الفتوى واليقين الزائف

 

في تشخيصه لمشكلة الفتيا، وأزمة المفتين، التي تزايدت في البلاد، وسببت الكثير من الكوارث الإجتماعية والسياسية والثقافية وحتى الإقتصادية.. كتب الأستاذ عبدالله بجاد العتيبي في الرياض (19/4/2004) أن (من أهم أسباب انحراف وظيفة الفتوى هو انتشار اليقين الزائف لدى عدد من المنتسبين للعلم الشرعي بأحقية آرائهم في المسائل الاجتهادية واقتناعهم بأنها مسائل لا تقبل الاجتهاد). وقال بأن المفتي ابن بيئته، لا يستطيع التخلص من آثارها على اجتهاداته، فيأتي تفسير النص الديني وفق القوالب الإقليمية الضيقة.

وفي المملكة فإن أكثر المفتين هم أبناء منطقة معينة، وتلامذة مدرسة فكرية واحدة طبعتها البيئة الجغرافي بطابعها. ولما كان أكثر المفتين يحرمون السفر الى الخارج، فإن اطلاعهم على الآخر والعالم يبقى محدوداً، فأسرتهم البيئة، وتوحّد بهم الفكر بقدر ما توحدوا به، وطبعوا أنفسهم ومن وقع تحت قبضتهم باجتهادات رأوا فيها الحق بجانبهم دون غيرهم، وهم في أكثرهم لم يطلعوا على ما لدى الآخر، ولم يسمعوا حجته، ولا نظروا الى بيئته وتراثه.

لهذا اتسمت الفتاوى في المملكة بالتسرّع، وبالقطعية والحدّة، وبنبذ الآخر وتجهيله وتكفيره. فاتسع نطاق المحرمات، واتسعت دائرة التكفير، واتّسع الإعتزاز بالذات فكراً وممارسة وعقيدة، دون الإلتفات الى خصوصية المنطقة (نجد)، وخصوصية (السعودية) كمكان ودولة تحوي الكثير من التنوعات والمفارقات بل والمتناقضات. الأمر الذي أوقع المؤسسة الدينية في دائرة الغلو والتطرف، وأوقع الدولة التي تأخذ بمنهجهم وفتياهم في مآزق لا تعد ولا تحصى، أثرت على علاقاتها مع دول أخرى قريبة وبعيدة.

ومع ثورة الإتصالات، وجدنا المفتين من المملكة، يخرجون الهزيل من الرأي، ويقتحمون مجالات بعيدة عن اختصاصهم، ويصدرون أحكاماً وفتاوى تضحك الثكلى، وتضيق على الناس، بل وتزيد من الشروخ بينهم. خاصة بعد أن تمّ تسييس الدين، وتعددت المرجعيات الدينية والسياسية ضمن الإطار المحلي وغيره، فصارت الفتيا محكومة ليس بالبيئة وحدها، بل وبالمصلحة الخاصة، منطقة أو حزباً أو مذهباً.

ومن هنا جاءت دعوات عديدة لترشيد الفتيا في البلاد، بعد أن كفر من كفر، وأهدر دم الكثيرين، وبعد أن طغت فتيا التحريم على كل ما عداها. ولكن السؤال كيف يكون ذلك؟

من الصعب حصر الفتيا في مجموعة أفراد. ومن الخطأ حصرهم من بيئة واحدة، ومن تيار مذهبي واحد. فالشعب متنوع الانتماءات، ولا يمكن أن يحكم بفتاوى أقلية تحكم المجموع. فإما أن يفتح باب الإفتاء الى الجميع، أو يطعموا المؤسسة الدينية، أو يحدثوا لهم مؤسسات جانبية. وإن الدولة اليوم وهي تمر بمآزقها المعروفة، لهي معنيّة بعدم توريطها بمذهب، او بفتوى محددة تنسف الكثير من مصالح مواطنيها.

  العدد السادس عشر - مايو 2004