العدد 17 يونيو 2004

رؤية ملكية في مواجهة العنف

بندر بن سلطان: يجب إعلان الجهاد

محمد علي الفائز

 

كيف ترى العائلة المالكة مستقبل معركتها مع العنف؟ وأين موقع الإصلاحات السياسية والإجتماعية من استراتيجية مكافحته؟ هذا المقال يقرب الصورة ويسلط الضوء على العقلية الملكية التي تدير الأزمة

يستطيع المراقب السياسي لمشهد العنف المحلي المستمر أن يحدّد ملامح السياسة الحكومية في مواجهة العنف والتطرف. سيكتشف بسهولة أن العائلة المالكة لا تميل الى مهادنة ولا الى تصالح بل الى استئصال من تسميهم بالإرهابيين والخوارج والذين لا يعدو أن يكونوا فئة ضالة شاذّة متطرّفة خارجية الى آخر التوصيف الحكومي. وسيكتشف المراقب أن الحكومة تعتمد اعتماداً شبه كلي على رجال المؤسسة الدينية الرسمية السلفية في حشد الشارع ضد أعداء السلطة والمجتمع، بالرغم من أن التشخيص العام والمجمع عليه بين النخب في المملكة يفيد بأن دعاة العنف خرجوا من عباءة المؤسسة الدينية، ومن الفكر السلفي بتفسيره الوهابي المتشدد، وبالرغم من أن أطيافاً عديدة من ذلك التيار لاتزال إما على الحياد أو تدعم دعاة العنف، او تلتمس لهم الأعذار في الممارسة. يبدو أن الحكومة تريد أن تواجه العنف السلفي بشرعية سلفية مضادّة، وهذا يفقدها القدرة على حشد الشارع السعودي، خارج الإطار المذهبي الرسمي. ومع غياب الإصلاحات السياسية وضعف الإنتماء الوطني، فإن قدرة الحكومة والهوية القائمة على حشد الشارع على أسس وطنية تميل الى الضعف، حيث يميل الشارع السعودي الى اعتبار المعركة داخلية بين أبناء البيت الواحد (النجدي ـ السلفي).

إذن لا تخرج معالجة الحكومة للعنف عن إطاري استخدام القوة والقبضة الحديدية من جهة، ومن جهة اخرى تقوم بحشد الشارع على أسس دينية مع جرعة ضعيفة من المشاعر الوطنية، كيما توفر للسلطة شرعية القضاء على العنفيين، واستجلاب العواطف المتضامنة من الشارع السعودي مع العائلة المالكة.

هذا هو الملخص البسيط لكل القضية!

وهذا التلخيص يكشف عن أزمة أكبر، إذ تبدو المراهنة على هذا الحلّ كبيرة من قبل العائلة المالكة، وهي مراهنة يمكن للساذج سياسياً ـ ولا نقول لرجل الدولة أو لصانع القرار ـ أن يرى عوارها وبوارها قبل وبعد البدء بتنفيذ مثل هذه الإستراتيجية التي قد تفاقم من الأزمة وتوسعها، وتزيد من الصراع على أسس أيديولوجية وتوسع مساحة الجدل حول تفسير النصّ الديني، إضافة الى أنها حتى في حالة النجاح ـ وهو أمر لن يحدث، نقولها بضرس قاطع ـ فإن الإعتماد على  ذات الفكر المتطرف سيولد أزمة قادمة، كما أشار الى ذلك بحق الأستاذ محمد علي المحمود.

من المؤسف أن النخب السعودية على اختلاف توجهاتها ومستوياتها عبرت عن رأيها في الحلول الأمنية والدينية لمشكلة العنف، وقد نشرت مئات المقالات خلال العامين الماضيين تحث الحكومة على تبنّي استراتيجية صحيحة في المواجهة (الى جانب خيار القبضة الحديدية) وبينها إيجاد تغيير ثقافي كبيرلا يعتمد على السلفية ـ الوهابية القائمة التي تنطوي على مخزون هائل من العنف الذي يمكن أن يدمر المجتمع والدولة؛ إضافة الى الحلول السياسية القائمة على الإصلاح؛ وكذلك الحلول الإجتماعية، وهي كلها تصب ضمن الإستراتيجية الأمنية بعيدة المدى للقضاء على منابع التطرف والعنف وتفكيك بنية الإرهاب في المملكة.

من المؤسف حقاً أن كل هذا تمّ اختزاله وتجاوزه الى حلول ترقيعية، بل الى حلول انفجارية، لا تخمد نيران اللهب، بل تزيدها اشتعالاً. ومن المؤسف أيضاً ان المواجهة تتم بلا خلفية استراتيجية، وكأن النصر مضمون وحليف الحكومة على كل حال مهما طال الزمن، ولو بعد 35 عاماً، كما قال الأمير عبد الله ولي العهد! ومن المؤسف أكثر، أن النخب في المملكة لم تعد تمتلك الجرأة في الضغط على الحكومة لتغيير مسار المواجهة العنفي الذي يدفع المواطن يومياً ثمنه من أمنه واستقراره ومعاشه، الى مسار أكثر وضوحاً ومتلبساً بالإصلاح السياسي والإجتماعي.

لا يبدو أن بين الأمراء من يمتلك نظرة استراتيجية حصيفة لقضية العنف ومؤدياتها المتصاعدة. ولا يبدو أنهم ـ على الأرجح ـ في وارد سماع الرأي الآخر في هذه القضية. بل أن من يعتقد بأنهم واعون بين الأمراء، يزيد الطين بلّة، ويقلب عاليها سافلها، ويؤكد على المضي فيما هو قائم من سياسة فاشلة واضحة البطلان، وكان المنتظر منهم والمتوقع رأياً حصيفاً يتناسب مع ما يعتقد انه خبراتهم واطلاعهم!

لن نأتي هنا بآراء الأمراء الكبار، فقد أكدوا بعد أحداث الخبر وبشكل ممل بأن سياسة القبضة الحديدية مستمرة، ولم يتطرق أحدٌ منهم للإصلاح كرديف للحل. لم يطلق سراح الإصلاحيين، ولم نرَ انفتاحاً في الصحافة، ولا الوجوه النخبوية التي تناقش مثل هذه القضايا على شاشات الفضائيات، والتي قُمعت وأسكتت، أو انزوت مفسحة الطريق لممثلي وزارة الداخلية للحديث مكانهم في الموضوعات والوسائل الإجرائية، من ألوية متقاعدين، وعسكريين فاشلين، وبعض الصحافيين المرتبطين بوزارة الداخلية، الذين لا يستطيعون (الخروج على النص الرسمي) ولا يدركون أيضاً تعقيد المشكلة وخطورة الإستجابة للحلول الآنية والإستثنائية العسكرية.

مثالان جديدان يمكن ان نضرب المثل بهما في هذا الشأن، الأول جاء من تركي الفيصل، سفير المملكة في لندن. فالرجل رغم أنه أمضى عقدين ونصف كرئيس لدائرة الإستخبارات السعودية، فإنه خرج علينا في تلفزيون البي بي سي يوم 31/5/2004 مبشراً بقرب نهاية العنف في المملكة، وأن الإرهابيين يلفظون أنفاسهم الأخيرة! ولكن كيف، والعمليات تتصاعد؟

يرى الأمير، أنه لا يوجد في المملكة سوى ست خلايا عنف، وقد استطاعت السلطات الأمنية تفكيك خمس منها ـ قالها بشكل واثق وصارم ـ ولم يبق سوى هذه الخلية التي قامت بتفجير الخبر! والمعنى الذي أراد إيصاله للمشاهد البريطاني وحول العالم، بأن نهاية العنفيين قد قربت، وأن ما جرى في الخبر سيكون (آخر الأحزان). وبرر ذلك بأن الإرهابيين لا يستطيعون إلا مهاجمة الأهداف اللينة، أما حقول النفط وقصور الحكم فهي حصون منيعة!

يقدم الأمير قراءة شديدة الإبتسار والسطحية للوضع الأمني في المملكة، وهذا أمرٌ مؤسف بالنظر الى أن هذه الرؤية تصدر عن قناعة، فهي ليست كذبة متعمدة قُصد منها التضليل، وهي تكشف مستوى تعامل الطاقم الأمني مع حدث خطر كالذي نشاهده كل بضعة أيام. لربما هناك تفسير مختلف لدى الطاقم الأمني حول معنى (الخلية) وحول (حجمها) مع علمنا أن هذا الجهل غير مبرر، ولكن ما يصدم المحلل هو النتائج التي توصل اليها الأمير، بأنه لم تبق سوى خلية واحدة، هي التي تقوم بكل الأفعال العنفية من شرق المملكة الى غربها ومن عاصمتها الى شمالها! ولا نفهم من التأكيد القاطع بهذا الأمر من قبل الأمير، إلا أنه جاهل بما يجري، وجاهل بعمل الخلايا، وجاهل بأنها تتناسل وتتكاثر حسب البيئة والمناخ! ولو تتبعنا خطابات وبيانات زعيم القاعدة في السعودية، فإننا سنكتشف انه يتحدث عن خلايا عديدة تتكون من أربعة اشخاص تقوم كلٌ منها منفردة بهجماتها.

ومن الطبيعي، فإن الأمير تركي الفيصل، كما الطاقم الأمني ـ إن كان يتبنّى هذا التحليل المأساوي، ونظنّه كذلك ـ يرى الحل الأمني خياراً ناجعاً، كيف لا وقد قضى على معظم المشكلة وفكك كل الخلايا عدا واحدة. هذا التحليل هو الذي يدفع بالمقربين من الحكومة الى تكرار القول بأن ما يجري من هجمات (مجرد محاولات يائسة) وأنها تشبه (حشرجة الموت) ولم يتبق إلا المزيد من المواجهة حتى يتم القضاء عليها!

ونظن أن الأمير تركي قد يفقد مصداقيته، بمجرد أن تعود دوائر العنف الى التفعيل من جديد، خاصة وأن محاوره البريطاني تفاجأ من كلامه، فأعاد السؤال مرة أخرى فأكد الأمير الأمر: (خمس خلايا انتهت وبقيت واحدة).

المثال الآخر الذي يكشف عن العقلية الملكية في إدارة أزمة العنف والمجتمع، المقالة التي كتبها الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في واشنطن، في جريدة الوطن السعودية (1/6/2004) تحت عنوان: (سوف نخسر حربنا ضد الإرهاب، إلا إذا..)!

و (إلاّ إذا) هذه أوضحها الأمير بندر وحددها ـ مشفوعة بعشرين عاماً من الخبرة العسكرية كما يقول ـ في التالي:

- توسيع رقعة المواجهة مع العنف وتجنيد كل إمكانات الدولة والمجتمع (سياسية ومالية وعسكرية وأمنية ودينية) في سبيل ذلك، يقول: (كلما أديرت الحرب بقوة وبسرعة وبعناد وإصرار قلت الخسائر. ولكن هذا يعتمد في الأساس على التعبئة العامة للحرب. وأنا شخصيا أعتقد أنه لا الدولة ولا المواطنون وصلوا لهذه المرحلة الهامة والأساسية والضرورية لكسب هذه الحرب، وهي مرحلة التعبئة العامة للحرب، فكراً وعملاً، خاصاً وعاماً، إعلامياً وثقافياً وتجنيد كافة مؤسسات الدولة والقطاع الخاص لهذا الهدف، والتعامل مع كل شيء في حياتنا اليومية على أساس أننا في حرب). وتابع بأن النصر لن يتحقق بالدعاء على الإرهابيين فحسب، ولا بالآمال والعاطفة فقط، بل بإدارة الحرب بكل ما تعنيه من كلمة، والحرب ـ حسب الأمير بندر ـ (لا تعني معسكر كشافة... لا تعني الرقة بل القسوة. هي الحرب التي لا يمكن أن تنفذ على أساس وصف المارقين بأن بهم غفلة الصالحين بل على أساس أن هؤلاء إرهابيون وعدوانيون ولا حل وسطاً معهم. فإما أننا مؤمنون أننا على حق وبالتالي قتالهم وقتلهم فرض... أو أنهم هم المؤمنون لا سمح الله ونحن الضالون دولة وشعباً). وأشار الى أن طرفاً واحداً يمتلك الحق في المعركة، والمجتمع لا خيار له إلا واحداً من الخصمين: (سوف ننقسم إلى قسمين، الأول معنا كدولة... والثاني معهم كمارقين خارجين على الدين، وهنا يجب أن نصر أن على الجميع الاختيار ما بين الحق الذي نؤمن أننا عليه والباطل الذي نعتقد أن المارقين عليه).

- إعلان الجهاد الداخلي ضد العنفيين: فرغم أن القاعدة المتبعة في البلاد أن (ولي الأمر) هو الذي يمتلك حق إعلان الجهاد ضد (الخارج) فإن الأمير بندر يطالب العلماء بأن يطلبوا من الملك إعلان الجهاد (الداخلي) أي بين المسلمين المواطنين! يقول: (أعتقد وبكل تواضع واحترام أن على علمائنا الأجلاء الكرام دعوة ولي الأمر لإعلان الجهاد على هؤلاء الخوارج، وتأييدهم المطلق له في ذلك، بل الإصرار على ذلك).

أخطر من هذا كلّه، ما ورد بعد هذا من مقاربة تاريخية لأحداث العنف، تلخص في الحقيقة الجواب على تساؤل: لماذا تميل العقلية الملكية الى العنف والنفير العام والجهاد! ـ مثلما يطلب العنفيون ـ وتقسيم المجتمع الى فسطاطين (معنا أو ضدنا، مع الحق المدّعى أو مع الباطل المتهم)؟ إن الأمراء يميلون الى المقاربات التاريخية التي حدثت في بلادهم، ولا يميلون الى دراسة التجارب الحديثة ولا العلوم الحديثة التي تكشف أن هكذا نوع من الحلول الموتورة غير متاحة في الأصل فضلاً عن أن تسفر عن نتائج إيجابية بدون ثمن باهظ جداً. المقاربة التي يقدمها الأمير كالتالي:

(أعتقد أن هذه الأزمة سهلة صعبة. فإذا واجهناها مثلما واجهها الملك المؤسس المؤمن عبدالعزيز في معركة السبلة ضد من حملوا نفس تفكير هؤلاء الخوارج فهي سهلة. وإذا واجهناها بالتردد والأمل بأن هؤلاء شباب مسلم مغرر بهم... والحل أن ندعوهم للهداية على أمل أن يعودوا لوعيهم فإننا سوف نخسر هذه الحرب... وندخل عالماً مظلماً. لا أعتقد أن هؤلاء الخوارج أقوى من الذين حاربوا ضد الدولة في معركة السبلة، كما أنني أجزم أن الدولة أقوى في وقتنا هذا من الدولة وقت المرحوم الملك المؤسس). والنتيجة التي يخلص لها الأمير هي: (النصر لنا... شرط أن نعلن التعبئة العامة لمواجهة هذه الحرب. وإن لم نعلن التعبئة العامة.. فسوف نخسر الحرب ضد الإرهاب).

نشعر بالأسى إزاء هذا التحليل السقيم الذي لن يقود إلا الى الحرب الأهلية. نشعر بأسى أن الجهاد يوضع في غير موضعه. ونشعر بالألم بأن المجتمع لا يمكن أن يُحشد ضد الإرهاب في ظل انسدادات سياسية واجتماعية، كما لا يمكن لدولة أن تحشد مواردها ـ بل وموارد القطاع الخاص كما يريد الأمير ـ لكي تتوجه للحرب على الإرهاب.. بل ونشعر بالمصيبة أكبر من جهة المقاربة التاريخية المغلوطة بين وقعة السبلة (التي كانت حرباً نظامية) وبين ما يجري اليوم من مواجهة هي أقرب الى (حرب مدن) منها الى أي أمر آخر. ما يدعونا اليه الأمير وما يدعو العلماء السلفيين اليه، هو اقتحام دهاليز العنف والدم أكثر فأكثر، دون الإلتفات الى مقدمات العنف الفكرية والسياسية والإجتماعية، ودون النظر الى سنن الله في السياسة والإجتماع، ودون فهم لطبيعة المجتمع.

كلا.. لا نريد أن ندخل هكذا نوع من الحروب، التي نحن نعلم أنه لا يمكن أن يخرج منها منتصر إلا والجراح تمزق جسمه.

لا نريد حرباً ملكية لمجرد أن الأمراء لا يريدون الحلول الأخرى التي تستدعي تقديمهم بعض التنازلات السياسية.

لا نريد أن يجرونا الى حرب طاحنة غبيّة تذهب بشبابنا وأموالنا وتكون نهايتها أن يبقى تسلط العائلة المالكة وظلمها وجبروتها واستبدادها وبغيها وفسادها!

لا..

هناك حلّ آخر: الإصلاح السياسي الهيكلي. والإصلاح الإجتماعي التنموي، فليس من المعقول ان يعيش نحو 60% من المواطنين تحت خط الفقر في بلد من أغنى بلاد العالم؛ والإصلاح الفكري والقضاء على الواحدية في الرأي وقطع الإحتكار الديني المذهبي الذي فاقم الأزمة.

نعم نريد حلاً للعنف على حساب الفاشلين من مسؤولي الدولة.

نريد حلاً لا يعمّق مصيبة المجتمع بالمؤسسة الدينية المتطرفة فيزيد من سلطاتها وعنفها ضد الآخر.

ونريد حلاً يخفف من سلطة العائلة المالكة السياسية، ويمنع تجاوزاتها المالية التي أفقرت البلاد والعباد.

ونريد حلاً يدفع الحاكمون تكلفته، من العائلة المالكة ومن المؤسسة الدينية، كونهم من أنتج العنف ورباه وساهم ولايزال في تغذيته ورعايته. ولا نريد أن يداوونا بالتي هي الداء، ويطحنوننا في حروب داخلية تبقيهم أئمة هداة على أشلائنا.

إذا كان ولا بد أن يدخلوا تلك الحرب التي ينظر لها الأمير بندر، فليدخلها الأمراء، فهم يزيدون على الثلاثين ألفاً! ليجاهدوا شعبهم هم ومن يناصرهم، وليخلعوا أشواكهم بأنفسهم!

سنرفض هذه الحرب، وهذا الجهاد المفترى الذي دعا له المفتي من قبل، لأنه يتجاوز حقوقنا كمواطنين بل وكبشر. وحين نستعيد حقوقنا ستكون هذه الحرب وهذا الجهاد المزعوم عبثاً في الوقت الضائع.