زعيم الحجاز الديني يدعو لتغييرات في المؤسسة الدينية

وجه المملكة التعددي متى يكشف عن نفسه

 

حمزة الحسن

 

واحدة من أهم محاسن المؤتمر الوطني الذي دعا له ولي العهد السعودي، هي اعترافه بحقيقة التنوع الثقافي والمذهبي في المملكة. وهذه خطوة رئيسية، وإن جاءت متأخرة بعمر المملكة حديثة النشأة، لكنها ضرورية لكي يكتشف المواطنون السعوديون ذواتهم قبل ان يكتشفوا العالم من حولهم بعيون مختلفة وأفهام متعددة.

لقد دُهش الكثير من المواطنين، وبالضرورة كثير من المراقبين في الخارج، بحجم التنوع في المملكة سياسياً كان أم ثقافياً أم مذهبياً.. ولعلّ سبب الذهول هي تلك الصورة النمطية للبلاد والتي رسمتها عقود من الأحادية الفكرية والتضليل الإعلامي، وتلك الفوارق التي رسختها سياسات الدولة بحيث خلقت مجتمعات منفصلة في جزر متباعدة جغرافياً ونفسياً ومصلحياً وثقافياً.

المملكة اليوم وهي إذ تعيش إرهاص تحول غير مسبوق في تاريخها، رغم أنه لم يتبلور حتى الآن في مشاريع سياسية ترعاها الدولة، مدفوعاً بضغوط خارجية وداخلية.. يعيش المجتمع مخاضاً موازياً لا يقلّ أثراً وأهمية، بل أن هذا المخاض الإجتماعي هو المؤشر الأوضح للتغيير القادم، وهو الدافع الأكبر باتجاه التغيير السياسي المنتظر.

واحدة من أهم مؤشرات التحوّل النفسي والفكري في المجتمع السعودي، ظهور القوى المقموعة على السطح، ومحاولات التشكل السياسي في جمعيات وإطارات أخرى، إضافة الى الحركة باتجاه عقد التحالفات بين الناشطين السياسيين في مختلف مناطق المملكة. اللون السياسي والديني الذي فرضته العائلة المالكة لم يعد قادراً اليوم على الصمود أمام ضغوط المجتمع المحاصر في رحم نظام سياسي يكاد يخنق المولود المنتظر.

لأول مرة في تاريخ المملكة يمكنك قراءة ألوان الطيف السياسي، القومي واليساري والإسلامي والوطني العام، وألوان أخرى قد تتشكل قبلية ومناطقية وغيرها. لأول مرة يمكنك اقتناص رموز تلك التيارات المتعددة والصاخبة، وتقرأ أفكارها في فضاء صحافي محلي فاق في مساحته ما كان متوفراً في ستينيات الملك سعود. ولأول مرة تتبدّى لك المملكة بألوان مختلفة من المذاهب والتيارات الفكرية، كان كثير من المواطنين لا يعلمون حتى بوجودها، بل وتظهر الرموز الدينية المكتومة المقموعة من تحت الأرض في محاولة لصياغة خريطة المستقبل.

في مؤتمر الحوار الوطني الثاني، دُعي للمشاركة فيه الدكتور السيد محمد علوي المالكي، زعيم وكبير علماء الحجاز ومفتي مكة المكرمة.. الشخص الذي صدرت بحقه فتاوى التكفير والتبديع من رموز المؤسسة الدينية الرسمية، والرجل الذي كتبت ضده ووزعت داخل المملكة العديد من الكتب والدراسات تتهمه بالكفر والزندقة والدجل كان بينها (مع المالكي في كفرياته)، حتى أن بعضهم اعتبره داعية الشرك والضلال في هذا الزمان، ووصفه آخر بأنه مجدد ملة عمرو بن لحي.. وهو الرجل الذي مُنع من التدريس في الحرم المكي الشريف منذ عشر سنوات وحتى الآن. وهو ذات الرجل الذي يرجع له كثيرون في دول الخليج الأخرى في فتاواه وآرائه، ويطل عليهم بين الفينة والأخرى من قنوات إعلامية خليجية، ولكن ليست سعودية!

ورغم أن المؤسسة السياسية ممثلة في العائلة المالكة لا تنظر إلى الدكتور المالكي بارتياح، خاصة الملك فهد، لأسباب سياسية ومناطقية معروفة.. إلاّ أنها وجدت نفسها غير قادرة على تجاهله أو الإستمرار في مجاراة المتطرفين في المؤسسة الدينية في تبنّي القمع الحادّ تجاهه. فالرجل الذي استبعد من مؤتمر الحوار الأول في الرياض، له من المكانة في نفوس الحجازيين ما يفوق مكانة السياسيين ورجال المؤسسة الدينية جميعهم، وكانت هناك خشية من أصحاب اللون الديني الأحادي أن يتمكن السيد المالكي من تربية أجيال جديدة من رجال الدين ينافسون المؤسسة الدينية الرسمية في الرياض. صحيح أن ما يمكن تسميته بالمؤسسة الدينية الحجازية قد أُضعفت بشكل صاعق وأُقصيت عن الحياة العامة وتمّ تصفية من تبقى من مشايخ الحجاز وقضاته، وهو ما ترك المجال واسعاً لفكر أحادي.. إلا أنّ الأمور أخذت أبعاداً مختلفة في العقد الماضي. فالتطرف الديني، ولّد رغبة مقابلة في ملء الفراغ، فظهرت رموز دينية جديدة في الحجاز، وتعرضت لما تعرض له السيد محمد علوي المالكي، واعتبر ذلك بمثابة احتجاج سياسي على الإقصاء والتهميش.

عودة السيد المالكي الى صدارة الرمزية الدينية للحجازيين عبر واجهة الحوار الوطني، تشير الى تراجع حدّة التطرّف الذي قام بقرار سياسي وسيُضعف بقرار سياسي مماثل. وإذا سارت الأمور على هذا النهج، فإن شكل المملكة الديني المتزمت الذي اعتاده الآخرون سيتغير في المستقبل، وسيجد صانع القرار السياسي هامشاً واسعاً من الإجتهادات التي تخرج الدولة من مآزق الفتيا الواحدة والرأي الواحد. إنها بداية لدمج المختلف دينياً، عبر سماع رأيه، وتأطير الخلاف ضمن حدود لا تصيب الدولة ووحدتها في مقتل.

ومع أن ظهور الدكتور السيد محمد المالكي والتحدث لأول مرة عبر قناة التلفزيون السعودي يعد خرقاً للمألوف، فإنّ التحوّل الى تعددية دينية في المملكة سيعزز الإصلاح السياسي ويشدّ من الوحدة التي يخاف عليها الكثيرون من الإنفراط. وهذه التعددية تستدعي وجود تغيير هيكلي في المؤسسة الدينية الرسمية، بحيث تعكس التنوّع المذهبي في المملكة، كما ويستدعي إنهاء حالة الإقصاء للحجازيين من الكليات الدينية والقضاء، وهو ما أشار اليه السيد المالكي مؤخراً في تصريح له تمّ تداوله في منتديات الإنترنت السعودية.

فحسب التصريح المنشور، فإن المالكي قد دعا في مؤتمر الحوار الوطني الى تعديل مقررات التوحيد وحذف الأحكام بالشرك والكفر التي تطال المذاهب الإسلامية. كما دعا الى المحافظة على الآثار التاريخية والنبوية في مكة والمدينة، والتي تشمل المساجد التي تم تدمير اكثرها، والمكتبات كمكتبة مكة المكرمة وهي موقع مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمساجد المنسوبة الى الصحابة رضي الله عنهم.

وطالب المالكي بالسماح للكتب الممنوعة وبينها بلا شك كتبه شخصياً من التوزيع والطباعة داخل المملكة، وكذلك دعا الى أن يتولى قضاء كل منطقة قضاة من أهلها، لأنهم ـ حسب قوله ـ أعرف بأمور وعادات وأحوال بلدهم من غيرهم، وإن كانت تجمعهم جنسية واحدة. إضافة الى مطالبته برفع الحظر عن أهالي مكة المكرمة والمدينة المنورة وما حولها والممنوعين من الدراسة في أقسام القضاء بالكليات وفي المعهد العالي للقضاء.

واخيراً طالب السيد المالكي بإعادة النظر في شأن الأساتذة من حملة الدكتوراة الذين أوقفوا عن التدريس بحجة عدم سلامة المعتقد وأحيلوا الى العمل الإداري لأجل خلافات فكرية أو مذهبية لا تخرج عن دائرة الإسلام.

المملكة نصف قارة، جميلة ثرية بتنوعها الذي لم يكشف عن نفسه بعد. لا يسيئ اليها والى أهلها إلا اولئك الذين يصرّون على تعميم ثقافة وفكر أحاديين، ولا يخنقها إلا العسف والإستبداد والإقصاء السياسي.

المملكة تنتظر ولادة من نوع ما. هي على موعد مع التغيير. نتمنى أن لا يكون المولود مشوّهاً، وأن لا ينتظر المولود طويلاً وإلاّ قد ينفجر الرحم!