حقوق الإنسان في السعودية ووهم الخصوصية

عبد الرحمن بن محمد اللاحم

لقد أصبحت قضية حقوق الإنسان وما يتصل بها من حريات أساسية، من القضايا التي تحظى بالاهتمام الكبير سواء من جانب الباحثين في نطاق العديد من العلوم الاجتماعية أو جانب الممارسين للعمل العام على اختلاف مراكزهم على مستوى العالم بأسره. إلا أن تلك المفاهيم بمدلولاتها الحضارية على أهميتها والحجم الذي تشكله على مستوى العالم لا زالت غائبة عن أدبياتنا الثقافية، ولازالت ثقافتنا المحلية عصية على قبول المرتكزات الأساسية لحقوق الإنسان والأفكار الحقوقية بشكل عام، وذلك لأن رجل الشارع ظل طوال الفترات الماضية مغيب تماماً عن تلك المفاهيم والقيم السامية بفعل (المصدّات الفكرية) التي ساهمت الميكنة السياسية والدينية بنصبها، تحسباً لتسرب أي من تلك المفاهيم إلى المجتمع، والتي ستسلط الضوء على مناطق تعوَّد المواطن على رؤيتها مظلمة طوال الفترات الماضية، وترسخت لديه قناعة بأن السؤال عنها محرم دينيا وسياسيا، و آثر النأي عنها والابتعاد عن الخوض فيها حتى لا يقع في المحظور، لذا لم تجد تلك القيم مكاناً لها في منظومة قيمنا الاجتماعية ولا في مناهجنا التعليمية، أو حظاً من العملية التربوية وظلت حبيسة في حوارات النخب غير المسيسة.

لقد ساهم الفكر(السياسي – الديني) التقليديان في السعودية طوال عقود مضت في صناعة خرافة (الخصوصية) فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمفاهيم المتعلقة بها حتى يحولا بينها وبين المجتمع، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في تغييب الشعب عن حقوقه الطبيعية، مما أدى إلى ضمور الوعي الحقوقي لدى المواطن ولم يعد يدرك سوى (الواجبات) الوطنية حتى يؤديها بالشكل السليم حتى لا يقع تحت طائلة العقاب، دون أن يملك القدرة على مجرد التفكير في أن له حقوقاً مقدسة كفلتها له الشريعة الإسلامية والأنظمة السارية (كإنسان وكمواطن)، أو أن يدرك بأن تلك الحقوق هي استحقاقات طبيعية له كإنسان لا تملك الدولة منحها ولا منعها.

ومن خلال هذه الأجواء (الفكرية والسياسية) تستطيع أن تتفهم التلكؤ الحكومي في السماح بإنشاء لجنة أو جمعية أهلية لحقوق الإنسان في دولة لا زلنا في أجواء احتفالية بمناسبة مرور قرن على تأسيسها.

لقد أصبحت ثقافة (حقوق الإنسان) الآن ثقافة عالمية شارك في صياغتها وبلورة قواعدها كافة الأمم على مرّ التاريخ، كلٌ بتراثه الخاص، حتى تجسدت بهذه المواثيق والعهود والإعلانات الدولية التي نراها اليوم، وتشكلت من أجل تفعيلها لجان وهيئات دولية وإقليمية تناضل من أجل حمايتها والتعريف بها. لذا يفترض التعامل مع تلك المفاهيم على هذا الأساس، دون استحضار هواجس الريبة والشك تجاهها، وكان من المفترض العمل بغية تأصيلها وتبيئتها بناءً على قيمنا وموروثنا الثقافي، لأنها في النهاية قواعد ونصوص تهدف بشكل أساسي إلى حماية هذا الكائن الإنساني من الاستبداد والاضطهاد أياً كان مصدره، وحماية كرامته التي منّ الله بها عليه (ولقد كرمنا بني آدم).

إن الكثير ممن تطوعوا لمواجهة مفاهيم (حقوق الإنسان) بحجة مخالفتها للشريعة الإسلامية، مارسوا الانتقائية الفجّة حيث استندوا في معارضتهم على  بعض النصوص القانونية الواردة في بعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، والتي تقر ببعض الحقوق التي قد تختلف الأمم في الاعتراف بها، ومن ثم قاموا بطردها على بقية النصوص دون أن يمتلكوا القدرة على الفرز والتمييز، وقراءة المواثيق والاتفاقيات الدولية بشكل سليم، عندها خرجوا بهذا الحكم العام الذي لا يمكن أن يتسق ومقاصد الشريعة الإسلامية التي اعترفت بكرامة (الإنسان) لكونه الكائن الوحيد الذي اصطفاه الخالق جلّ وعلا لعمارة الأرض وإصلاحها، لذا فإنه وان كان هناك بعض التحفظ على جوانب معينة من تلك الحقوق، إلا أنه لا يمكن استغلال هذه الجزئيات المحدودة في الامتناع عن التسليم ببقية الحقوق الأخرى التي اتفقت الشرائع السماوية والمواثيق الأرضية على صيانتها والاعتراف بها.

إن التترس خلف (الخصوصية) في مواجهة الثقافة الحقوقية لم يكن دائماً بسبب الإخلاص الثقافي بقدر ما هو ذريعة لمزيد من التجهيل للشعوب.. وإلا أي خصوصية هذه التي تمنعنا من التنديد بالتعذيب أو الاعتقالات التعسفية أو مصادرة جوازات السفر؟ وأي خصوصية هذه التي تحول بين الإنسان وحقه في حياة كريمة كما أراد الله له، وكذا حقه في محاكمة عادلة، أو حقه الطبيعي في أن يعبر عن آرائه بكل حرية بعيداً عن سطوة السلطة؟

إننا الآن أمام مأزق أخلاقي تجاه هذه الجماهير التي أخذنا طوال العقود الماضية نمارس التخدير الثقافي لها حتى فقدت الإحساس بكرامتها وإنسانيتها، ولن يمحو هذا العار إلا تدشينُ حملة توعوية وطنية شاملة بهذه الحقوق ودمجها في مناهجنا التعليمية والمطالبة بمؤسسات أهلية ترعى هذه الحقوق وتذود عنها، وسنّ الأنظمة التي تُفصّل هذه الحقوق، وتجرّم انتهاكها أو القفز عليها، وعدم الاكتفاء بالنصوص العامة والتي يراد منها بالدرجة الأولى تجميل الديكور السياسي فحسب بينما الواقع العملي يعجّ بالانتهاكات الصارخة والتجاوزات المريعة التي تصطدم مع أبسط  القواعد القانونية.

إن أي خطوة نحو ترسيخ المفهوم الحقوقي إنما هي وثبة نحو بناء مجتمع سليم قادر على مواجهة الغارات الثقافية الخارجية يوم أن يجد الإنسان نفسه بأنه يعيش على هذه الأرض بكرامة مصانة وحقوق مقدسة، عندها فقط يحق لنا الحديث عن (دولة القانون).

(عن إيلاف)