القوة.. السلطة.. الوهم والحقيقة

وائل السادة

في حفل عشاء أقيم على شرف الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية في جدّة قبل بضعة أسابيع، وحضره جمع من المثقفين وأساتذة الجامعات وبعض ممن يحسبون أنفسهم على التيار الإصلاحي، يأي التيار المطالب بالإصلاحات السياسية في البلاد. أتيحت الفرصة للجمع أن يتحدثوا، فدافع الكثير منهم عن المعتقلين الإصلاحيين وقالوا بأنهم وطنيون مخلصون وانتقدوا بشكل مبطّن اعتقالهم، ولمحوا الى ضرورة الإصلاح في مواجهة العنف. لقد أكد المتحدثون الواحد تلو الآخر على هذه القضية، هذا والأمير نايف يستمع بألم. وحين فرغ الجميع من الحديث قرّعهم الأمير وقال بما فحواه بأن آل سعود لم يحكموا الناس وفق الإنتخاب، بل بالسيف، وهاجم الحاضرين بأنهم لا يتمتعون بدعم قبلي ولا يمتلكون سلطة أو ثراءً، في حين أن آل سعود يملكون كل ذلك، وأخيراً حذرهم نايف من الحديث عن الإصلاح وقال انه يكره هذه الكلمة، وهي تعني أن هناك فساداً سابقاً للإصلاح، وطالب باستخدام كلمة التطوير مكانها. هنا همس أحد الحاضرين في أذن زميله، بأن سموه سيجد مشكلة مع الآية الكريمة (إن أردت الى الإصلاح ما استطعت) فهل سيحذف الكلمة ويضع مكانها التطوير؟ فأجابه زميله: هذا أمرٌ يسأل عنه سماحة المفتي؟!

الحكاية هذه توضح لنا الرؤية المغلوطة حول (القوة Power) مصادرها واتجاهاتها وحدود تفعيلها. فرجال الحكم السعودي من الأمراء الكبار، يطغون كثيراً في التعويل عليها، وتنتابهم حالة من الطغيان والإسراف في استخدامها أو إمكانات استخدامها. قوة السيف، وقوة المال، كما قوة القبيلة والمكانة الإجتماعية، ليست حكراً على أحد، جماعة أو دولة أو فرد، فهؤلاء جميعاً يمكنهم استخدامها، أو إيجاد ما يقابلها، او التخفيف من وطأتها.

هناك فرق بين (إمتلاك القوة) و(استخدامها) فليس كل ما تمتلكه قابل للإستخدام، فهناك دول تمتلك اسلحة نووية لا تستطيع استخدامها، وهناك دول تمتلك جيوشاً لا تستطيع أن تحرّكها.. فالطائرات الحربية مثلاً لا تستخدم في مقاومة متظاهرين؛ والمال لا يمكن استخدامه دائماً لحلّ معضلات غير مالية؛ وقوة (الفتيا) لا تفيد مع أناس لا يؤمنون بالمفتي ولا بالمؤسسة الدينية.

وهكذا فإن الفرق بين الإمتلاك والإستخدام، يعني وجود (حدود) للقوة القاهرة. وحدوداً مقابلاً (لضعف) الضحية، أو من يعتقد أنه ضحية ولا يمتلك من الأمر شيئاً سوى (الخضوع). يستطيع نايف وإخوته أن يصدروا قرارات، ولكنهم لا يستطيعون أن يفرضوا أي قرار يريدون، وقد رأينا عشرات القرارات الحكومية تتحول الى سلة المهملات، إما لعدم وجود إمكانية ذاتية للمؤسسات لتطبيقها، أو لأن الناس، قلة أو كثرة، ترفض تطبيقها. حدود القوة واستخدامها هو أول ما يجب على صانع القرار أن يدركه، وفي الحقيقة فإن الأمراء يدركون ذلك من زاوية مختلفة ولكن لا يشعرون.

فحين يفكر صانع القرار، وقبل أن يصدر قراره بشأن رفع رسوم ما، بآثار القرار من سخط شعبي وغيره، فهذا يعني تقييداً لما يعتقد أنه حقه في السلطة المطلقة. وحين يقنع الملك رجال المؤسسة الدينية بصوابية قرار يزمع اتخاذه، فهذا يعني اعترافاً بأنه ليس مطلق الصلاحية، وإن ادّعى ذلك. ومن يصدر القرار ليس بالضرورة صاحب القرار، بل هناك فئات وجماعات وأفراد ومؤسسات، تضغط باتجاه اصداره، فيكون المصدر للقرار في حقيقة الأمر مجرد موقّع، وليس صانع له.

إذا خشيت السلطة من الإعلام الخارجي الفضائي أو الصحافي، أو من منظمات حقوق الإنسان، فإن تأثرها يخدش فضاء القوة المطلقة، ويجبر المسؤول على أن يتكتم على أفعاله أو يصلح بعضها. والحال أن بإمكانه المكابرة وعدم الإهتمام ـ والأمراء بالمناسبة يقولون هذا ـ ولكنهم يتأثرون بصورة من الصور.

هناك مسألة أخرى تتعلق بموضوع القوة وعلاقتها بـ (الشرعية).. فالأخيرة تشكّل كابحاً لاستخدامها المفرط حتى مع توفرها. وبالرغم من المحاججة القائلة بأن من يمتلك القوة لا يحتاج الى شرعية، فالشرعية والقوة نقيضان، إلا أن هذا القول مردود، ففي كل الأنظمة التسلطية القائمة على شرعية غير انتخابية، لا يمكنها استخدام (السيف) دائماً، ولا بإيغال فيه عنيف. يمكنها التهديد به، مثلما يهدد الأمراء اليوم، ومثلما هددوا الشيعة في المنطقة الشرقية بقصفهم بمدافع الميدان (الذي هدد هو الأمير فهد ولي العهد حينئذ ـ نوفمبر 1979). استخدام العنف في حدوده القصوى يجعل الحياة مساوية للموت، وينتفي القتل كرادع إذا كثر المقتولون والضحايا، وتصبح المواجهة أكثر شراسة وحدّة. لايزال نظام الحكم في المملكة الذي يلوح بالسيف دائماً يعتمد في بعض من شرعيته على الوهابية، ويعتمد في بعضها الآخر على حق تاريخي مضلل، ويعتمد على بعض الإنجازات الإقتصادية المتآكلة. وبهذا لا يمكن لأي نظام في الكون أن يجعل شرعيته للقوة فحسب، ولمدة طويلة. وإن المغامرة باستخدام القوة أكثر فأكثر، يعني تآكل ما تبقى من رصيد الشرعية عند بعض الشرائح الإجتماعية.

هناك قاعدة معلومة في السياسة، وهي أنه كلما استخدمت القوة وتوسعت، كلما انخفض مؤشر الشرعية، وكلما انخفض مؤشر الشرعية تصاعد الصراع بين الدولة والمجتمع أو بين النظام السياسي والجمهور، وحينها يبطل مفعول الخوف ومفعول القوة. فالقوة ما جاءت إلا لإخضاع الآخر، وحين يتحوّل دورها الى محفّز للعنف يتعطل دورها.

إذن.. فإن تهديد الأمراء بالسيف واستخدامه، وبالمال ومفعوله، وبالقبيلة التي تساند النظام، والمشايخ الذين يشرعنون تصرفه.. كل هذا لا يعني سلطة مطلقة، ولا قدرة على الإستخدام، ولا يعني أن الآخر ـ الشعب أو الضحية ـ لا يمتلك وسائل الدفاع والقوة وأنه غير قادر على توليدها بالتنظيم وبالمال وبالعلاقات الإجتماعية والسياسية وبالإعلام وبالدين أيضاً.

يجب النظر الى هذه التهديدات، والى السيف الصدئ الذي يلوح الأمراء به، على أنها دلالة العاجز والفاشل في إدارة الدولة وفي الحفاظ على هيبتها وعلى مشروعية الحكم. التهديد طبع الفاشلين، وطبع الضعفاء، ولم يمر على آل سعود يوم أضعف مما هم عليه الآن أمام شعبهم وأمام الآخر. إن صولة الأسد تخفي وراءها مواء قط مكسّر القوائم!

  العدد السادس عشر - مايو 2004