إنكسار خطاب الوالي

وحدة الدولة في قسمة المجتمع

عبد الله الراشد

 نشأة الدولة على عناصر انشقاقية دينية وإثنية لم يجر استبدالها أو تخفيضها بفعل عامل التحوّل في الجهاز الاداري للدولة والانتقال من نظام القبيلة الى نظام المؤسسة الحديثة، فقد ظلّت العناصر تلك نشطة في تسيير دفة الحكم والادارة، كما فرضت نفسها على سياسات الدولة وخططها، وأصبحت جزءاً جوهرياً من سلوك الطبقة الحاكمة ومنهج التفكير السائد فيها. بكلمات أخرى، أن سيرورة الدولة أكّدت مرة تلو الأخرى بأنها تكفل استقرارها وديمومتها ووحدتها من خلال تقسيم المجتمع أو الابقاء على إنقسامه الاجتماعي والمذهبي والمناطقي، بل أمكن القول بأن الدولة تستمد من تناقضات المجتمع قوتها وهيمنتها وتالياً وحدتها.

إن المحاولات المبذولة من قبل قوى سياسية وطنية من أجل وضع ما يمكن وصفه بلبنات وحدة مجتمعية عبر الانضواء في نشاطات ذات طابع وطني، لم تأت في سياق تلبية لارادة سياسية عليا، بل هو الشعور العميق لدى رموز وطنية وفكرية بالحاجة الى ولادة وطن يحتضن الجميع ويستوعب تنوعات المجتمع الفكرية والسياسية والاجتماعية، أي إعادة بناء الوطن من الاسفل، من المجتمع، بعد أن فشلت السلطة السياسية في تحقيق هذا الهدف منذ قيام الدولة. فالمنجز الوطني التوحيدي لم يكن جزءا من مشروع التوحيد السياسي للمؤسس الأول، وأن مجد الوحدة الجيوبوليتيكية بقي محبوساً في مقصد الالحاق القسري وليس الاندماج الطوعي.

الغربة التي عاشها المجتمع داخل حدود الدولة تمثل إحدى تعبيرات القسمة العميقة التي أوجدتها السلطة في بنية المجتمع، إذ أن السكان لم يشعروا بأنهم قد انتظموا في وحدة مجتمعية منسجمة ومتراصة، بل وجدوا أنفسهم ملحقين قسرياً بمركز سلطة لا ينتمون اليها ولا تمثّل لهم سوى قوة إكراهية قهرية. إن هذه الغربة أخذت أشكالاً متعددة ثقافية واجتماعية وسياسية، فالجماعات المنضوية داخل الدولة لا تعرف عن بعضها سوى أنها تجتمع تحت سلطة واحدة، دون روابط ثقافية واجتماعية وروح وطنية مشتركة.

من الناحية النظرية، كان قيام الدولة سيوفّر إطاراً توحيدياً للجماعات لو قررت القيادة السياسية ذلك، وكان بإمكان الأخيرة دمج الهويات الفرعية في هوية وطنية عليا، مستمدة عناصرها من التشكيلة الاجتماعية والثقافية في هذا البلد الا أن ذلك لم يحصل، بل جرى العمل في إتجاه معاكس لهذه المهمة الاستراتيجية أي تأكيد عناصر الفرقة والتشتت في بنية المجتمع. فكان من الطبيعي أن يحاط المسعى التوحيدي لدى الطبقة السياسية بالشك والحذر، وأن يخضع لتفسيرات أخرى مضادة للمقصد الظاهري، والسبب في ذلك أن الوحدة السياسية قامت في الأصل على تقسيم المجتمع، حتى بات التقسيم أصل وجود الدولة وتوحّدها السياسي.

في تجارب التحركات السياسية المحلية ما يعزز هذا الرأي، فقد أبدت الطبقة الحاكمة هلعاً متزايداً من أية نشاطات إصلاحية تقوم على تحالفات بين قوى سياسية مختلفة، كون هذه الطبقة ألفت طريقة في التعامل مع أشتات سياسية واجتماعية، وكانت تخرج غالباً في مداولاتها مع هذه الاشتات غالبة من خلال أدوات تقسيمية أتقنت إستعمالها ببراعة، وأعانها على ذلك الاستقرار في الاوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية الداخلية والاقليمية والدولية. ولكن ما لم تألفه الطبقة الحاكمة، بل يثير فيها قلقاً شديداً، هو أن يلتقي الفلول على أرض مشتركة وهدف موحد، وأن ينتظموا في إطار عمل جمعي لايصال صوت احتجاجي متناغم الى القيادة السياسية.

لعل ما لم يحظِ بإهتمام خاص من قبل المراقبين حتى الآن، أن أحد الدوافع الرئيسية لاقدام الحكومة السعودية على مبادرة المصالحة مع المعارضة الشيعية في المنطقة الشرقية ممثلة في الحركة الاصلاحية في سبتمبر عام 1993 هو الخوف من نشوء تحالف سياسي بين هذه الحركة والمجموعة السلفية الاعتراضية الناشئة إبان حرب الخليج الثانية والتي عبّرت عن نفسها لاحقاً في (لجنة الحقوق الشرعية)، حيث كانت الاتصالات الجارية بين أفراد من الحركة واللجنة من أجل ايصال صوت الأخيرة الى الخارج، سيما بعد تعرّض أعضاء اللجنة الى الاعتقال والفصل من الوظيفة، فيما بلغ التنسيق بين الجهتين حداً مقلقاً لدى الجهات الأمنية والسياسية في المملكة. هذا التطوّر غير المتصوّر من قبل القيادة السياسية وبخاصة انعقاد رابطة وتنسيق بين طرفين ظلا يصنّفان بأنهما نقيضان لا يجتمعان، لابد أنه قد كشف عن خطورة التقاء طرفين فاعلين في الساحة المحلية، ولا ريب أنه يحمل تهديداً خطيراً على السلطة. هذا ما كانت الاخيرة تفسّره وتخشى منه، وهذا ما دفع بالقيادة السياسية التي نأت عن قبول مبادرات سابقة من قبل المعارضة الشيعية بالمصالحة السياسية أن تتحرك من الأعلى الهرم السياسي في الدولة الى إبلاغ رسالة للمعارضة الشيعية بأنها على إستعداد للحوار والتفاهم من أجل إنهاء فصل طويل من التوتر بين السلطة والشيعة في المنطقة الشرقية. وقد كان الاتفاق بين الحكومة والحركة الاصلاحية رغم نتائجه المخيبة للآمال، في إستتباب الهدوء في المنطقة الشرقية التي مازالت آثارها واضحة الى اليوم بالرغم من عدم إيفاء القيادة السياسية بما وعدت به المعارضة الشيعية، وبالرغم من الاضطرابات الحادة في المناطق الأخرى.

خلال العام المنصرم، تبلوّر شكل أولي من التحالف الوطني يحتضن أطيافاً سياسية واجتماعية وفكرية متنوعة مدفوعاً بالحاجة الملحّة الى بناء قاعدة عريضة من العمل الجمعي لجهة حث الحكومة على إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة وعاجلة. فلأول مرة يجتمع السني والشيعي والليبرالي والقبلي والحضري والنجدي والحجازي والشرقي والجنوبي والشمالي في نشاطات مشتركة، والاتفاق على أهداف محددة وواضحة، والتعبير بلسان موحد عن تطلعات مشتركة، مما أضفى على هذه النشاطات طابعاً وطنياً حظي بتأييد واسع النطاق من قطاعات المجتمع. إن مثل هذه النشاطات لم تكن في السابق مدرجة في جداول أعمال أي من القوى السياسية والفكرية، فقد كانت البيانات والعرائض تصدر تعبيراً عن كل جماعة بعينها، وتنطق عن أفكار وأهداف تيار محدد، الا أن المشهد السياسي قد تبدّل بدرجة كبيرة منذ مطلع العام الفائت، حيث أصبحت أغلب القوى السياسية تنزع نحو الانضواء في إطار عمل جمعي، تتوحد فيه المواقف، وتتناغم فيه الاصوات، وتتفق فيه المطالب، ونجحت القوى السياسية والفكرية الى حد ما في تكييف تطلعاتها مع المطلب العام الشعبي الذي فيه إخراج الدولة من أزمتها المستفحلة، وهنا مصدر القلق لدى الطبقة الحاكمة.

وبطبيعة الحال، فإن ما جمع المختلفين لم يكن محض الصدفة، بل ثمة عوامل عديدة ساهمت في توليد مشاعر داخلية لدى أفراد هذه القوى بأن زمن الحلول المجتزأة والاستثنائية قد أدبر، وأن الجميع يواجه أزمة على مستوى الوطن، وأصبح الجميع يشعر بأنه بات في قارب واحد ولا نجاة لأحد دون غيره الا بجهد جماعي من أجل انقاذ القارب بمن عليه. وهذا ما يفسّر تلقائية الاندفاع لدى أقطاب القوى السياسية الفاعلة على الساحة المحلية، إذ لم يتطلب العمل المشترك جهداً خارقاً وتفاهمات شديدة التعقيد من أجل صياغة رؤية اصلاحية وطنية تكون مورد إجماع، بل كان ضغط الاحساس بالحاجة لعمل ما كفيلاً بتعبيد طريق سهل كي يلتقي الطيف السياسي والفكري عند نقطة بداية موحّدة.

لم يرق للطبقة الحاكمة أن ترى المنقسمين على يدها يعيدون توحيد أنفسهم، كيف وأن وحدتهم موجّهة هذه المرة ضدها. ففي ذروة سطوتها كانت تراهم أشتاتاً، وقد كانوا كذلك، أما الآن وهي في إنفراط عراها وهزالها تراهم متوحدّين، فلابد أن يخلخل هذا المتغيّر المنظومة السياسية برمتها. لقد تحرّكت جهات عديدة في الدولة كيما تعيد القسمة الى سابق عهدها، وأن تفصل بين المتوحدين الجدد، بإسم الاقليم، والمذهب، والقبيلة. ولم تعد سراً لغة التقسيم التي درجت الطبقة الحاكمة على إستعمالها، فعنوانها العريض إخافة الكل من الكل، وتشكيك الكل في الكل، من أجل السيطرة على الكل. إنها معزوفة تقسيمية باتت معروفة لدى الاقصى والادنى في بلد لم ينشأ سوى على القسمة بين أجزائه.

قد تحرّك الطبقة الحاكمة في النجدي إحساس الخطر من زوال تفوقه وتميّزه لصالح من يقبعون خارج المركز، المتطلعين بشغف شديد وضارِ نحو إعادة توزيع السلطة والثروة، وبناء الدولة على أسس جديدة تكفل العدل والمساواة للجميع، ولسان الحال، أن بقاء التفاوت المناطقي على قاعدة سياسية واقتصادية وفكرية يصب في مصلحة من يقفون الآن في معسكر المطالبين بالاصلاح السياسي.

من جهة ثانية، قد تثير الدولة وتدفع بإتجاه فتح ملف التقسيم الطائفي، وتحريك مجموعات مسكونة بالهم الطائفي لاشغال الساحة المحلية بقضية الخلافات المذهبية. فالطائفية كانت ومازالت أمضى سلاحاً وأسهله في ذات الوقت، ومنذ قيام الدولة مارست الطائفية دوراً تمزيقياً خطيراً، وأسدت للطبقة الحاكمة أكبر خدمة مزدوجة، فقد ساهمت في تقسيم المجتمع، ولكنها في الوقت نفسه حققت أكبر إصطفاف داخلي في مركز السلطة. ولم تكن الدولة بحاجة الى بذل جهد كبير من أجل تعبئة المتطيفين تكويناً للدخول في حرب طائفية ضد هذا المذهب وذاك، فالمناخ العام يتلبّد بالفكرة الطائفية ولا يحتاج أكثر من خطبة، أو فتوى، أو رسالة من أجل إشعال فتيل المعركة الطائفية. 

وحتى في هذا الوقت الذي تتبنى فيه الدولة قضية الحوار الوطني فهناك جهات من داخل الدولة تنزع الى إستدراج المجتمع الى المستنقع الطائفي، والابقاء على نشاطية الفكر التقسيمي على قاعدة مذهبية. وبذلك يمكن للدولة أن تحمل خطاباً ملتبساً ولكن ذا غاية مزدوجة، فبامكانها دفع تهمة الطائفية عن نفسها من خلال رفع لواء (الحوار الوطني)، ومن جهة أخرى الاحتفاظ بأصول اللعبة التقسيمية في الداخل من خلال إقناع التيار الديني المتطيف بالعقيدة التنزيهية التي ترى في محاربة الآخر ومنابذته وحياً من السماء. بل ثمة ما يخشى منه أن ما قد يتم تحت دعوى الحوار الوطني من ممارسات طائفية أكبر وأخطر مما كان يتم في فترات سابقة حيث كانت الممارسة الطائفية شبه علنية وسافرة. إن زوال مبررات الحرب الطائفية في الخارج قد لا يعني إطفاء محركاتها في الداخل، فمن ضرورات الدولة أن تبقي على قسمة المجتمع، طوائف، ومناطق، وقبائل. إن مكوّنات الدولة الايديولوجية تتطلب الابقاء على القسمة في أشكالها المختلفة.

في سؤال وجهناه الى عينة عشوائية في المنطقة الشرقية حول إنعكاسات التوجه الوحدوي للحكومة على الممارسات الطائفية، فجاءت الاجابة مذهلة، بأن أفراد العينة لم تلحظ تغيّراً ملموساً في سياسات الحكومة في هذا الصدد وتحديداً في مجالات التوظيف والتعليم والخدمات والقضاء وحرية التعبير. فضجيج الاحاديث عن تغييرات جوهرية في سياسات الدولة في مجالات ذات صلة بالمعتقدات لم تعكس نفسها بنفس القدر الذي جرى الحديث عنه بخصوص تلك التغييرات. وقد أرجع بعض أفراد العينة السبب الى أن دوافع الحكومة في التغييرات تتجه في الأصل الى الخارج أكثر منها الى الداخل، أي أن ما جرى من تعديلات في منهج التعليم، وفي نظام الدعوة والارشاد، وفرض القيود على الخطباء كان إستجابة لضغوط خارجية وبالدرجة الأولى أميركية، ولم تأت من أجل تسوية مشكلة داخلية بين المجتمع والدولة.

يلتقي هذا التفسير مع ما نقله المحامي عبد الرحمن اللاحم في حوار تلفزيوني مع فضائية (العربية) في الثلاثين من ديسمبر الماضي، حول خلفية انعقاد اللقاء الوطني الثاني للحوار الفكري، حيث عدّه لقاءً بين الحكومة والحكومة، على أساس نسبة الممثلين الرسميين فيه، والغاية التي من أجلها عقد اللقاء. بكلمات أخرى، أن الطبقة الحاكمة أرادت من الحوار الفكري معالجة أزمة الدولة ودرء الاخطار المحدقة بها وأبرزها التقسيم وزعزعة إستقرار السلطة، وليس إعادة بناء المجتمع وإشاعة قيم التعدد والتسامح.

 خلاصة القول بأن المسعى الوحدوي لدى الدولة مازال محفوفاً بكل مبررات الريبة والحذر، ولم يتجاوز حد طلاء الصورة الخارجية للحكومة، وأن المدخل الى الوحدة الوطنية هو إعادة بناء الدولة على أساس جديدة، مستمدة من مكونات المجتمع نفسه، ومن تطلعاته المشروعة.