الجمود ومشروعية الدولة المنتقصة

 د. خالد الرشيد

 توضح الآن أن شرعية الدولة القائمة على الدين بنسخته الوهابية في طريقه الى التقلص والتراجع. فرغم أن المنتمين الى السلفية ليسوا أكثرية في المملكة، مما يجعل المشروعية الدينية قليلة في الأصل أو ضعيفة، فإن أتباع التيار السلفي أنفسهم ناقمون على العائلة المالكة بقدر ما.

يمكن تقسيم موقف اتباع التيار السلفي الى ثلاثة اقسام: القسم الأول: العنفي وهو الذي اتخذ قراراً لا عودة عنه بتكفير الدولة ورموزها من أمراء العائلة المالكة، فالدولة عندهم ليست إسلامية، ولا يجب أن تكون سعودية، وهم لا يؤمنون بالحدود الدولية بين الدول، ويرون أن الوطنية نقيض الدين. هذا القسم ومن يؤيده من بين السلفيين سحب شرعيته التي منحها للنظام في العقود الماضية.

القسم الثاني: وهو القسم الرسمي، أي رجال المؤسسة الدينية من قضاة ومسؤولين ووزراء وكبار علماء. وهم الجناح المعتدل، الذي لا يرى الحكومة السعودية حكومة دينية، ولكنه لا يخرجها من الدين بالكليّة. ورغم أن تراث هذا القسم لا يختلف عن القسم العنفي، وبالتالي فإن حججه في موضوع الشرعية أي منحها للنظام ضعيفة، إلا أنه يحاول ومن خلال المقارنة بين السعودية كدولة مع الدول الأخرى في علاقتها مع الدين والتيار الديني، يحاول أن يشرعنها من خلال المقارنة فيظهر حسناتها. ومع هذا لا يخفي هذا القسم امتعاضه من بعض سياسات وممارسات رموز الحكم، خاصة في الآونة الأخيرة التي وجدت فيها الدولة نفسها ملزمة باتخاذ قرارات مصيرية (او هكذا يراها التيار السلفي الرسمي) مثل قرار دمج الرئاسة مع وزارة التربية والتعليم، وكقرار تعديل المناهج وحذف موضوعة الولاء والبراء وغيرها. المهم إن هذه الممارسات تزيد من قناعة التيار الرسمي بأن الدولة بدأت بالتنكّب عن مبادئها، وهم يحذرونها علناً من ذلك، بل ويهددون بحرب لا هوادة فيها، وأهم ما يشي بهذا الأمر العريضة التي وقعها 156 شخصاً من كبار التيار السلفي الرسمي منددين بتغيير المناهج. ولهذا فإن الشرعية ستكون منتقصة من جانبهم، أي أنها تنقص وتزيد حسب ممارسات الحكومة، وإن كان من الراجح لدى الكثير منهم بأن ليس من مصلحة التيار السلفي الرسمي مصادمة العائلة المالكة على قاعدة المكاسب والخسائر.

القسم الثالث: هو القسم السلفي الذي يسمي نفسه صحوياً أو وسطياً، فهذا القسم أكثر تسييساً وهو يدرك بأن النظام القائم يفتقد الشرعية الدينية كما الوطنية المؤسسة على الرضا والمشاركة الشعبيين. وهذا القسم يلتمس موقفاً وسطياً لا ينزع يداً عن طاعة من جهة، ولا يمنح شرعية كاملة للنظام، وهو يسير في الجملة باتجاه يحفظ للتيار موقعيته ورياديته، (أو) يبحث عن إصلاح سياسي يخفف من تسلط العائلة المالكة ويكون للشعب دوراً في تقرير مستقبله.

أما علاقة الأطراف الدينية الأخرى في المملكة مع العائلة المالكة فليست قائمة في الأساس على (الولاء الديني) بمعنى أن العائلة المالكة لا تعترف بالمذاهب الأخرى وقد سبق لها ولاتزال الإساءة اليها، ومن جهة الأتباع (من الشيعة والإسماعيلية والصوفية) فإنهم في خضوعهم لنظام الحكم إنما يخضعون في الجملة لسلطان القوة، فلا توجد علاقة حب متبادلة، ولا منظومة حقوق حافظة لمصالح الطرفين، ولا ثقافة وطنية تؤسس للمساواة بين المواطنين وتقر حقوقهم الأولية، وتشرعن النظام وطنياً. وهؤلاء يرون أن انحياز النظام للتيار السلفي بسطوته وجبروته ودعمه بقوى الدولة وإمكاناتها قد سلب من النظام ولاءهم لهم، ويرون دعم الوهابية مقابل الآخرين معوقاً لشرعية النظام دينياً ووطنياً.

ذات الأمر يمكن تقريره فيما يتعلق بالتيارات السياسية اللبرالية عامة، فهي تنظر الى الدين بنسخته المحلية كأداة بيد السياسي لقمع الحريات والتغطية على الفساد. ويرى بأن التيار السلفي عقبة أمام الإصلاحات السياسية، وأن الحلف الديني السياسي أوقع البلاد فريسة منهجية احادية في كل الأبعاد السياسية والثقافية والإجتماعية. ولهذا فإن شرعية العائلة المالكة من وجهة النظر هذه مهددة بالإنقراض، ولا يحتملها الزمن، ولا يقبل بها المواطن. وهذا التيار الذي فشل في عقود سابقة في تغيير نظام الحكم جذرياً، قبل فيما يبدو وعلى مضض بمركزية العائلة المالكة في الحكم، شرط تطوير النظام السياسي على النحو الذي وجد في الكويت ـ على أقل تقدير. وبدون ذلك تبدو الدولة والعائلة المالكة نفسها مهددتان بالزوال، بالنظر الى الظروف السياسية الإقليمية والمحلية.

إزاء هذه المعضلة كيف توفر الدولة شرعيتها. وكيف تشرعن الحكومة (العائلة المالكة) نفسها؟

الهروب من الإصلاحات أو الجمود عند أبوابها لا يكسب النظام مشروعية إضافية دينية أو وطنية، بل يفترض أن يزداد التناقص، وتصبح المسائل التي اخذت بتلقائية على أنها صحيحة موضع شك. ومن ذلك الشرعية التاريخية لحكم آل سعود، أو شرعية الإنجاز المادي الآخذ بالتدهور بسبب انفراط الوضع الإقتصادي وبلوغه حدوداً عليا من التأزم.

ما نراه اليوم من صانعي القرار مجرد وقوف في وسط الطريق، فليس هناك نية للعودة الى المشروعية الدينية عبر بذل المزيد من الصلاحيات والإمتيازات للتيار السلفي، ولا توجد في الوقت نفسه نيّة وإرادة صادقة باتجاه الإصلاحات الوطنية التي يمكن من خلالها هيكلة شرعية النظام والدولة المختلين. والجمود اليوم، ليس قراراً ملكياً، بل نتاج حيرة وخوف. إنه وقوف التائه العاجز عن اتخاذ القرار. فالمضي الى الأمام مكلف ومخيف في بعض الأحيان، والإرتداد الى الخلف مكلف ومخيف وربما غير ممكن أيضاً.

لقد دخلت الدولة السعودية مرحلة الجمود، بل هي لم تبرحها منذ زمن، ولكنها اليوم تواجه ضغوطاً للخروج من الثلاجة ولكن صانع القرار يأبى ذلك، خوفاً من الضوء والشمس. وبهذه الطريقة تترك الأمور لعوامل الطبيعة وسنن الكون لتقوم بحسم الخيارات: فإما طامة كبرى لا تبقي ولا تذر تذهب بالعائلة والدولة معا، وإما انفراج يعيد الأمل للملايين من المواطنين الذين يعيشون انتكاسة في حياتهم منذ نحو عقدين من الزمان.