مبادرة الاصلاح السياسي

السعودية وإنعاش الخيار العربي

 منيرة عبد الرزاق

  

في محاولة لاحتواء مبادرة الشرق الأوسط الكبير الذي تنوي قمة الثماني في يونيو المقبل تبنيّها عملياً، كانت قيادات عربية تعقد لقاءات مكثّفة للتشاور بشأن المبادرة الأميركية وكيفية الخروج بمبادرة موازية تجمع بداخلها خليطاً من العناصر الاميركية والعربية. وكانت القيادة المصرية قد سعت فور طرح المبادرة الاميركية الى إقناع دول الاتحاد الاوروبي بفكرة التغيير من الداخل ومنح الدعم لبرامج التغيير والاصلاح التي تقودها الحكومات العربية في الوقت الراهن مع تطوير هذه البرامج بصورة تدريجية.

وفيما يبدو فإن الفكرة المصرية حظيت بادىء الأمر ببعض الدعم في أوروبا والولايات المتحدة، وهذا ما دفع وزير الخارجية الاميركي بكتابة رسالة الى قمة تونس المفترضة رحّب فيها بالاصلاح من الداخل، وأشار الى (الحاجة الى اصلاحات سياسية واقتصادية، لا تكون مفروضة من الخارج بل نتاج خاص لجهود محلية..)، وأكّد على (أن الولايات المتحدة تبقى ملتزمة بثبات العمل شريكة لكم لمواصلة الجهود من اجل تغيير ايجابي في المنطقة). وخاطب القيادات العربية الى أن (موقفاً قويا مؤيداً للاصلاحات عن طريق الجامعة العربية سيقوي قيادتكم في هذه القضية وسيلقى ترحيباً حاراً من جميع الذين يرغبون في دعم جهودكم في قمم الدول الصناعية الثماني والاميركية - الاوروبية وحلف شمال الاطلسي الصيف المقبل). وكانت هذه الرسالة إشارة الى أن الادارة الاميركية مع انعقاد القمة في تونس وليس تأجيلها، بالرغم مما قيل عن إتجاه أميركي آخر ينسّق مع تونس لاجراء تعديلات على الوثيقة التي جرى طرحها في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في تونس، حيث اعلن بعض وزراء الخارجية عن تعديلات تمت من قبل تونس بصورة منفردة أو بتنسيق مع الجانب الاميركي.

وعلى أية حال، فقد أخفق القادة العرب في عقد القمة المقررة في تونس، وبدأت قيادات كل من مصر والسعودية وسوريا في التشاور المكثّف من أجل عقد قمة أخرى لانقاذ الموقف ومن أجل إحباط فرص التغيير السياسي من الخارج، وبخاصة بعد أن شعرت قيادات هذه الدول بأنها مركز الاهتمام في المبادرة الاميركية، وأن إدارة الرئيس بوش جادة في تبني مشروع الدمقرطة في الشرق الأوسط.  

اطلالة على المبادرة الاميركية

 كانت الادارة الاميركية تعد منذ فبراير الماضي مبادرة (مشروع الشرق الأوسط الكبير) والتي تأتي عقب مبادرة (الشراكة) التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الاميركية العام الماضي والتي تتضمن تشجيع الاصلاح الديمقراطي في الشرق الاوسط. الا أن المبادرة الأميركية أريد لها أن تكون مشروعاً للنقاش الجاد مع مجموعة الدول الصناعية الثماني من أجل تشكيل موقّف دولي في قمة الـ 8 التي من المقرر عقدها في يونيو المقبل في الولايات المتحدة.

وتنطلق مبادرة الشرق الاوسط الكبير (ويضم الى جانب البلدان العربية باكستان وافغانستان وايران وتركيا واسرائيل) من التحديات الكامنة في بلدان الشرق الأوسط، وبدرجة أساسية إرتفاع وتيرة التطرف، والارهاب، والجريمة الدولية، والهجرة غير المشروعة. وترجع المبادرة هذه التحديات الى وجود نواقص ثلاثة حددها تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 وهي: الحرية، المعرفة، وتمكين المرأة. وذكر التقرير بأن تزايد عدد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة يساهم بدرجة خطيرة في صناعة ظروف تهدد المصالح القومية للدول الصناعية الثماني. واستندت المبادرة على تقرير التنمية البشرية العربية حول الاوضاع المعيشية والاجتماعية الحالية في بلدان الشرق الأوسط على النحو التالي:

ـ مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22 هو أقل من نظيره في اسبانيا.

ـ حوالي 40 في المئة من العرب البالغين ـ 65 مليون شخص ـ أميون, وتشكّل النساء ثلثي هذا العدد.

ـ سيدخل اكثر من 50 مليوناً من الشباب سوق العمل بحلول 2010, وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020. وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد الى سوق العمل.

ـ اذا استمرت المعدّلات الحالية للبطالة, فإن معدّل البطالة في المنطقة سيبلغ 25 مليوناً بحلول 2010.

ـ يعيش ثلث سكان المنطقة على أقل من دولارين في اليوم، ولتحسين مستويات المعيشة، يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المئة الى 6 في المئة على الاقل.

ـ إن 6,1 في المئة فقط من السكان من هم قادرون على إستخدام الانترنت, وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى من العالم, بما في ذلك بلدان افريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

ـ لا تشغل النساء سوى 5,3 في المئة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية, بالمقارنة, على سبيل المثال, مع 4,8 في المئة في افريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

ـ عبّر 51 في المئة من الشبان العرب الاكبر سناً عن رغبتهم في الهجرة الى بلدان اخرى, وفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002, والهدف المفضل لديهم هو البلدان الاوروبية.

ويشير التقرير أيضاً الى أن زيادة عدد الشباب المفتقرين الى مستويات لائقة في العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية سيمثل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة, وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني. ويقترح التقرير الاصلاح السياسي والاقتصادي بديلاً، حيث يلحّ تقريرا التنمية البشرية العربية على التحرك الفوري في الشرق الأوسط الكبير، الى جانب ما يطلقه نشطاء وأكاديميون وعاملون في القطاع الخاص في كافة أرجاء المنطقة من نداءات للاصلاح السياسي.

المبادرة الاميركية التي تضمنت نقاطاً عديدة تلتقي الى حد كبير مع مشروع الاتحاد الاوروبي (الشراكة الأوروبية المتوسطية)، وهذا يعكس التزام مجموعة الثماني بالاصلاح في المنطقة. وبناء على المعطيات الورادة في تقرير الأمم المتحدة الخاص بالتنمية العربية، والتحدّيات التي تفرضها أوضاع الشرق الاوسط على مجموعة الثماني تجد الأخيرة نفسها أمام فرصة تاريخية خصوصاً مع ظهور نبضات ديمقراطية في أرجاء المنطقة، ولذلك تشدد المبادرة الاميركية بأن على  مجموعة الثماني التي ستعقد قمتها في سي آيلاند (أن تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الاصلاح في الشرق الاوسط الكبير, وتطلق رداً منسّقاً لتشجيع الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة).

وتقدّم المبادرة الاميركية قائمة أولويات مشتركة لمعالجة النواقص التي حددهما تقريرا الامم المتحدة حول التنمية البشرية العربية، وتؤسس هذه القائمة لمشروع شراكة أوروبية ـ أميركية واتفاق بين مجموعة الثماني، والاولويات هي على النحو التالي: 

ـ تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح.

ـ بناء مجتمع معرفي.

ـ توسيع الفرص الاقتصادية.

وبحسب المبادرة فإن هذه الأولويات تصلح كسبيل الى تنمية المنطقة، فالديموقراطية والحكم الصالح يشكلان الاطار الذي تتحقق داخله التنمية, والافراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم ادوات التنمية, والمبادرة في مجال الاعمال هي ماكينة التنمية.

وبحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2002 فإن هناك (فجوة كبيرة بين البلدان العربية والمناطق الاخرى على صعيد الحكم القائم على المشاركة..) ولذلك فـ (ان الديموقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية, لكنهما مفقودتان الى حد بعيد في ارجاء الشرق الاوسط الكبير). ويلفت تقرير التنمية البشرية العربية الانتباه الى أنه من بين سبع مناطق في العالم, حصلت البلدان العربية على أدنى درجة في الحرية في اواخر التسعينات. وأدرجت قواعد البيانات التي تقيس (التعبير عن الرأي والمسائلة) المنطقة العربية في المرتبة الادنى في العالم. بالاضافة الى ذلك, لا يتقدم العالم العربي الاّ على افريقيا جنوب الصحراء الكبرى على صعيد تمكين النساء. ولا تنسجم هذه المؤشرات المتدنية والمحبطة مع الرغبات التي يعبّر عنها سكان المنطقة. في تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2003, على سبيل المثال, تصدّر العرب لائحة من يؤيد، في أرجاء العالم, الرأي القائل بأن (الديموقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم)، كما عبّروا عن أعلى مستوى لرفض الحكم الاستبدادي.

وفي سياق تفعيل المبادرة وتحويلها الى برنامج عمل حقيقي، تقترح المبادرة تقديم مساعدات تقنية عبر تبادل الزيارات، وعقد الندوات لانشاء أو تعزيز لجان إنتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات والاستجابة للشكاوى وتسلّم التقارير، إضافة الى المساعدات التقنية الخاصة بالانتخابات، وتعزيز دور البرلمانات في دمقرطة البلدان، مع تركيز الاهتمام على تطبيق الاصلاح التشريعي والقانوني، وتمثيل الناخبين، وتمكين المرأة من المشاركة في الحياة السياسية والمدنية، حيث تشغل النساء 5,3 بالمئة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية. وتقترح المبادرة تشكيل ورعاية معاهد تدريب خاصة بالنساء المهتمّات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم. كما يقترح المشروع تقديم مساعدة قانونية للأفراد العاديين، وتركيز الجهود على مستوى الناس العاديين في المجتمع، من أجل بعث الاحساس بالعدالة، ويقترح المشروع إنشاء وتمويل مراكز تمكّن الافراد العاديين من الحصول على مشورة قانونية بشأن القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة أو الاتصال بمحامي الدفاع.

في موضوع الاعلام، تقترح المبادرة تشجيع مجموعة الثماني وسائل الاعلام المستقلة، بالاستناد على تقرير التنمية البشرية العربية، والذي يلفت الى أن هناك اقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي, بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل الف شخص في البلدان المتطورة, وأن الصحف العربية التي يتم تداولها تميل الى أن تكون ذات نوعية رديئة. وأن معظم برامج التلفزيون في المنطقة تعود ملكيته الى الدولة أو يخضع لسيطرتها, وغالباً ما تكون النوعية رديئة, إذ تفتقر البرامج الى التقارير ذات الطابع التحليلي والتحقيقي. ويقود هذا النقص الى غياب إهتمام الجمهور وتفاعله مع وسائل الاعلام المطبوعة، ويحدّ من المعلومات المتوافرة للجمهور. ولممعالجة ذلك, تقترح المبادرة بأن على مجموعة الثماني أن ترعى زيارات متبادلة للصحافيين في وسائل الاعلام المطبوعة والاذاعية، وأن ترعى برامج تدريب لصحافيين مستقلين، وأن تقدم زمالات دراسية لطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد, وتموّل برامج لايفاد صحافيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب بشأن قضايا مثل تغطية الانتخابات أو قضاء فصل دراسي في التدريس في مدارس بالمنطقة.

وفي مجال الجهود المتعلقة بالشفافية، ومكافحة الفساد فإن المبادرة تعوّل على ما ذكره البنك الدولي والذي اعتبر الفساد العقبة المنفردة الاكبر في وجه التنمية, والذي أصبح متأصلاً في الكثير من بلدان الشرق الاوسط الكبير. وبناء عليه تقترح المبادرة على مجموعة الثماني الخطوات التالية:

ـ تشجيع وتبني (مبادىء الشفافية ومكافحة الفساد) الخاصة بمجموعة الثماني.

ـ الدعم العلني لمبادرة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية/ برنامج الامم المتحدة للتنمية في الشرق الاوسط ـ شمال افريقيا, التي يناقش من خلالها رؤساء حكومات ومانحون وIFIs ومنظمات غير حكومية استراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز مبدأ خضوع الحكومة للمسائلة.

ـ إطلاق واحد أو أكثر من البرامج التجريبية لمجموعة الثماني حول الشفافية في المنطقة.

وبخصوص تشجيع مؤسسات المجتمع المدني تأخذ المبادرة في الاعتبار أن القوة الدافعة للاصلاح الحقيقي في الشرق الاوسط الكبير يجب أن تأتي من الداخل, وبما أن افضل الوسائل لتشجيع الاصلاح هي عبر منظمات تمثيلية, يقترح المشروع على مجموعة الثماني أن تقوم بالدفع باتجاه تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة، وبحسب المبادرة فإن بإمكان مجموعة الثماني القيام بالخطوات التالية:

ـ تشجيع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني, ومن ضمنها المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الانسان ووسائل الاعلام, على أن تعمل بحرية من دون مضايقة أو تقييدات.

ـ زيادة التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديموقراطية وحقوق الانسان ووسائل الاعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة.

ـ زيادة القدرة التقنية للمنظمات غير الحكومية في المنطقة بزيادة التمويل للمنظمات المحلية (مثل مركز الديمقراطية التابع لجامعة وستمنستر في المملكة المتحدة أو مؤسسة الدعم الوطني للديموقراطية في الولايات المتحدة) لتقديم التدريب للمنظمات غير الحكومية في شأن كيفية وضع برنامج والتأثير على الحكومة وتطوير استراتيجيات خاصة بوسائل الاعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يمكن لهذه البرامج ان تتضمن تبادل الزيارات وإنشاء شبكات اقليمية.

ـ تمويل منظمة غير حكومية يمكن أن تجمع بين خبراء قانونيين أو خبراء إعلاميين من المنطقة لصياغة تقويمات سنوية للجهود المبذولة من أجل الاصلاح القضائي أو حرية وسائل الاعلام في المنطقة. (يمكن بهذا الشأن الاقتداء بنموذج (تقرير التنمية البشرية العربية).

وفيما يبدو من مضامين المبادرة الاميركية فإنها تبدو الاولى من نوعها التي ترسم برنامجاً واضحاً لخطة الدمقرطة في الشرق الأوسط. وبالرغم كونها تأتي في ظل أوضاع بالغة التعقيد بفعل تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، والاحتلال الاميركي للعراق، فإن التحفظات وردود الافعال في الشرق الاوسط وبخاصة من قبل القوى السياسية المتطلعة نحو اصلاح انظمة الحكم تبدو ضئيلة، يضاف الى ذلك أن ما ورد في المبادرة الاميركية يقترب كثيراً من هموم الشعوب الشرق أوسطية، وإذا كان هناك من تحفظ يذكر فهو كون المبادرة صادرة عن الادارة الاميركية التي تواجه أزمة مصداقية في الشرق الاوسط بفعل موقفها المنحاز بالكامل لصالح اسرائيل.

أما بالنسبة لموقف الانظمة العربية المعنيّة بدرجة أساسية بهذه المبادرة فإنه مازال متصلباً ويتجه الى الخروج من هذه المبادرة بأقل الاضرار على مستوى الامتيازات السياسية والاقتصادية التي تتمتع بها العوائل الحاكمة والمالكة. ولم يعد سراً القول بأن المبادرة الاميركية التي حظيت بدعم الاتحاد الاوروبي ومجموعة الثماني قد أحدثت شرخاً عميقاً داخل بيوتات الحكم مجتمعة ومنفردة، وهي ـ أي المبادرة الاميركية ـ تمثل العامل الرئيسي وراء فشل انعقاد قمة تونس، ولكن بإرادة عربية. وقد تنبّهت الادارة الاميركية لما يجري من تحرّكات عربية بهذا الصدد، مما دفع بالرئيس بوش لتأكيد تمسّك ادارته بخيار الدمقراطة.

ففي ظل احتدام الخلافات داخل البيت العربي حول انعقاد القمة وزمانها ومكانها، وبعد أن بدت مؤشرات فشل قمة تونس في الانعقاد، ألقى الرئيس الاميركي خطاباً في لندن والذي خصّصه للحديث عن تطبيق الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط. وهنا تلخيص لما جاء في الخطاب:

(عندما نساعد في بناء الحرية في الشرق الأوسط.. فإننا نساعد على إنهاء الديكتاتورية والتطرف التي جلبت الألام لملايين الناس.. وكذلك لمواطنيننا نحن.. إذا بقي الشرق الأوسط مكبّلاً بالجمود والشقاء فإنه سيكون مصدراً لتصدير الكراهية لبقية العالم. وكما شاهدنا في تفجير البرجين في نيويورك فإنه لا يوجد مكان على الخارطة يمكنه النجاة من الإرهاب. إذا انضّمت مجموعة دول الشرق الأوسط للثورة الديمقراطية التي تجتاح العالم، فإن حياة ملايين البشر يمكن تحسينها وإنهاء حالة العداء والإرهاب وقتلها في مهدها. ما يزال أمام دول المنطقة الكثير لتحقيقه، فعدم وجود حكومة مقيّدة، عدالة للجميع، حرية دينية واقتصادية، مشاركة سياسية، صحافة حرة، وحرية المرأة.. فهذه كلها أمور تقف في طريق تطوير هذه الدول. أنا لا أصدق بأن خمس سكان العالم من المسلمين لايستطيعون بناء ديمقراطية حقيقية والحفاظ عليها، فيما يعيش في الوقت الراهن نصف هؤلاء المسلمين في ظل حكومات ديمقراطية).

ولعل ما تلفت المبادرة اليه أنها تتضمن فضحاً وتعرية للنظام العربي كونه شمولياً وغير انساني، بل ان هذه المبادرة تسلب مشروعية النظام بكونه يفتقر الى مقومات الحكم الصالح، وتوصم أنظمة الحكم في الشرق الأوسط بأنها معادية للحريات الدينية والاقتصادية، وتنعدم فيها الحريات السياسية والصحافية، ويغيب فيها التمثل السياسي والمشاركة الشعبية، كما تتهم الانظمة العربية بأنها ظالمة وفاسدة. في حقيقة الامر، أن كل ما في المبادرة يوصّف النظام العربي كنموذج متخلف ويدعو الى إحداث تغييرات جوهرية في بنيته وأنه المسؤول عن ظواهر الفقر والارهاب والجريمة والتخلف والفساد الاداري والمالي والديكتاتورية الفكرية والسياسية. وهذا التوصيف يتطابق مع فحوى التشخيص الذي قدّمه دعاة الاصلاح في عدد من البلدان العربية بما في ذلك السعودية مورد الاهتمام في هذه المجلة.

 مصادر التغيير: جدلية الداخل والخارج

 إن أول ما تثيره المبادرة الاميركية من حساسية هو التغيير حين يأتي بفعل عامل خارجي (وأميركي بوجه خاص). ونشير هنا الى أن الحديث عن تغيير من الخارج ليس جديداً، فهذا الخارج يُشهر تارة كسلاح في وجه قوى التغيير المحلية، ويطرح تارة أخرى من قبل قوى التغيير نفسها امتثالاً لموقف مبدئي وايديولوجي. ولكن السؤال يبقى دائماً: ماهي خيارات التغيير وإمكانية نجاحها من الداخل؟ بالنظر الى تجارب النضال السلمي والثوري معاً في البلدان العربية والتي أخفقت جميعها في إحداث تغييرات جوهرية في أي من الانظمة السياسية العربية، فهذا الوطن الممتد من البحر الى البحر كما يصفه الشاعر مظفّر النواب سجون متلاصقة سجّان يمسك سجّان. وفي واقع الأمر، فإن التغيير بفعل عامل داخلي لم ينتج حتى الآن سوى أنظمة شمولية تستمد مشروعيتها واستمرارها من أجهزة قمعية واستخبارية وشبكة من التحالفات الفاسدة القائمة على اساس تقاسم الثروة بين فئات منتفعة.

ولأن الانظمة العربية مكّنت نفسها بفعل الاكتساح الواسع للشأن العام، والامساك بإحكام على مصادر القوة في المجتمعات العربية، فإنها مطمئنّة بدرجة كافية الى أنها قادرة على لجم أصوات التغيير الصادرة من الداخل، وقادرة أيضاً على إخماد بؤر التغيير عن طريق إستعمال الاجهزة الأمنية الباطشة التي تمرّست طويلاً في كيفية قمع التحرّكات الشعبية، الى حد أن هذه الانظمة نجحت الى حد كبير في إماتة الاحساس لدى الشعوب العربية بقدرتها على المشاركة في بناء حياة أفضل. ولذلك، فحين تتوسل الحكومة السعودية شأنها شأن بعض الحكومات العربية بخيار التغيير من الداخل تدرك بأنها ستنجح في الهروب من قدر التغيير الشامل والجذري وأنها ستقرر مقدار ما تهبه. ثم أي تغيير من الداخل وقد ضاقت الانظمة العربية حتى من النشاطات المطلبية السلمية، واعتبرتها تمس بالوحدة بالوطنية، ولكن حين يأتي التغيير من الخارج، فإن هذه التهمة تصبح ساقطة جغرافياً وسياسياً لأنها تأتي من خارج حدود الوطن، ومن قوة أكبر وزناً وأشدّ تأثيراً وتحقق ما عجز الداخل عنه، وحينئذ تصبح العمالة للخارج، والارتباط بالخارج لاغية لأن الخارج سيأتي بنفسه للداخل لا عبر اتفاقيات دفاع استراتيجي، ولا مواد استهلاكية، ولا صناعات ثقيلة وخفيفة، ولا بعثات عسكرية وأمنية، ولا مناهج تعليمية ومنظومة معرفية وفكرية، ولا انترنت ومحطات فضائية تلفزيونية، ولا ولا.. فهذا الخارج كان مرحّباً به في كل الاوقات وعبر هذه المنتجات، ولكن حين يأتي الخارج لينال من السلطة يكون مستهجناً فحينئذ يعتبر الخارج مساساً بالوحدة الوطنية والشريعة الاسلامية وباقي الكليشات الجاهزة.

ومع ذلك، فقد فضّل الخارج الاميركي والاوروبي عدم إثارة الهلع في نفوس الانظمة العربية وبخاصة تلك التي تحرّكت على نحو عاجل لتطويق المبادرة الاميركية، فقد دعمت الادارة الاميركية فكرة التغيير من الداخل على أن يكون مشروع التغيير متطابقاً مع مضامين المبادرة أو حتى مع ما جاء في (وثيقة الاسكندرية) المشتملة على كثير من النقاط الواردة في (مبادرة الشرق الاوسط الكبير).

المشكلة تكمن الآن، أن حتى التغيير من الداخل بات مرفوضاً ما لم يكن مفروضاً أو مدعوماً بقوة من الخارج.. إن كل التحركات التي تشهدها عواصم عربية من بينها الرياض تستهدف شرذمة مشروع الاصلاحات السياسية والاقتصادية، وأن سبب فشل قمة تونس التي كان من المقرر انعقادها في يومي 29 و 30 من مارس الماضي كان بسبب موقف دول عربية مثل السعودية (التي كان الامير عبد الله قرر عدم الذهاب اليها لنفس السبب) من (مشروع الشرق الأوسط الكبير).. ولا غرابة حينئذ أن تكون السعودية من بين قلة من الدول العربية التي نشطت بصورة ملفتة للنظر من أجل التئام القمة العربية ولكن بعد تصميم صيغة جديدة تكون أقل مما كان مفترضاً في الصيغة التي كانت ستطرح على قمة تونس.

 السعودية.. الاستثناء الخليجي

 لم تكن السعودية استثناء على المستوى العربي فيما يتصل بمبادرة الاصلاح، لا لكونها معنية بصورة مباشرة باجراء تعديلات جوهرية في نظامها السياسي، ولكنها إستثناء أيضاً على المستوى الخليجي أيضاً. فهي تخرج من الخليج بصفة فردية وتطل على العالم العربي دونما رصيد سياسي وثقل اقليمي، ولذلك فإن الاطلالة العربية للسعودية تبدو الآن مستهجنة ومنبوذة من أغلب دول مجلس التعاون الخليجي. فزيارة الامير عبد الله الى شرم الشيخ جاءت عقب فشل قمة تونس ولكنها زيارة محدود الاغراض ودونما غطاء خليجي، فقد تضاءلت قدرة السعودية على التمثيل الجماعي الخليجي، بل غادر الامير عبد الله الرياض دون مشايعة خليجية حيال مبادرة كان ينوي طرحها على الرئيسين المصري والسوري بغرض إعادة بعث الحياة في قمة عربية ثانية.

لم يكن الموقف الخليجي من القمة العربية موّحداً فبين من هو مع تأجيل انعقادها (مثل الكويت وقطر) وبين متحفظ أو صامت (مثل عمان والامارات والبحرين)، مع الاشارة الى التأييد العلني الذي أظهرته قطر لموقف الرئيس التونسي. ثم جاء الموقف الخليجي أكثر تشدداً حين تم طرح الصيغة الاصلاحية الثلاثية (السعودية السورية المصرية)، وكانت دول الخليج تصدر في موقفها المتشدد من رفض الوصاية المزدوجة السعودية ـ خليجياً، ومصر والسعودية وسوريا ـ عربياً، وبلغة المؤسسات رفض الوصاية السعودية على مجلس التعاون الخليجي ورفض الوصاية المصرية والسعودية والسورية على الجامعة العربية. وهذا الموقف يعكس من جهة أخرى الجبهة الخليجية المتصدّعة والتي تدفع بالسعودية للبحث عن حلفاء من خارج الاقليم الخليجي.

الى جانب ذلك، فإن السعودية تبدو النشاز الخليجي في موضوع الاصلاح السياسي، فقد سبقت دول الخليج الاخرى أن أرست أساسات لعملية دمقرطة قابلة للتطوير السريع مع البدء بتنفيذ مبادرة (الشرق الأوسط الكبير) أو حتى (وثيقة الاسكندرية).

بالنسبة للسعودية فالمشوار يبدو طويلاً في طريق الاصلاح ما لم يتم فرضه بالقوة وتحت ضغط قوى تغيير من الداخل والخارج. واذا كانت دول الخليج الأخرى قد أعربت بصورة واضحة وصريحة عن استعدادها للاستجابة لكل متطلبات التغيير السياسي كما تقترحه الولايات المتحدة أو أوروبا، فإن السعودية وحدها تعتصم بخيار الجامعة العربية وتحاول تعزيز موقفها عربياً من أجل مواجهة الضغوط الاميركية والاوروبية في موضوع الدمقرطة الشاملة. ولذلك فإن فشل الجامعة العربية ونجاحها والتئام القمة العربية أو انفراطها لا يعني كثيراً بالنسبة لبعض دول الخليج لاعتقاده بأن مبادرة الشرق الاوسط الكبير قادمة وأن دور بعض الدول العربية ما هي الا محاولة يائسة لتأجيل موعد وصولها.. فضلاً عن عدم قناعة دول خليجية بكفاءة الدور الذي يمكن للجامعة العربية أن تلعبه كما يصرّح بذلك علناً كل من الكويت وقطر.

السعودية تدرك جيداً بأنها عاجزة عن تحصيل اجماع عربي على مبادرة الاصلاح، فحتى الطرف المصري الذي تتشبث به قد سبقها في مجالا عديدة مثل: حرية الصحافة، استقلال القضاء، التشكيلات الحزبية، المؤسسات النقابية، ومنظمات المجتمع المدني، الانتخابات البرلمانية.. ولذلك، فإن السعودية تناضل ابتداءً من مرحلة الصفر الاصلاحي عربياً وخليجياً، ولا غرابة أن تكون هي الأكثر استنفاراً لانجاح القمة العربية.