السعودية: تحديات اليوم ومسؤوليات المستقبل

 د. مضاوي الرشيد

 بعد إعلان ولي العهد الامير عبد الله ووزير الداخلية نايف في يناير 2004 عن رفض الملكية الدستورية فإن تاريخ الحركة الاصلاحية في السعودية سيشهد بداية مرحلة جديدة. ولذلك، فإن ثمة استراتيجية جديدة باتت مطلوبة على مستوى كل من المعارضة والمجتمع من أجل مواجهة تحدي مستقبل السنوات القادمة.

في المدى القصير، فإن الحكم التسلطي في السعودية لا يبدو كونه مقاوماً للتغيير، وأنه سوف يقدم دون ريب على تطوير اللبرلة والتعددية السياسية تحت تأثير الضغوطات الداخلية والخارجية. إن انتخابات محدودة ستجري الى جانب  إعادة تنظيم مجلس الشورى الحالي، ولربما يؤدي ذلك الى توسيع جاد في صلاحياتها. كما أن بعض الحريات المحدودة للمرأة يمكن الاعلان عنها، وستسهم الانتخابات الى حد كبير في زيادة مشاركة الجماعات القريبة حالياً من مركز السلطة، كما هو الحال بالنسبة للتكنوقراط وموظفي الخدمة المدنية، والمهنيين. نشير الى أن بعض أعضاء هذه المجموعة وقّعت على عدد من العرائض الاصلاحية خلال العام 2003. إن مثل هذه الاصلاحات قد تفضي الى استبدال طبقة الحرس القديم بأخرى أكثر تطلعاً على حساب المشاركة الحقيقية الواسعة. وبحسب أحد المراقبين فإن (هذه الاستراتيجيات قد تكون بديلاً للدمقرطة الحقيقية وليست بالضرورة مرحلة على الطريق اليها). ولسوء الطالع أن يكون هذا التقييم للوضع في السعودية يبدأ اليوم بهذه الملاحظة المتشائمة، ولكن أية قراءة جادة للوضع تملي تفسيراً من هذا القبيل.

 أساطير حول الدولة

 فيما تلج الدولة السعودية القرن الحادي والعشرين، فإننا بحاجة الى إعادة تعريف وتبديد الاساطير التي سمحت لكثير من الناس بالاعتقاد بأنها كانت على نحو لم تكن في واقع الأمر كذلك.

الأسطورة الاولى: هل هي دولة واحدة أم عدة دول؟ فمنذ وفاة الملك فيصل في سنة 1975 فإن الدولة السعودية لم تعد دولة واحدة، فقد تمت مأسسة الوضع مع إعلان فهد ملكاً رسمياً للبلاد.  إن الترتيب القائم يماثل عصر الامارات، والذي وضع حداً لنهايته في 1932. وحين تصدر اليوم نداءات من أجل الهدوء والطاعة للحكام فإننا نسمع عبارات من قبيل (ولي الأمر أب ونحن أسرته). إن الجملة الأكثر صوابية ستكون على النحو التالي: (ولاة الأمر آباء ونحن أسرتهم)، بما تعكس الابوية المتعددة على مستوى القيادة السياسية. والسؤال هنا: كيف تتم ترجمة هذه الابداعية على الأرض؟

تتشكيل الدولة من عدة وزارات ذات هيكلية واضحة تضم أفراداً من العائلة المالكة (غالباً ما يكون الأب والابن)، ومجموعة من المعاضدين القبليين وحلقة من المتعلمين العاديين (البيروقراط، وموظفو الخدمة المدنية، وعلماء الدين، والمفكرين، والمهنيين، والمحامين، والأهم من ذلك الصحافيين الذين يسيطرون على الاعلام بشقيه المكتوب والمرئي)، وأخيراً مجموعة من الحراس الشخصيين، الذين يسيطرون على وسائل القهر لحماية الأمير وهكذا قمع أولئك الذين يهددون حياته السياسية. إن أية رؤية سياسية تقترح التغيير (من  أولئك الذين يتطلعون نحو دولة إسلامية، أو دولة ملكية دستورية ديمقراطية ليبرالية، أو إدامة الوضع القائم مع بعض التعديلات الطفيفة) يجب أن تأخذ هذا المائز بعين الاعتبار. إن الدولة السعودية تعتبر دولة شخصيات أكثر من كونها دولة مؤسسات.

الاسطور الثانية: الزعم بأن الدولة تعكس تحالفات قبلية. الحقيقة أن القبيلة الوحيدة التي تمارس اليوم القبلية السياسية في السعودية هي آل سعود. فخلال القرن الماضي تحوّل آل سعود من كونهم عائلة الى قبيلة. على مستوى المجتمع فإن هناك هوية اجتماعية اقتصادية وقبلية ثقافية ولكن ليس هناك قبلية سياسية. إن قطاعات من المجتمع السعودي تنزع الى الالتصاق بقيم القبيلة ولكنها لا تعكس الجانب السياسي للقبيلة. فقد تم ترويض القبائل التي جرى تقسيمها واحتوائها من قبل الدولة، وأن الاعتقاد بأن القبائل السعودية تشكل وحدات منسجمة محكومة الى قيادة متقدمة والتي ستنهض لمقاومة أو معارضة النظام هو اعتقاد غير منطقي.

الاسطورة الثالثة: أن الدولة السعودية هي دولة نجدية تهيمن على باقي المناطق (الحجاز، الاحساء، وعسير). هذا الخطاب تميّز بقوة بين الاقليات (والشيعة مثالاً) والمفكرين في الحجاز والمناطق الطرفية الأخرى في المملكة. هذا الخطاب غير صحيح لأن نجد تعد منطقة جغرافية غير متجانسة يقطنها سكان مختلفون، والذين كان لديهم فيما مضى علاقات مرتبكة مع آل سعود. تتشكل نجد من ثلاث مناطق: 1 ـ المنطقة الجنوبية (العارض حيث تقّدم أقوى دعم لآل سعود دينياً وعسكرياً)، 2 ـ المنطقة الوسطي، القصيم والتي كانت من الناحية التاريخية منطقة حاجزة والتي دعمت آل سعود في وقت ما ونبذتهم في أوقات أخرى. هذه المنطقة ذات أهمية عالية، فالسكان الحضر (وهم من الناحية التاريخية تجار، ومزارعون، وحرفيون، وعلماء دين بمنافسة قوية بين المركزين الحضريين الرئيسيين بريدة وعنيزة) أنتجوا أول مفكرين وعلماء دين، وملحدين، وداعمين موالين لآل سعود، وهكذا الأكثر ليبرالية والمناوئين للملكية. 3 ـ نجد الشمالية، والتي كانت تاريخياً مناوئة للسعودية وذات ميول نحو العراق وسوريا. ومنذ عام 1932 فإن الدولة مارست سياسة تحويل التحالفات في نجد نفسها وهكذا في أجزاء أخرى من البلاد.

وقد ساهم آل سعود في تطوير قيادة محلية في نجد على حساب أخرى، كما قامت أيضاً بتقسيم القبائل، والعوائل، والقرى كنتيجة للتوزيع غير المتكافىء للثروة، والاعانات، والمنافع الأخرى في شكل نقد أو نوع (كما في توزيع الاراضي). نخلص من ذلك الى أن سكان نجد موزعّون، وأن القبائل والعوائل منقسمة، كنتيجة لسياسة منظّمة من الاحتواء والعزل التي تمارسها الدولة خلال القرن العشرين.

الاسطورة الرابعة: أن الدولة هي وهابية. وبالرغم من أن الحركة الاصلاحية السلفية التي قادها محمد بن عبد الوهاب كانت من الناحية الايديولوجية أداة لم تكن الدول السعودية الثلاث تقوم بدونها، فإن من الصعوبة بمكان وصف الدولة الحالية بأنها وهابية. ففي النصف الثاني من القرن العسرين، خلقت السلفية الدينية الأممية هجيناً فكرياً داخل التقليد السلفي، بما يشمل الحركة الوهابية. فالاتجاهات الدينية كانت متنوعة الى حد أن أي مؤرخ فكري سيواجه مشاكل في التعرف على جذر الافكار. ولذلك فإننا اليوم أمام ثلاثة اتجاهات داخل المجال الديني السياسي السعودي:

الأول: الاتجاه الرجعي الديني المغلق الذي يزعم بكونه أقوى إيماناً والتصاقاً بتعاليم محمد بن عبد الوهاب وهو الاتجاه الذي يسيطر على المؤسسة الدينية الرسمية. فعلماء الدين المنتمون الى هذا الاتجاه مأخوذون الى حد كبير بمسائل ذات صلة بطول اللباس الاسلامي للرجال، واللحى، وحظر زيارة القبور، وتقديس الأولياء والاشجار، والتسليم التام لولي الأمر، والخوف من الفتنة. وسيبقى هؤلاء مسيطرين على الفتوى الدينية، وسيرجع الناس اليهم للاسترشاد في مسائل ذات العلاقة بالاعتقاد والعبادة. ومن غير المحتمل أن يضطلع هؤلاء بدور نظري أو عملي في المسائل المتعلقة بالسياسة في هذا العالم، والتي تعرّف بأمور الدنيا. واذا ما قاموا بذلك، فإنهم سيدعون الى الطاعة التامة للحاكم بشرط كون الأخير لا يدعو الى الزندقة. وسيواصل هؤلاء العلماء رواية الحديث النبوي الذي يدعو الى طاعة ولي الأمر (حتى لو جلد ظهرك وسرق مالك)، وهو حديث يفسّره علماء الدين المعاصرون بطريقة مختلفة، ويقدّمون شرحاً حاذقاً لسياقه.

ثانياً: الاتجاه الحركي الاسلامي، المنقسم بين الاخوان الذين هم على استعداد للتعاون مع الحكومة وأولئك الذين هم بعيدون عنها، والذين تمسكوا بأهداف بعيدة المدى من خلال التركيز على التعليم والتدريب والتعبئة الشعبية لتحقيق أهدافهم. ويمثل الاسلام الحركي الاقوى داخل الطيف الديني السياسي في مركزها وتنظيمها. واذا كان ثمة إعادة تنظيم للعلاقة بين الدين والدولة، فإن الاحتمال الأقوى أن يتم إدماج الاسلام الحركي في الحكومة بصورة رسمية، فعلى سبيل المثال في حالة إنتخابات مجلس الشورى، فإن الاحتمال الأقوى أن يحوز الاعضاء البارزون في هذا الاتجاه على عدد كبير من المقاعد. لقد اشتغل الاسلام الحركي في السياسة المعاصرة ومواضيع أخرى ذات صلة بأمور الدنيا، وأن الشخصيات البارزة في هذا الاتجاه هم نتاج الحداثة وهم منغمسون بصورة تامة فيها، ويحظون بتأييد الطبقة المتوسطة والدنيا المتعلمة، التي يزداد عدد أعضائها، ولكن طوحاتهم تواجه إحباطاً بسبب التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والأهم من ذلك أنهم يشعرون بالعزلة خارج دائرة العوائل المعروفة والتي تتمتع برعاية العائلة المالكة.

ثالثاً: التيار الجهادي، الذي حمل أفراده السلاح ضد الحكومة والذين يجهرون بمسؤوليتهم عن العنف، ويعرّفون محلياً بالغلاة أو خوارج العصر، ودولياً بالارهابيين. وفيما سيتم إسثناء هؤلاء من أي إعادة تموضعات مستقبلية فإن أفعالهم خلال عام 2003 قد فتحت الباب امام تناظر حول الاصلاح وساهمت في تسريع حركته.

يلزم أن تؤخذ هذه التطورات الدينيةـ السياسية في الحسبان حال صياغة رؤى في التغيير مثل الدعوة الى الديمقراطية. فالاصلاح، الكلمة السحرية، لا تعني تغييراً ثورياً ما عدا في خطاب الجماعات الجهادية الراديكالية، وحتى هنا فإن الاصلاح غالباً ما يفسر في صورة ضيقة وتعني توتير العلاقات مع أمريكا، ومحاربة المسيحيين واليهود وتأسيس الامة المسلمة المثالية. وليس واضحاً ما اذا كان سيظهر برنامج سياسي منسجم لدى هذه الجماعة، فقد أثبت الجهاديون نجاحهم في عمليات العنف، ولكنهم قاصرون على مستوى التنظير السياسي. فلدى هؤلاء تعاقد صلب على واجب طرد اليهود والمسيحيين من بلاد الحرمين والولاء والبراء، ولكن يقصرون في موضوعات تتعلق بالدولة الاسلامية، والحاكم العادل، وإنتخابه، وفترة بقائه في الحكم، ومحاسبته. فيما يرتبط بهذه الاسئلة فإن المرء بحاجة للتوجه الى الاسلام الحركي، حيث يشتغل منظّّروه والناشطون فيه بالتعامل معها.

وباستثناء الجهاديين، فإن دعاة الاصلاح يتفقون على إعادة توزيع الغنيمة الكبرى، أي الدولة. إنهم يختلفون على توزيع الحصص والخطاب الذي يؤسس لتوزيعها، ولكن الهدف يبقى واحداً.. إنهم يدعون الى المشاركة (المشابه الى سياسة توني بلير في الشراكة الخاصة ـ العامة، ولكن الخاص في السعودية يبدو أكثر تعقيداً). فمنذ التسعينيات فإن المشاركين المحتملين لجأوا الى الوسيلة الأكثر قبولاً للمطالبة بالاصلاح، أي العرائض. فقد وقع الاسلاميون والليبراليون عدة عرائض، وهكذا تعزيز منطق المكافأة. إن المواطن يطالب بالشرهة في رسالة تقدّم للأمير، وبعد عدة أيام يصل الرد في هيئة كمية من النقود أو رسالة من التوصيات، ومهما يكن ففي الآونة الأخيرة توصلت المعارضة الى أن الحكومة قد تقدّم مكافآت اقتصادية، وزيادة قاعدة المشاركة، ولكن الاصلاح السياسي الذي يهدد أساس الحكم السعودي، أي الاحتكار التام لمجمل العملية السياسية، غير قابل للتحقق بسهولة.

وفي الآونة الأخيرة، في أكتوبر 2003 تمت الدعوة الى استراتيجية جديدة غير مسبوقة من قبل الحركة الاسلامية للاصلاح، والتي يقودها سعد الفقيه في لندن. فقد وجّهت الحركة الاسلامية للاصلاح في الجزيرة العربية نداء الى المتظاهرين في عدد من المدن، وتجاوبت مجموعات من الناس، وقد جرى اعتقال بعضهم أو إيقافهم وبعد شهرين أفرج عنهم. فهل ستتكرر الدعوة الى مظاهرات سلمية؟ لا يمكن إستبعاد ذلك. هل سيدعو اللبراليون الى ذلك؟ من غير المحتمل. وعلى أية حال، فإن من يدعون بالليبراليين، سيشاركون في المظاهرات في حال تمت الدعوة اليها تماماً كما حدث في أكتوبر، حيث زعم الليبراليون بأن بعض من شاركوا في المظاهرات لم يكونوا بالضرورة جزءا من الاتجاه الاسلامي.

ثمة سبب وجيه يدعوني للشك، فإذا أمكننا القول بأن لدينا معارضة ليبرالية في السعودية، فهي تتشكل من جنرالات بدون جنود. فالجنرالات ينتمون للطبقتين المتوسطة والمتوسطة العليا، ويتألفون من أفراد مرتبطين بصورة حميمية بالحكومة ومن غير المرجح دعوتهم الى أعمال تهدد مصيرهم ومصالحهم الطبقية. إن أولئك الذين يبدون على استعداد للاستمرار في طريقة العرائض وتفادي مهاجمة القارب لأنهم يدركون بأنه في حال غرق القارب فإنهم قد يغرقون معه.

بالنسبة للمعارضة الاسلامية فإن المعادلة مقلوبة، فهي تتشكل من جنود بدون جنرالات، فالجنرالات (علماء الدين والافراد المتدينيون المتعلمون) هم إما معتقلون، أو هاجروا من البلاد، أو تم إحتواؤهم. هناك بعض الشخصيات الاسلامية البارزة في السعودية تعتبر الآن جزءا من ماكينة الدولة، أما أولئك الذين قاوموا الاحتواء وبنوا مصداقيتهم خلال عقد من المقاومة فبقوا خارج البلاد، وبصورة رئيسية سعد الفقه (الحركة الاسلامية للاصلاح في الجزيرة العربية) وأتباعه. وستكون منطقته أكثر استجابة لنداء القيام بأعمال لأن للحركة تاريخاً طويلاً من التنظيم الشعبي السري والتعبئة العقائدية والنشاطية السياسية الجيدة منذ التسعينيات. والأكثر أهمية، أن بإمكان الحركة الادعاء بتميّز خاص كونها أنتجت سجناء سياسيين و(شهداء).

والسؤال هنا: ماذا يجب فعله الآن على مستوى المعارضة والمجتمع؟ فقد إستثنيت الدولة من المعادلة لأسباب واضحة، أي لاعتقادي الجازم بأن الاصلاح لا يأتي من أعلى، لقناعتي بأن الاصلاح هو نتاج تعبئة شعبية.

 المعارضة

 كيما تنشأ معارضة فاعلة تحوز على فرصة التأثير في مجريات الاحداث، فإن ثمة خطوات محددة لابد أن تتم:

1 ـ تأسيس لجنة ذات قاعدة واسعة ودائمة من أجل تشكيل رؤية سياسية تكون مقبولة لدى كافة جماعات الضغط وتربط تحقيق هذه الرؤية بالاقتراع. فالمعارضة يجب أن تعلو فوق المصالح الخاصة التي تسود حالياً في كافة الدوائر: بين من يدعون بالليبراليين أنفسهم، وبين الاسلاميين، وبين الاسلاميين والليبراليين. فالاتهامات والاتهامات المضادة هي اليوم لغة الخطاب السياسي بين النخبة المتعلمة. في بعض الاحيان تبدو الحركة الاصلاحية كما لو كانت تستهلك نفسها قبل أن تحقق أهدافها. وباستثناء أولئك الذين تم (شراؤهم) من قبل الدولة، وأولئك الذين عزلوا أنفسهم جانباً، أو الذين أبدوا فهماً عاطفياً تجاه خصومهم لا يجب طردهم أو إهانتهم باستعمال اللغة الأكثر رفضاً.  

2 ـ إبرام إتفاقية على أساس أن الوسائل السلمية (المظاهرات السلمية، العصيان المدني السلمي، والاضرابات) تشكل الطريق الى التغيير. ويلزم أن يعقد حوار مفتوح خارج سيطرة الدولة وإشرافها. ولسوء الحظ، فإن غياب قنوات شرعية للتنظيم العام والحوار الحقيقي، فإن السعوديين يلجأون الى منتديات حوارية الكترونية مجهولة الهوية حيث يسود أحياناً التطرف واللاعقلانية تحت غطاء أسماء مستعارة.

3 ـ استبعاد الرعاية الملكية للمعارضة. وفيما يجادل البعض بأن التصدعات داخل العائلة المالكة يمكن استغلالها من قبل المعارضة، فإن المنطق أثبت عدم جدواها. ويمكن العودة الى عام 1960 حين أحاط أحد الأمراء نفسه بمجموعة من الافراد من المجتمع من أجل تطوير خطاب إعتراضي. وبعد أكثر من أربعين عاماً، فإن الناس الذين دفعوا الثمن كانوا هم الداعمين له. ويجب أن ننتظر لنرى تداعيات معارضة الامير تركي بن عبد العزيز وابنه سلطان، الذي تم اختطافه في يوليو 2003 في جنيف من قبل ابن عمه، إبن الملك وعاد الى السعودية. واذا كان هناك أمراء يطالبون بإعطاء السلطة الى الناس، فإن دعوة كهذه غالباً ما تأتي من أولئك الأمراء الذي لا يملكون سلطة كي يتنازلوا عنها أو يهبونها لغيرهم.

4 ـ تبديد حلم قيام الولايات المتحدة بمزاولة ضغط على السعودية لتصبح دولة ديمقراطية (بالرغم من الدعاية والخطاب الاميركي الرسمي). إن الديمقراطية أو الشورى لا تأتي على ظهر دبابة أو تأتي من خلال عريضة، وإنما تأتي كثمرة للتعبئة الاجتماعية. لقد أوصى الاكاديميون والمفكرون الأميركيون حكومة بلادهم بالدفع نحو اللبرلة وليس الدمقرطة في السعودية. وبإمكاننا قراءة توصية محلل سياسي بارز الى الادارة الأميركية:

(إن أولئك الأميركيين الذين يؤكدون على فضائل التغيير الديمقراطي عليهم مواجهة الحقيقة الصادمة. ان الانتخابات المبكرة في السعودية قد تفضي الى نشوء مجالس تمثيلية تدفع النظام الى اتجاهات مناهضة لعملية اللبرلة. إن واشنطن بحاجة الى مقاومة الاغراء للضغط على السعوديين من أجل إجراء انتخابات ديمقراطية في الوقت الراهن).

بكلمات أخرى، إن الديمقراطية في السعودية هي ضد المصلحة القومية الأميركية، اذا ما جاء الاسلاميون الى السلطة. ولكن أي جناح من الاسلاميين؟ هل هم الوهابيون التقليديون، الحركيون، أم الجهاديون؟ إن أحداث الشهور القادمة قد تجيب عن هذا السؤال؟

5 ـ رفض الرعاية والاشراف الاميركي للمعارضة السعودية. وهذه رسالة للجميع، وبخاصة لأولئك المقيمين في الخارج. فليس هناك شيء أسوأ من ادراج إسمك على الانترنت بوصفك قابضاً للدولارات الأميركية في معركتك ضد نظامك الظالم. فهذه معضلة كافة جماعات المعارضة ضد الحكم التسلطي. فبدون تعبئة اجتماعية للمناطق فإن مثل هذه الرعاية مقدّر لها أن تكون فاشلة وغير مثمرة، وستكون كذلك ايضاً حين نعرف بأن استطلاعات مؤسسة زغبي الدولية للرأي العام السعودي والتي أجريت في فبراير ـ مارس 2003  تكشف بإن لدى 95 بالمئة من السعوديين الذين شملهم الاستطلاع موقفاً غير متصالح الى حد ما تجاه الولايات المتحدة.

 مسؤولية المجتمع والاقليات

 ثمة خوف لدى الأغلبية يعبّر عنه غالباً وصار مبالغاً منذ الاحتلال الأميركي للعراق. فإنشاء محمية شيعية في المنطقة الشرقية تحت الرعابة الأميركية يعتبر السيناريو الكابوس لدى الأغلبية، وهذا الخوف غير مؤسس على حقيقة واقعية، إذ أنه يمنح الادارة الأميركية قدرة فشلت في إستعراضها في كل من العراق وافغانستان، ويجب أن يطمئن الشيعة والسنة بأن الولايات المتحدة غير قادرة على سيناريو غير معقول. ومهما يكن، فإن إزالة الخوف يقع على كاهل كل من الشيعة والاتجاه العام في المجتمع، إذ يجب على الشيعة إدراك أن مستقبلهم يكمن في السعودية، وليس في النجف، أو قم، أو واشنطن. ولحسن الحظ، فقد بدأ يتحقق ذلك بصورة تدريجية.

كما يتطلب من الاغلبية للتعبير عن تعاطفها، وتسامحها، وقبولها بالشيعة باعتبارهم مواطنين كاملين، وهذا لا يعني بطبيعة الحال توقف المناظرات التيولوجية، ولكن يعني بأن روايات العلقمي والطوسي لا يجب التشديد عليها واستعمالها  كتعبيرات رمزية  مندكّة في الوضع الساسي الجاري. فلا يجب علينا نبش المراجع التاريخية لتعليم دروس في التعصب وعدم التسامح والكراهية. واذا لم تتخذ الدولة تدابير من أجل تكريس هذه  المفاهيم، فإن علينا كأفراد البدء بمشروع التغيير على المستوى الشخصي، وتالياً خلق ظروف التعددية المنبثقة من تعاليم الاسلام نفسها وليس من خلطة مكوّنة من إساءة تفسير الاسلام واضطهاد الآخر، وهي حالة مازال لسوء الحظ يعبّر عنها من قبل قطاعات من المجتمع السعودي.

 سيناريوهات المستقبل

 1 ـ التغيير التدريجي

سيكون هناك عدد من السعوديين من يتبنى (سياسة لننتظر ونرى)، أملاً في ثورة مخملية او بيريسترويكا خلف الستار، ولنتذكر بأن الطريق الثاني في التغيير قد أدى الى تفكك الاتحاد السوفييتي. ليس هناك إجماع اليوم في السعودية على عملية التغيير ومادتها، بالرغم من وجود إجماع على الحاجة للإصلاح، بوصفه مطلباً عاماً والذي لا يزال بحاجة الى عملية غربلة، فقد أصبح المجتمع في حالة استقطاب حاد بما يجعل صناعة ثورة مخملية أو صامتة أمراً غير ممكن. وما سنشهده لاحقاً هو إعادة رسم للخارطة السياسية وإعادة توزيع للغنيمة الكبرى، أي الدولة، بين مجموعات مستثناة ومعزولة في المجتمع أو التي كانت في الماضي مهمّشة. وهذا يتوافق مع لهجة الاصلاحات التدريجية، أو كما يعبّر عنها بـ (التمسك بتقاليدنا وتراثنا الاسلامي). ويمكن ترجمة ذلك بحسبها لبرلة بدون دمقرطة، أي انتخابات تعيد رسم الخارطة السياسية وتساهم في زيادة مشاركة الجماعات التي هي الآن وثيقة الصلة بمركز السلطة.

 2 ـ التغيير الفجائي

وهذا يعد سيناريو آخر في التغيير، والذي قد لا يكون خياراً في المستقبل القريب ولكن لا يمكن إستبعاده على المدى البعيد. وهذا السيناريو يفترض وقوع (انقلاب ملكي) يؤدي الى استبدال الطبقة المعمّرة في العائلة المالكة بأخرى أكثر حيوية ونشاطية. وهناك أيضاً إحتمالية وقوع (انقلاب اسلامي) والذي يمكن أن يتم بتنظيم التيار الحركي. أما الاحتمال الثالث فهو إنقلاب (اسلامي/ملكي). إن هذه الاحتمالات قاطبة لن تكون خيارات سهلة، بالنظر الى التعقيد الديمغرافي للعائلة المالكة، والانقسامات داخل الحركة الاسلامية نفسها.

وفيما يستمر تكشف التنافس والصراع على مستوى القمة في القيادة السياسية، فإن المشكلة الأكبر التي تواجه السعودية اليوم تكمن في توفير فرص وظيفية للسكان الآخذين في النمو. إن خطط التنمية الخماسية المتوالية، وسياسات تعزيز السعودة لقوة العمل، وتوسيع نطاق القطاع الخاص لم تنجح في استيعاب الجيل الجديد. وقد تعرقل ذلك مع التوزيع غير المتكافىء للثروة والتمايزات المناطقية في التنمية والازدهار والذي أدى الى خلق وضع مربك بين الشباب، ليس لكونهم محرومين على المستوى السياسي فحسب بل وايضاً على المستوى الاقتصادي.

فلدى هؤلاء الشباب أوقات فارغة ممتدة ولكن بدون قنوات قادرة على ملئها من أجل تحقيق تطلعاتهم مما أدى الى الاحباط، والضجر، والكسل وربما الى الجريمة. فليس من غير الاعتيادي بالنسبة للذكور العاطلين عن العمل في السعودية والذين تتراوح أعمارهم بين سن 18 و25 عاماً تمضية 6 الى 8 ساعات يومياً في مقاهي الانترنت، والمشاركة الفاعلة في منتديات الحوار على شبكة الانترنت، والبحث في مواقع الشبكة ومراسلة الاصدقاء داخل السعودية وخارجها، فيما يقوم آخرون بمشاهدة المحطات الفضائية العربية بصورة متصلة. فالمجتمع بات مسيّساً الى درجة كبيرة، ولكن ليس هناك قنوات مشرعنة للتعبير عن النظرات السياسية والمناظرة حول مستقبل البلاد، والمشاركة في فعل سياسي بنّاء، ولذلك يشعر السعوديون بالاحباط.

إن السنوات القادمة ستكون شديدة الاضطراب في السعودية، ولكن دعونا نأمل بأن المناطق لن تفسح الطريق لنشوء النزعة المناطقية، وأن المذاهب لن تفسح الطريق للنزعة المذهبية، وأن القبائل لن تفسح الطريق للنزعة القبلية، فهذه النزعات ستؤدي في نهاية المطاف الى المزيد من العنف من النوع الذي شهدناه خلال العام الماضي. إن تصلب الحكومة في التعامل مع الضغط المجتمعي من أجل الاصلاح، والمتعارض مع إستمرار المنهجية القديمة القائمة على أساس (فرق تسد) ستفضي في النهاية الى تفكيك السعودية كما عرفناها في السبعين سنة الماضية.