إعتقال الإصلاحيين.. إغتيال وطن

  

قبل اكتمال جنين الوطن المرجو ولادته مكتملاً، فاجأت الحكومة السعودية التيار الوطني بعملية اجهاض مبكر لهذا الجنين، بإقدامها على إعتقال رموز التيار، كجزء من خطة واسعة النطاق ترمي الى إعادة عقارب الزمن الى الوراء، أي لا ما قبل البدء بمشروع تكوين الوطن..فقد طويت أشرعة الأمل على نحو عاجل وسحب المصلح المنتظر شهادته، ولم يعد هناك ما/ ومن يعوّل عليه في الطبقة الحاكمة، التي أفادت حد الخداع من المشاعر الوطنية لدى التيار الاصلاحي، ووظفتها في خدمة أغراضها لمواجهة جماعات العنف حتى إذا قضت وطرها من (الوطنية)، قذفت بها في وجوه من اعتصموا بها، ثم قالت لهم لا عاصم اليوم لكم من بطشنا الا اعلان البراءة منها والانصياع للسلطة.. وبذلك بدأت رحلة العودة الى ما قبل تكوين الوطن، وايذاناً بمرحلة مظلمة أخرى في تاريخ بلد لم يعد قادراً على المشي سويّاً على قدميه بفعل الاثقال التي وضعت على كاهله منذ عقود.. ولم يعد الأمر متوقفاً على خيبة أمل من تصريحات الامراء وقرارإعتقال رجال الاصلاح، بل بلغنا مرحلة الوجود: أن نكون أو لانكون كوطن يضم تنوعاً اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، سيما وأن نزعة الواحدية إنبعثت تارة أخرى لتكسير الاحلام والعظام.

كان الجميع بإنتظار مفاجئات غير سارة، كأن تتعثر مسيرة الاصلاح عند حدث طارىء غير محسوب، أو أن يتم تحريف المسار الاصلاحي عبر ملء طريق الاصلاح بالفطريات والاعشاب الضارة، أو حتى مصادرة المنجز الاصلاحي قبل بلوغه لحظة الفعل، فقد اعتاد الناس في بلادنا على تلك المفاجئات بفعل النكسات والارتدادات السريعة التي تحدثها العائلة المالكة، وهذا دليل الثقة في ارتكاسها المتكرر.. لكن ما جرى هذه المرة كان إنقلاباً فاضحاً وعودة فورية الى نقطة الصفر بطريقة سافرة وازدرائية.. وكأن ما حذّر منه المتشائمون قد وقع، وأن ما أثاره المشككون في مصداقية المدعى الاصلاحي لدى العائلة المالكة قد تحقق.. إن ما حدث يمثل فرزاً حاداً وتاماً ونهائياً بين المجتمع والسلطة، ليس لأن الاخيرة تسير عكس تيار الاصلاح، بل لأنها قررت الانفصال عن المجتمع ومواجهته إن تطلب الأمر، سيما مع إدراكها بأن الاصلاح لم يعد مطلباً فئوياً أو رغبة تيار متقطع ومتناثر اجتماعياً، بل هي تدخل الآن معركة مفتوحة.

لقد نبّهنا في العدد الماضي الى أن ثمة دلائل عديدة تشير الى توقف مسيرة الاصلاح أو تراجعها، قبل أن تقدم الحكومة على قرارها التعسفي بإعتقال ثلةٍ من رجال الاصلاح في البلاد.. فقد كان واضحاً أن نبذ الاصلاح السياسي بذريعة ارتباطه بتوجّهات خارجية (وأميركية حصراً) قد أمدّ الحكومة بسلاح تحارب به التيار الاصلاحي الوطني..ومن الغريب أن يوصم دعاة الاصلاح بالعمالة للخارج في بلد تمثّل حكومته الحليف الاستراتيجي الأقوى للولايات المتحدة الى ما قبل الحادي عشر من سبتمبر، ومن السخرية  أن يكون الاصلاح السياسي هو المحك الذي توضع عليه الولاءات، وأن يتم على أساسه التصنيف بين من هو: وطني وعميل. والاشد غرابة أن يعاد ادارة الاسطوانة المشروخة لتبدأ بتهمة العمالة للأجنبي في منطقة دخلت برمتها في المجال الحيوي لكل ما هو أجنبي، حتى بات من المستحيل الفصل بين ما هو محلي وأجنبي، ووطني وعميل.. إن إستعمال ورقة العمالة للأجنبي في الوقت الراهن يبدو وكأنه ملهاة خارج الزمن الضائع.

منذ انطلاقة النشاط الاصلاحي في شكله العلني والوطني في يناير عام 2003 بدا وكأن تطابقاً في الموقف بين السلطة والمجتمع في تشخيص (حال الامة) وسبل العلاج لمشكلات الدولة، وهذا ما حفّز الطاقات الكامنة من أجل إعادة بناء الوطن على أسس صحيحة تتحقق فيه مبادىء العدل والمساواة والحرية والكرامة والشراكة السياسية المتكافئة والتنمية المتوازية والشفافية.. وكان الجميع محثوثاً بالمشاعر الوطنية والرغبة الصادقة في تقديم العون للدولة من أجل تحرير نفسها من ضغوطات كانت واقعة تحت تأثيرها، بدءا من انفجار ظاهرة العنف، والخوف من ضياع الملك من آل سعود، والضغوط الخارجية الدافعة نحو تغيير الانظمة السياسية في الشرق الأوسط، بل كان التيار الاصلاحي مؤّهلاً بامتياز لأن يذهب في تقديم التطمينات الى أقصى حد يمكن أن تصل اليه رغبة العائلة المالكة، من خلال بيانات عديدة عبّر فيها دعاة الاصلاح عن تمسكهم بالقيادة السياسية، ورفض التدخل الاجنبي في الشؤون الداخلية للمملكة، وهو ما أفصحت عنه بوضوح بالغ عرائض التيار الاصلاحي (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) و(دفاعاً عن الوطن) و(الاصلاح الدستوري أولاً) وبيانات أخرى سابقة ولاحقة للمثقفين السعوديين.

بل أكثر من ذلك، أن التيار الاصلاحي توسّل بكل ما يعزز الثقة ويعمّق الصلة ويحقق الاطمئنان بين التيار الاصلاحي والعائلة المالكة، فكانت إجتماعات دعاة الاصلاح تنعقد في الهواء الطلق وعلى مرأى ومسمع مسؤولي الدولة ورجال الأمن، وكان الحرص يحدو المجموعة الاصلاحية أن لا تحيد عن العلنية والشفافية في نشاطها وأن تعبّر في العلن ما لا ترى جواز كتمانه في السر، طمعاً في الوصول الى مرحلة متقدمة في بناء الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع.

ولعل مما يلزم الاشارة اليه، أن التيار الاصلاحي بالغ في مكاشفته وعلانيته ونزاهته أملاً في أن يبادله أهل الحكم بموقف مماثل، وليس من قبيل السذاجة السياسية أن يمنح دعاة الاصلاح الثقة الزائدة في العائلة المالكة، أو يؤمّلوا على دعوى التوجه الاصلاحي لدى ولي العهد الأمير عبد الله، فقد كان تشخيص الأزمة المستفحلة التي تعيشها البلاد كفيلة بأن توصل الجميع الى قناعة بمبدأ الشفافية وصولاً الى الاصلاح الشامل والفوري كخيار ضرورة. وإذا كانت العائلة المالكة أو بعض أعضائها الكبار قد أخفق في الوصول الى تشخيص دقيق لأزمة البلاد، وتالياً في تعيين الخيار الناجع لها، فإن الجدل يدور حينئذ عن كفاءة الرؤية الاستراتيجية لكل من التيار الاصلاحي والعائلة المالكة.

في واقع الأمر، أن الجناح المتشدد داخل العائلة المالكة أخفق مرتين: الأولى عام 1992 حين بالغ في الثقة بالذات الى حد التورم، حيث توّهم بأن تصفية التيار الديني الفاعل في الساحة السياسية المحلية (بعد موجة العرائض المرفوعة من القوى السياسية الوطنية والدينية الى الملك فهد والمطالبة ببدء برنامج اصلاحي شامل)، كانت طوق النجاة الذي أنقذ العائلة المالكة من خسارة سياسية فادحة، ثم جاء الاعلان عن الانظمة الثلاثة في مارس 1992 لتزيد في أوهام الانتصار، ولكن واقع الحال يثبت عكس ذلك، فقد تفاقمت المشاكل الداخلية: زيادة معدلات البطالة، انهيار في الخدمات العامة، هدر بالغ في المال العام والثروة الوطنية، ارتفاع حجم الدين العام، بالنظر الى الانعكاسات الخطيرة الناتجة عنها والممثلة في انهيار المداخيل، وتردى الاحوال المعيشية، وزيادة معدلات الجريمة، وتصدع هيبة السلطة وتزعزع مصداقية أهل الحكم، وتنامي موجة السخط الشعبي، وانفجار ظاهرة العنف المسلح بأشكال غير مسبوقة.. من المؤسف القول بأن الانتصار في وعي العائلة المالكة هو ما يكفل بقاء السلطة وتمركّزها وإن أفضى في نهاية المطاف الى شلل تام في كافة أوجه الحياة العامة.

والمرة الثانية في مارس 2004 حين اقدمت أجهزة الأمن على اعتقال ثلة من دعاة الاصلاح. في لقاء الأمير نايف مع مجموعة من رجال الوطن عقب حادث الاعتقال ما يفيد بتلك النزعة الضارية لدى الجناح المتشدد داخل العائلة المالكة، حيث تحدّث الأمير نايف بلغة المنتصر وأنه كان قائد حملة تصفية التيار الديني الناشط في القصيم عام 1992، وكان حديثه ينبىء عن جاهزية جهازه لخوض معارك مماثلة من أجل ضمان استمرار السلطة وتمركزها في يد العائلة المالكة..إنها ليست مجرد رسالة تحذير يبلغها الأمير نايف لمن اجتمع بهم وللتيار الاصلاحي والوطني عموماً، بل إنها فلسفة الحكم والعقلية السياسية التي تسيّر دفة الدولة، فحديثه كحديث أبيه أن هذه (الدولة أقمناها بالسيف ومن لديه سيف فليشهره). إذن فالحديث عن تعاقد اجتماعي يؤسس لعلاقة متوازنة بين الحاكم والمحكومة وشراكة في وطن يتقاسم فيه أبناؤه الغنيمة السياسية ويتحمّلون فيه الغرم الاقتصادي والامني بالسوّية يقع خارج منظومة المفاهيم المعمول به لدى هذا الجناح المتشدد من العائلة المالكة.

ولذلك نحن أمام إتجاهين متصادمين: إتجاه يرى الوطن بمولوداته الطبيعية، أي الدولة والسلطة حقاً عاماً لكل المنتسبين له، وإتجاه آخر إختزالي يرى السلطة صانعة للدولة والوطن معاً، وبالتالي فهي حق خاص للماسك بها، فتصبح الدولة والوطن من مستحوذات السلطة وممتلكاتها.. ولئن بقيا الاتجاهان يسيران بهذه الطريقة المتعاكسة فإن اصلاحاً بالمعنى السياسي لن يتم الا بغلبة أحد الاتجاهين على الآخر أو بتقديم تنازلات جوهرية متبادلة بما يضمن امكانية التصالح على الحدود الدنيا.

وحتى الآن وبعد الانقلاب الابيض على مسيرة الاصلاح المأمولة، لايبدو أن ثمة ما يشير الى انعقاد النية لدى العائلة المالكة على تحقيق المصالحة الوطنية المنتظرة، فالاقدام على خطوة إعتقال رجال الاصلاح يؤكد تشبّثها بفلسفة حكم تقوم على اعتبار أن الدولة تمثل إمتيازاً خاصاً لدى العائلة المالكة وأن السلطة احتكار عائلي محض.. وما أبلغه الأمير نايف لرجال الوطن في إجتماعه بمنزل مستشاره كان من الوضوح بما لا يدع مجالاً للشك في كشف زيف التوجه الاصلاحي لدى العائلة المالكة، كما أن تصريح الامير سلطان بمعارضة الانتخابات حمل من الدلالات الكافية والكفيلة بتبديد وهم الاصلاح السياسي المأمول. فقد أعاد الأمراء إحياء مبدأ القوامية السياسية وأنهم وحدهم الأعلم بمصالح البلاد والعباد، وأن ما يهبونه لمواطنيهم إحساناً ومنّة وأن الولاء والسمع والطاعة لهم واجب وفريضة.

ولا بد هنا من إدراج التوجّه القديم الجديد لدى العائلة المالكة في سياقه السياسي والتاريخي، إذ لم يكن هذا التوجه ظاهراً حتى قبل عقد من الزمن، إن لم يكن قد اضمحل تماماً منذ يناير عام 2003 حيث شهدت البلاد مرحلة شفافية تدشّنت على خلفية انفجار الازمة الامنية الحادة في البلاد، وقدّمت القيادة السياسية شهادة ضمنية بالاعتراف بضلوعها في أزمات اقتصادية وسياسية وفكرية متراكمة، واستشعرت الحاجة الى فتح المجال السياسي أمام الكفاءات الوطنية لتجديد دماء الدولة بعد أن بلغ الفساد حداً لا يصح السكوت عنه. ودخلت كلمة الاصلاح في الثقافة السياسية اليومية وأصبحت تتردد في تصريحات كبار الأمراء، والصحافة المحلية، الى جانب العرائض الاصلاحية.. بكلمات أخرى، لقد استشعر الجميع أن وطناً جديداً يشارف على الولادة، وأن الآمال انعقدت على ظهور الفارس من داخل العائلة المالكة في المشهد الاصلاحي ليعلن بدء مسيرة الاصلاح الفعلي في هذا الوطن المنتظر.

ولكن على حين غرّة استبدل الأمل بالاحباط واليسر بالعسر، والولادة بالاجهاض وشعر الجميع بأن وعود الاصلاح ما كانت سوى غطاء يخفي تحته خدّعة مبيّتة، فقد إبتذلت العائلة المالكة الشعور الوطني لدى رجال الاصلاح وتوظيفه بإسلوب ابتزازي من أجل مواجهة تحديات العنف المحلية والضغوط الخارجية، وحين استعادت السلطة توازنها المفقود لفترة طويلة أدارت فوّهة المدفع صوب من اصطفوا معها ووقفوا معها في وقت الشدة.. وهكذا فالصمت المنذر بالدوي المزلزل لم يكن مدركاً بفعل النوايا الحسنة التي أفرط التيار الاصلاحي في إظهارها للعائلة المالكة، ولم يكن أحد يحسب بأن الغدر السياسي وبهذه الطريقة الفارطة في الفجاجة والسخرية مازال خياراً استراتيجياً لدى الجناح القوي في العائلة المالكة، وفي هذا المنعطف التاريخي الحاد، وما حدث في منتصف مارس الماضي لم يكن سوى إغتيالاً لوطن قبل اكتمال مراحل نموه.

 

(كلمة التحرير)