تضليل الذات

ارتخاء وارتياح سعوديين مما يجري في العراق

 

على المستوى التكتيكي، تبدو مراهنة الحكومة السعودية في تفادي الإصلاحات صحيحة.

الأزمة في المملكة لا ينظر الأمراء لها بعيون محليّة، ولا لأن لها جذوراً محلية عميقة.

الداخل مهما بلغ من سوء، يمكن السيطرة عليه من وجهة النظر الحكومية.

المهم أن يحصر الموضوع في حدود الداخل، ثم يحصر الداخل في حدود المنطقة، ثم يحصر في حدود المدينة او البلدة، ومن ثمّ يمكن مواجهة كل المشاكل.

الكفاءة في مواجهة تحديات ومتطلبات الداخل ليست ذات أهمية طالما أن السلطة لاتزال موحدة وبيدها كل أسباب القوة المادية والأمنية لمواجهتها.

المهم هو ما يجري خارج الحدود. فمقاومة الإصلاح وكذلك العنف لا تبدو مشكلة عويصة إلا إذا تحدّرت أو اتحدت مع عناصر تفعيل خارجية.

ولقد أمّل المسؤولون السعوديون كثيراً في مواجهة الضغوط الأميركية والغربية، أن يتحول العراق الى رمال متحركة تعطل العقل والفعل الأميركيين عن الإلتفات اليهم ضغطاً وعقاباً وتهديداً. وهم يدركون بأن الفشل الأميركي في العراق هو فشل لكل الغرب، وهو فشل سيطيح ببوش في الإنتخابات القادمة، وسيطيح بالنموذج الأميركي في الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي يراد تصديره الى البيت السعودي خصوصاً.

تصاعد العنف في العراق خلال الشهر الماضي، وسقوط منظومة الأمن الأميركي فيه، خفف الضغط عن جيران العراق، سوريا وايران والسعودية.. وجاءت صور التعذيب الأميركي ـ البريطاني للسجناء العراقيين لتوجه ضربة شديدة القسوة ـ أكثر من المقاومة العراقية نفسها من حيث الأهمية ـ للنموذج الأميركي البائس.

لم يخف السعوديون أفراداً وكتاباً ومسؤولين فرحهم بذلك. فالحقد على السياسة الأميركية في المنطقة جعلهم يؤيدون كل حدث يصبّ في غير صالح الأميركيين، وإن كان يضرّ بهم أنفسهم أيضاً في لعبة تقاطع المصالح.

لا يهم الأمراء السعوديين كثيراً تأجج العنف المحلّي بالقياس الى المحنة التي يواجهها الأميركيون في العراق.

ولا يهتمون كثيراً بآثار الزلازل العراقية عليهم في المستقبل، بقدر اهتمامهم بالإطاحة بالنموذج الأميركي الديمقراطي من أعين المواطنين وعقولهم.

ولا تعنيهم كثيراً تبعات الوضع العراقي على حدودهم، وعلى شعبهم بقدر ما يعنيهم تبعات الهزيمة الأميركية في الوحل العراقي.

يشعر السعوديون كما السوريون والإيرانيون وغيرهم بأنهم يقفون اليوم على أرض أكثر صلابة وهم يرون (المهدد) الأميركي يتخبط في سياساته وممارساته في العراق وأفغانستان.

بيد أن الخوف من الحليف الأميركي بالنسبة للسعوديين لم ينته، فما يحدث يخدمهم على مستوى التكتيك من جهة إضعاف نزعة التدخل الأميركية في الشأن السعودي من تحقيق إصلاحات تقلص من ناتج مفرخة الإرهاب المحلية. لكن على المستوى الإستراتيجي، لا يبدو السعوديون واثقين من أنفسهم من أنهم قادرين على إعادة العلاقة مع الحليف الأميركي الى سابق عهدها، بالنظر الى تغير الإستراتيجيات وتضارب المصالح. هذا لا ينفي السعي السعودي الحثيث للتنازل في الشؤون غير السياسية المتعلقة بالوضع المحلي كتلبية طلبات اميركا من زيادة الإنتاج النفطي للتحكم بالأسعار، ودعم الإستراتيجية الأميركية في محاربة الإرهاب على المستوى المحلي وغير ذلك.

أمرٌ آخر مهم هنا.. فالسعوديون اليوم يشعرون بأنهم يستطيعون مواجهة حركة الداخل مهما بلغ شأنها.. وهذا الشعور المسيطر قد لا يكون مبنيّاً على حسابات صحيحة، ولذا حتى وإن تخلص الأمراء من الضغوط الخارجية او خففوا منها، فإن الساحة الداخلية مرشحة للتطور السلبي على كل الأصعدة، وهذا سيضعف الأمراء خارجياً، وسيكون دافعاً للمزيد من التدخل والضغط الخارجيين.

ليس من الحكمة التساهل بمشاكل الداخل، كما ليس من الحكمة تصعيد الهواجس من الخارج. فأزمة النظام في المملكة متشعّبة وعميقة وحادّة، وتلتقي خطوطها عند جذور واضحة، تستلزم تنازلاً عن الكبرياء الكاذب والتباهي بالقوة، ويكفي أن أحداث العنف تقدم الدليل تلو الآخر على أن الوضع المحلي مرشح للتصاعد السلبي، وأن اجهزة الدولة الأمنية مهما بلغت من قوة لا تستطيع أن تقدم حلاً. قد تفقد العائلة المالكة السيطرة يوماً ما على الوضع الداخلي اذا ما استمرت الأزمة في تصاعدها، واستمر النظام في فشله الوظيفي.

  العدد السادس عشر - مايو 2004