونستطيع في هذه العجالة أن نشير إلى تجارب «دمقرطة» مرت بها دول تندرج في صنفين من حيث السرعة والتوقيت كما يلي:

* حالات تسارع فها التغيير السياسي بشدة دون أن يُمهَّد له ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا كالاتحاد السوفيتي السابق والجزائر والنتائج غير خافية.

* حالات سبق فيها التغيير الثقافي والاجتماعي ـ الاقتصادي التغيير السياسي وهيأ له كالتجربة المغربية التي رغم عدم خلوها من الملاحظات، فإنها تحمل مضامين إيجابية واعدة.

 

الخلاصة

 

بين هذين الرأيين، يجدر التفكر جماعيًا وحثيثًا في تبني سياسة تحديث ثقافي بحيث يجري العمل على نشر وتعزيز ثقافة اجتماعية سياسية عقلانية تقوم على تحديث الخطاب الديني وتهيئ المواطنين لاستلهام أصول تراثهم ومضامينه الراقية؛ بتوظيف هذه العناصر يبدع المعنيون برنامجًا سياسيًا تحديثيًا إصلاحيًا متدرجًا يحدث مؤسسات سياسية قائمة وينشئ أخرى تقوم ـ جزئيًا في البداية ـ على آليات سياسية انتخابية.

لا تضمن العملية الديموقراطية بالطبع حل كل المشاكل والصعوبات الاقتصادية القائمة، فالأمثلة المتوفرة خلصت إلى نتائج إيجابية أحيانًا ودون ذلك في أحيان أخرى؛ ولكنها بالتأكيد سوف تزيد شفافية العمل العام وتعزز مبدأ المسئولية والاستجابة الحكومية للاتجاهات الشعبية.

 

(نقلاً عن مركز الحوار الوطني)

http://www.nationaldialoge.org.sa/news3.php?id=33