الموت كحل للأزمات السياسية

مشكلة الوراثة في نظام الحكم السعودي

 حمزة الحسن

 لأن السلطة في الأنظمة الشمولية تقع كاملة في يد أفراد، وليس على عاتق جهاز، فإن الرئيس أو الملك يتحمّل جهداً مضاعفاً، إذ تفرض الصلاحيات الواسعة مسؤولية كبيرة، غالباً ما يتمّ التنصّل منها عبر الإهمال، فتضيع قضايا الدولة والمواطنين في إضبارات الزمن، لأن الفرد الحاكم لا يمتلك متسعاً من الوقت لحلها. وفي أحيانٍ كثيرة يضطر المستبد الى صرف وقت وجهد تجعله لا يستطيع أن يأخذ حتى إجازة، أو يتلذذ بفسحة زمنية كما يفعل رؤساء اميركا في منتجع كامب ديفيد!

حين مرض الملك فهد في منتصف التسعينيات، وجدت عشرات الألوف من القضايا معطلة، بعضها مضى عليه أكثر من عشرين سنة؛ واضطر الأمير عبد الله ولي العهد بمساعدة من أخوته الآخرين لاستنفار كل جهدهم لحل بعض تلك الإضبارات والقضايا المتراكمة في الديوان الملكي.

في مثل هكذا أنظمة لا توجد صلاحيات للجهاز البيروقراطي، وغالباً ما يتم ترحيل الملفات الى المركز، حيث يصيبها البيات الشتوي وتتعطل مصالح الدولة والناس. وكما يجري الأمر على الأفراد العاديين، تتعطّل القرارات المصيرية للأمم لأن القائم على الأمر لا يريد ذلك، ولا يكون هنالك من حل سوى (ملك الموت).. فما ان يقبض روح المستبد حتى تتحلحل بعض القضايا المؤجلة.

ومن هنا عدّ كثير من السياسيين (لعبة الموت) مدخلاً للتغييرات السياسية في البلدان الديكتاتورية.. فهو يقطع نسقاً قائماً ويحرك المياه الآسنة، ويأتي أحياناً بشخصيات اكثر شبابية، وبمنهج مختلف يحرص المستبد الجديد أن يبديه في اول سني حكمه قبل أن يعود الى اللعبة القديمة إياها، الى ان يتخطفه الموت هو الآخر ويأتي بغيره!

من هنا اكتسبت مسألة (توارث الحكم) في الملكيات أهمية قصوى في عملية التغيير السياسي، شأنها شأن (الرئاسيات الملكية) وأنظمة الحزب الواحد وغيرها. فتوارث الحكم مسألة في صلب الحياة السياسية، وليست شأناً (عائلياً) أو (حزبياً) أو (فئوياً). ومن المعلوم ان الملكيات (المطلقة) تعاني كلها من أزمة وراثة الحكم، بعضها حاول تنظيمها من خلال الدستور، وبعضها جرى حسب الأعراف المتبدلة من آن لآن آخر.

والمملكة العربية السعودية تعاني من أزمة دستورية تتعلق بتوارث الحكم، لم يحلها النظام الأساسي، حين حدد بأن الحكم يكون لـ (الأصلح) من أبناء الملك عبد العزيز وحفدته.. إذ أن كل الأبناء والحفدة يعتقدون أنهم الأصلح من غيرهم. ولكن ما تختلف عنه أزمة توارث الحكم في المملكة عن غيرها من الدول يتمحور حول (عدد) المتنافسين. بعض العوائل المالكة لا تتجاوز في العدد مائة فرد، أو مئات احياناً، وفي الحالة الإيرانية الشاهنشاهية هي أقل من ذلك بكثير، في حين أن عدد أفراد العائلة المالكة في المملكة يزيد على عشرين ألف شخص، حسب تقديرات 1991م. هذا العدد الهائل لا يثقل فقط كاهل الدولة من جهة المخصصات المالية، ولكنه يعمّق أيضاً الإنشقاقات داخل العائلة المالكة ويضعف فرص التسويات السياسية بين الأجنحة المتصارعة فيها. فكل عائلة ممتدة حين تتضخم في عدد افرادها تنقسم على نفسها، وتلعب المصالح دوراً في ذلك، وبسرعة تظهر التكتلات داخل الجسد العائلي، ويبرز الشقاق والتحاسد وغير ذلك.

لم يكن الملك المؤسس عبد العزيز يدرك بشكل دقيق الأزمة التي يسببها تزايد أفراد عائلته (كان لديه من الأبناء 36 عدا البنات، وكان لإبنه الملك سعود 63 ولداً عدا الإناث!!). كان مأخوذاً بـ (العزوة) وبأن هناك ملكاً واسعاً ينبغي ملء كراسي رئاسته. فكانت زيادة النسل بهذا المنظار أداة سياسية لتثبيت الحكم، بعكس ما كان يرى العثمانيون، حيث اضطروا لتحديده النسل تارة، والى قتل اخوتهم واعمامهم تارة اخرى، والى اتباع ما كان يعرف بسياسة (القفص) اي الإقامة الجبرية في القصور، والتي ادت الى ظهور اعداد من المجانين والمهووسين!

بالرغم من هذا، كان الملك عبد العزيز نفسه مواجهاً بالمنافسة، من قبل أبناء عمه سعود الفيصل بن تركي، في أزمة العرائف المعروفة. ولم يمت الملك عبد العزيز الا بعد أن شاهد الأزمة بنفسه، حيث مطامح أبناء عمه آل جلوي، وحيث المنافسة الحادة بين أبنائه: منصور بن عبد العزيز أول وزير دفاع مع أخويه سعود وفيصل، والذي حلّه الموت باختطاف روح منصور في منتصف الأربعينيات. وقبل أن يغمض الملك عينيه في الطائف، نظر ـ حسبما يقول الزركلي في كتابه عن سيرة الملك عبد العزيز ـ الى إبنيه سعود وفيصل فقال: (سعود: أخوك فيصل! فيصل: أخوك سعود!). لم يلتزم المتنافسون بالوصية كما نعلم، فجاءت أزمة الخلافة عام 1958، ثم عام 1962، ثم تكللت بإبعاد سعود وأبنائه عن الحكم نهائياً في 1964 لصالح فيصل، ولولا الموت الذي لاحق سعود الى منفاه باليونان عام 1968 وقبلها هزيمة 1967، لشنّ حرباً على أخيه من الجنوب كما كان يخطط مع المصريين! وكما قال صلاح نصر في مذكراته.

هناك أزمة حقيقية في موضوع توارث الحكم. كان العرف قائماً على أن الأكبر من أبناء الملك المؤسس هو الأولى بالحكم. هكذا جاء سعود فصار ملكاً. ولكن بدا أن العمر لم يعد محدداً وحيداً، فليس الأكبر سنّاً هو الأصلح، وقد يضر الدولة وقبلها العائلة المالكة. لقد تم تخطي عامل السن أكثر من مرة. مرة عام 1975 بعد مقتل الملك فيصل، فجاء خالد بالرغم من أن هناك من يكبره في السن وهو شقيقه محمد، الذي قيل انه تنازل له بالحكم لعلمه بأنه لا يصلح له، وقد قال محمد ذلك مراراً لمقربين. ولم يكن ولي عهد خالد، الملك الحالي فهد، الأكبر سنّاً بعد خالد، فقد تخطّى ثلاثة من إخوانه يكبرونه سناً هم ناصر وسعد وبندر سببوا له بعض الصداع خاصة الأولين الى أن ماتا. والآن هناك خلاف حول من يلي الأمير عبد الله ولي العهد، هل هو بندر أم مشعل (الأكبر سناً) أم (سلطان) وزير الدفاع؟ يقال ان صفقة عقدت بين الرجلين الأخيرين (مشعل وسلطان) قبل بضعة أشهر، فقد تمت ترضية مشعل مع الحفاظ على مكانته كرجل ثان بعد عبد الله (في النشرات الإخبارية السعودية!) لصالح الأمير سلطان.

إن اعتماد قاعدة السنّ تسبب مشكلة كبيرة في الدولة. وهناك من وصف طاقم الأمراء بأنهم يشبهون (أعضاء اللجنة المركزية) للحزب الشيوعي السوفياتي في أيامه الأخيرة، ويخشون من أن ينفرط الوضع بسبب (ملك الموت) حين يقبض أرواحهم بصورة متتالية، محدثاً مشاكل لا حصر لها بسبب عدم الإستقرار.

فالمعلوم أن الثلاثة الكبار سناً ومكانة (الملك وولي عهده ووزير الدفاع) قد تخطوا عتبة الثمانين عاماً، والمنتظرون في القائمة تخطوا منتصف السبعينات، ولا يعلم إلا الله من يخطفه الموت قبل الآخر؛ وإذا جاءت التقادير حسب السنّ، فإن المُلك لن يتوطّد لأحد منهم طويلاً. ونحن نعلم مسبقاً أن كل ملك جديد يبدأ بفتح فصل خاص به، وأنه يعدل من مراكز القوى داخل المجتمع والعائلة لصالحه، وأنه قد يبدأ بمشاريعه الخاصة السياسية وغيرها. فمن من هؤلاء الثلاثة يمكنه أن يفعل ذلك وهو في هذا العمر، والدولة في مسيس الحاجة الى رجال أصحاء شباب ينقذونها من وحل الترهّل ومن العواصف الإجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية؟

إن تقارب السنّ بين الأمراء يجعل من الإصلاح والتغيير صعباً، ويبقي الدولة في حالة من الشيخوخة والمرض المزمن. ولذا تفتقت رؤية الأميركيين فضغطوا من أجل تسليم السلطة الى الجيل الثالث، حتى أن السفير الأميركي الأخير في الرياض كان يتحدث قبل ثلاثة أشهر وبشكل علني في المجالس بأن عبد الله هو آخر ملوك الجيل الثاني! بيد أن معظم أعضاء الجيل الثالث نفسه شاخوا، وبعضهم أكبر من الملك الحالي سناً (عبد الله الفيصل مثالاً). ورغم الصلاحيات التي أعطيت لبعض أفراد هذا الجيل، إلاّ أنهم من الناحية الفعلية يتبعون إرادة آبائهم، وهم مستمرون في لعبة الصراع الداخلي لصالح الآباء.

لقد تمّ تقسيم السلطة وحصحصتها بين الملوك الكثر، وبدل تهيئة وارث واحد شاب ومؤهل، أصبح هناك خمسة ورثة على الأقل، يرثون آباءهم فيما تحت أيديهم من سلطات. فالأمير عبد الله جاء بإبنه متعب وعبد العزيز، وسلطان جاء بإبنيه بندر وخالد، ونايف جاء بإبنه محمد، وسلمان جاء بإبن جديد له يمسك بالإمبراطورية الإعلامية بعد فقدان ثلاثة من الأبناء الآخرين، وأما الملك نفسه فجاء بإبنه عبد العزيز. الورثة كما نرى كثيرون، والصراع لم ينته، وضغط الأعداد الهائلة من الأمراء على الشعب وعلى خزينة الدولة وأراضيها متعاظم. فكيف ستحل الأمور؟

ماذا سيحدث لو مات الملك فهد فجأة؟

هل ستبقى الممالك مقسّمة على الأبناء والحفدة؟ هل يخضع الجناح السديري لقبول سلطة الملك الجديد المركزية؟ هل سيدخل لاعبون جدد من بين الأمراء المهمّشين، سواء من معبر السن أم من معبر المصلحة؟ هل يمتلك الأمير عبدالله القدرة على فرض سواسية سياسية ومصلحية داخل العائلة المالكة؟

أسئلة كثيرة، جوابها مجهول. ومن بين الأسئلة والأجوبة المجهولة: هل تنزلق العائلة المالكة الى نزاع مكشوف على السلطة يصل الى استخدام السلاح كما توقع البعض؟ هل تتفق العائلة على كليات المنهج السياسي درءاً للخطر المشترك؟ وهل تستطيع في حال غاب الملك أن تتوصل الى حل مبدع لأزمات البلاد السياسية والإقتصادية والإجتماعية؟

لا شيء يوحي بالتفاؤل حتى الآن. وملك الموت يرفض السؤال من أساسه، فمن يدري أي الأرواح تدعوها إرادة السماء إليها؟