الليبرالي الراديكالي وحرق المراحل!

 حمزة الحسن

 تشير التهم التي وجهت للمعتقلين الإصلاحيين بأنهم كانوا متهورين في مطالبهم، يسعون الى حرق المراحل، والى القفز في الظلام دون الأخذ في الإعتبار الوضع الإجتماعي والسياسي المحلي بعين الإعتبار، ودون النظر الى أن ليس كل شرائح المجتمع قادرة على حثّ الخطى نحو الهدف. ويقول المنتقدون بأن الأهداف الإصلاحية كانت راديكالية غير متدرجة بتاتاً، ويسوق هؤلاء كدليل على ذلك طرح موضوع الملكية الدستورية كهدف، وهم يعلمون أن العائلة المالكة لا تستطيع أن تتقبله، وأن تصعيد المطالب قد يفضي الى إلغاء العملية الإصلاحية من أساسها.

وغير التسارع في الأهداف، يأخذ البعض على الإصلاحيين تسارع إصدار العرائض وتجييش الشارع للتوقيع عليها، فاعتبر ذلك وكأنه لي لذراع حكومة العائلة المالكة، وليس مطلباً سلمياً خالياً من مضامين الضغط والإكراه، وهذا ـ حسب هذا الرأي ـ شجّع الجناح المتشدد في العائلة المالكة لاستخدام القوّة في دفع المطالب الإصلاحية والتهديد بنسفها.

ومما يؤخذ على الإصلاحيين في هذا السياق أيضاً، اتهامهم بأنهم تجاوزوا ثوابت المجتمع في قيمه ومقدساته.

هذه الإتهامات ليست جديدة، بمعنى أنها كانت موجودة قبل الإعتقالات نفسها، وهي في مجملها لا تحمل الكثير من المصداقية. فهناك بعض الكتاب من حذّر الإصلاحيين من أن هناك جهات دينية وسياسية وهي وإن كانت تؤمن بالإصلاح ولا تخشاه (كما يقول كاتب المقال زياد الدريس ـ الوطن 25/1/2004) إلا أنها تخشى من أن القطار لن يتوقف في محطاته المعتادة، بل سيمضي بأقصى سرعة نحو المجهول، الأمر الذي يعرّض الركاب جميعاً ـ وهم المواطنين ـ الى خطر خروجه عن خطّه. وقال الدريس إن المتطرفين الإصلاحيين يمنحون المتطرفين في الجانب الآخر ـ السلفي ـ الأدوات اللازمة والمبررات الكافية لكي يقفوا أمام الإصلاح، وذلك حين يتعدون على ثوابت الأمة في مقدساتها! ولكن الدريس وغيره ممن نسجوا على هذا الخط، لم يوضحوا أين تمّ تجاوز (المقدس) وأين كان (الإنتهاك)؟ خاصة وأننا حين كتب المقال كنا نشهد فترة خصب في العلاقة بين كل التيارات، وكان التيار الليبرالي بشتى أصنافه حتى الإسلامية مبتعداً عن نقاط الصدام ومحاور الإحتكاك.

وكان سليمان العقيلي، الكاتب في جريدة الوطن، قد حذّر هو الآخر الإصلاحيين في أكثر من مقال من تجاوز الخطوط الحمراء، وما يزعم من ثوابت سياسية ودينية، خشية على الإصلاح نفسه (الوطن 18/1/2004؛ و29/12/2003). تلك التعليقات التي تكتب وتناقش لم توضح ما هي الخطوط الحمراء، وما هي الثوابت المنتهكة؟ فالسعوديون جميعاً ـ وفي غياب القوانين والأنظمة أو قلّتها في البلاد ـ تجعل كل فرد يرسم خطوطه الحمراء بنفسه، ويحدد ثوابته بنفسه، ولو سألنا أي شخص من الإصلاحيين أو غيرهم، بل لو سألنا وزير الداخلية نفسه وإخوته الأمراء: ما هي الخطوط الحمراء؟ لأعطانا كل واحدٍ منهم إجابة مختلفة.

فما يراه أحدنا خطاً أحمر وخطير، قد لا يراه الآخر كذلك، وما يعتقده أحد الإصلاحيين هدفاً مشروعاً قابلاً للتحقق، يراه زميله الآخر، هدفاً مستحيلاً. لا نستطيع اليوم أن نحدد على وجه اليقين الخطوط الحمر التي كان يجب أن تتكفل القوانين والأنظمة بتحديدها، ولا نستطيع أن نحدد درجة الراديكالية في التحليل أو الأهداف، بعيداً عن التشخيص الذاتي للأمور، طالما أن هناك مسائل لم تناقش في صلب القضية الوطنية. نعم يمكن القول أن هناك بعض الثوابت الكلية التزم بها الجميع: وهو ثابت العائلة المالكة على رأس السلطة، دون تحديد حجم صلاحياتها، وهناك ثابت الوحدة الوطنية، وهناك من جهة ثالثة ثابت (الدين) الذي يختلف في التفاصيل على حجم دوره في الحياة العامة.

هذه الثوابت الكلية لا تحل لنا إشكالية الخطوط الحمر، ولا تكشف لنا تفاصيل الثوابت المنتهكة، والقيم المنتقصة.

الشيء الوحيد الذي كانت المقالات وغيرها تشير إليه، يتعلق بالتحليل السياسي الأولي للنشاط الإصلاحي، وكل ذلك يمكن حصره في نصيحة واحدة: لا تستفزّوا التيار السلفي الرسمي، ولا تستفزّوا العائلة المالكة، فهذا يعني أن السلطة بأكملها ستتحول ضد مشروع الإصلاح إن رأى هؤلاء أن ما عليهم دفعه في الإصلاحات ليس ثمناً قليلاً!

هذه النصيحة، صحيحة بالنسبة للكثيرين، ولكننا كما يعلم القراء والمواطنون ندرك بأن نقداً واسعاً لنشاط التيار الديني كان مقدمة الحراك الإصلاحي. فالإستفزاز هو نتيجة طبيعية طالما أردنا مكافحة الفكر المتطرف والعنف الذي أنشب أظفاره في المجتمع، إن المؤسسة الدينية كما مجمل التيار السلفي لم يكن راضياً عن النقد الذي أذنت به السلطة السياسية في وسائل الإعلام إما بغرض التنوير أو بغرض التنفيس أو بغرض التنازل على حساب المؤسسة الدينية.

طبيعة الإصلاح تعني استفزازاً لصاحب المسؤولية وصانع القرار. الأخير هو من عليه أن يتحمّل النقد، وأن يقدّم التنازل. فما نشهده من تدهور على كافة الصعد الأمنية والسياسية والإجتماعية والثقافية والخدمية إنما كان نتيجة أخطائه. الإصلاح لا يكون إلا بنقد، وإلا بمواجهة فكرية وسياسية لا يستطيع الإصلاحي ولا صانع القرار التحكّم بمسارها بشكل دقيق.

ثم لا ننسَ هنا أمراً لا يدركه الكثيرون، وهو ان الحراك الإصلاحي، أتى بعد انحباس لمجاري المياه منذ تأسيس الدولة وقيامها قبل ثمانية عقود أو أقل، وهذا يعني أن ثقب الإبرة يمكن أن يتوسّع نتيجة تراكم المياه خلف السدود. لا تستطيع بعد أن حبست حرية التعبير دهراً، وبعد أن خرب الوضع ويكاد ينهار السقف على الجميع، أن تهدّئ الوضع وتستخدم (المساج) الإصلاحي! وإذا استطعت إقناع البعض بضبط الكتابات او الكلام، فإن الطيف الكبير من الرجال والنساء لا يكتمون ولا يدققون في الحساب، بل قد لا يكون التدقيق في الحساب من أساسه ممكناً أو حتى صحيحاً.

طبيعة الحركة الإصلاحية (تسارعية) تبدأ من نقطة ثم تتسارع. البعض يراها تسير بسرعة، كالأمراء والمشايخ! في حين يراها الطرف الآخر متباطئة، لا تتجاوب مع الحاجات القائمة ولا تشكل الإجابة السريعة والحاسمة للمشكلات المنتظرة. العملية الإصلاحية تشبه الطفل حين يبدأ خطواته الأولى؛ فهو لا يستطيع إلا أن يمشي ركضاً وإلا سقط! هذه سنّة الحياة وطبيعة الحركة السياسية.

من يتهم الإصلاحيين بحرق المراحل، عليهم أن يجيبوا: إذا كانت العملية الإصلاحية تدرّجية قبل الجميع أن تكون سلمية، فلماذا لم تضع الحكومة أجندتها للإصلاح التدرجي، وتركت الأمور عائمة ممطّطة تسيح على مسافة ألف ميل بل ألف عام؟ لماذا لم تحدد الوقت الذي ستستغرقه أجندة الإصلاح بعد أن تحدد ماهية الإصلاحات؟ لماذا لم نرَ خلال العامين أيّ بشائر أو دلائل على الإصلاح التدرّجي؟ ثم أين هي المراحل التي أحرقها الإصلاحيون؟ كل ما نادوا به مجرد المطالبة، وكل ما جاء من السلطة هو الوعود! أي كلام في كلام!

نحن لم نتزحزح كثيراً عن المربع الأول حتى تكون هناك مراحل أُحرقت أو قُفز عليها!

نحن لم نحقق منجزاً واحداً خلال الأعوام الثلاثة الماضية، لا في الإقتصاد ولا في السياسة ولا في غيرهما!

حين خاطب ولي العهد المواطنين عبر شاشة التلفاز مؤكداً على مضي الإصلاحات، ومندداً بفئتي الداعين للجمود والمغالين في المطالب، اعتبر البعض ذلك إشارة الى ضيق من الأمير بالغلو من طرفيه، كما عبر هو عن ذلك.. ولكن أحداً لم يسأل أين ملامح الغلو الإصلاحي على أرض الواقع؟ فكلمة تخرج من هنا، أو تصريح من هناك، من قبل أفراد غير منظمين في إطار سياسي، لا يعني أن التيار العريض يقفز في الظلام. ولربما كان من الصحيح القول في التحليل، إن بطء الإصلاحات سرّعت بالمطالب الى أقصاها: (الملكية الدستورية) وهو مطلب وحق شرعي ومنطقي، إذ لم يخلق الله عائلة لتتحكم في العباد الى الأبد! وكان هناك رأي يقول بأن المطالب الكبيرة قد تدفع الأمراء للتنازل والقيام بخطوات ملموسة فيما يتعلق بالمطالب الأدنى، وهي المشاركة الشعبية عبر الإنتخابات لمجلس الشورى ووضع دستور وتوسيع هامش حرية التعبير وغير ذلك.

صحيح أن العائلة المالكة حاولت وقبل أن تظهر العريضة الأخيرة منع توقيعها، في محاولة ترويض واضحة، جرى ذلك لعبد العزيز القاسم ولتوفيق القصير ولمحمد سعيد الطيب، وغيرهم. بيد ان المشكلة أكبر من الأفراد، لتصل الى منهجية الإصلاح نفسه. فطالما ان لا خطوات على الأرض غير الوعود، وطالما أن خارطة الإصلاحات المنتظرة لم يتم القبول بها رسميا، ولم توضع لها أجندة، وطالما أن أمراء العائلة المالكة الكبار مختلفين في رؤيتهم تجاه التغيير، فإن موضوع أفراد ـ إصلاحيين ـ وقعوا أو لم يوقعوا ليس بقضية، طالما فالمشكلة باقية مزمنة وتولّد مشاكل أخرى في عملية تكاثر سريعة لم ينتبه لها الأمراء حتى الآن.

لا بدّ أن نشير هنا الى حقيقة كشفت عنها الإعتقالات، وهي أن الإتهامات (التي وجهت للإصلاحيين) أعلاه لم تكن سوى السبب الظاهري للمشكلة، بدليل أن الإعتقالات شملت أناساً لا علاقة لهم بالعريضة الدستورية التي شملت أقصى حدود المطالب (الملكية الدستورية) وهي جاءت من التيار الإسلامي المعتدل في مجمله. الإعتقالات تكشف على خلاف في (أصل) الموضوع، في عمقه وجوهره، وليس في كيفية التعبير عنه فحسب. ولربما استفاد الجناح المتشدد في العائلة المالكة من بعض الأخطاء الصغيرة والطبيعية لينقلب على وعود الإصلاح كليّاً.