العدد  18 يوليو 2004

 

القناعات الدينية: معول هدم

مرتضى السيد

لا أحد بين مجتمعات المملكة من يمتلك الجرأة اليوم ليوجّه نقداً الى الدين؛ فالجميع يقدّسه، كما تقدّس الأكثرية التفسير الديني نفسه، فضلاً عن تقديس من يقوم بعملية التفسير. والتفسير الديني الرسمي اليوم، أي بنمطه الوهابي، يلعب دوراً بالغ الخطورة في تفتيت أسس التلاقي المجتمعي، فهو يتولى جملة من الأدوار تصبّ كلّها في إطار التمزّق والتذرّر:

1 ـ التنميط: تقدم الوهابية رؤيتها المشوهة للآخر، فترسم صورة لدى أتباعها عنه ـ أي عن الآخر ـ بالغة البشاعة، تختزن كل المفردات السلبية التي يمكن أن يتصورها العقل، وتقدّمها على شكل (عقيدة) دينية، لا يجوز الزحزحة عنها، ولا يمكن اجتثاثها بين يوم وليلة، كونها قد نفذت الى أعماق ونفسية جماهيرها (النجدية بشكل خاص) بمن فيهم من يصنّفون بـ (العلمانية) وبمن فيهم (رجال الحكم) أنفسهم. على مدى ثلاثة قرون، غرست صور التنميط وتكثّفت وأصبحت جزءً من المعتقد، يصعب معها التراجع سواء كان بالنسبة للأفراد أو للقيادات الدينية لأنه تخلّ عن عقيدة وتراث وشخصيات راحلة وأخرى حاضرة يقتدى بها. إنه تخلّ عن فكر وعن نمط حياة وعن مشاعر تداخلت كلها فصاغت عقول وشخصية أجيال وراء أجيال، وبُني على أساسها كيانات سياسية، وأُزيلت أخرى، وأُهدرت دماء، وأُقيمت مذابح. لهذا فالتراجع عن الفكر مسألة صعبة للغاية، لأنه يحمل في طياته إدانة للماضين، من علماء ومقاتلين ورجال حكم. إنه إدانة لتاريخ مضى، وطعن في عقائد هي ما تميّز الوهابية نفسها عن غيرها.

2 – التحريض والتحفيز: الدين قوّة ساحرة، والتفسير الديني قادرٌ لأن يجعله أكثر سحراً للأتباع، وأعظم محرّك لهم، سواء في التعمير أو التدمير. والوهابية أثبتت عظيم قدرتها على تحريض الأتباع، وتحفيزهم، فأقاموا الدولة ـ دولتهم ـ على أنهار من الدم والأشلاء؛ ولم تفقد الوهابية سحرها وقدراتها بعد قيام الدولة، فاستمرت في تعصّبها وزوّدت بأدوات الدولة، كيما تستمر في توفير الغطاء للنظام السياسي الجديد، وكيما يواصل الأتباع حروبهم الداخلية بوسائل أخرى مع نظرائهم في الخلق، إن لم يكونوا نظراء لهم في المواطنة، أو الدين. والفكرة المتعصبة تمتلك وهجاً وجاذبية في البيئة النجدية، وربما في غيرها من البيئات المريضة بداء التطرّف والإنغلاق.. ولذا يستغرب المرء اليوم كيف أن أفكاراً تكفيرية ما تقبل كمسلمات، وأفعال مشينة أخرى ترتكب بوازع ديني وفق تفسيرات غريبة.

بيد أن هناك نقطة لا يلتفت اليها الكثير من المواطنين، وهي أن الوهابية بقدر ما تحرّض أتباعها على الآخر المختلف مذهبياً، فإنها تستفزّ المحرّض عليه وتعطيه المبرر للقيام بتحريض مقابل، وهو ما يحدث فعلاً على الأرض منذ أن قامت الدولة وحتى اليوم. وكما تتضمّن الوهابية زخماً عقائدياً قادراً على التنميط والحشد الجماهيري، فإن الثقافة المذهبية/ الدينية لدى الآخرين تستفزّ فتستنفر المسكوت عنه والمكنون في طياتها لتقوم بتحرّك مضاد لأتباعها. فالتحريض والحشد صفة تتسم بها كل العقائد والأيديولوجيات السياسية والدينية، وتأكيد هذه الصفة رهين بالأجواء وبإرادة المجتمع. قد تنشأ عن رد فعل، وقد تنشأ بشكل متعمّد لتحقيق أغراض محددة. وإذا ما توافرت البيئة والإرادة فإن العقائد ـ حتى شبه الميّتة منها ـ يمكن إحياؤها، وهناك من التجارب في بلدان العالم ما يفيد بهذا.

3 ـ الإقصاء: وهي مسألة طبيعية تأتي كناتج للتنميط والتحريض؛ فالفكرة الدينية الوهابية إقصائية بطبعها، كونها ترى نفسها ممثلة للحق، ليس هذا فحسب بل ترى غيرها على غير هدى بشكل قاطع لا تردد فيه. والإقصاء وإن كان هدفاً سياسياً تقوم به السلطة والنخب النجدية، ولكنه هنا يأتي وفق مظلّة شرعية توفرها الوهابية، ولو لم توجد هذه المظلة لوجد غيرها. وبهذا تتحول الوهابية الى مخلب للسياسي النجدي يبرر بها خطواته السياسية دون أن يتحمّل في الظاهر إثمها! ويخطئ من يظنّ ان الوهابية تقصي المختلف مذهبياً فحسب، فهي بروحها المناطقية شديدة التكثيف، تقصي الآخر على أسس مناطقية أيضاً، بل ولا تعامل أتباعها الذين ينتمون الى مناطق مختلفة على أساس القاعدة الدينية فحسب. ومن هنا فإن توفير مسوغات الإقصاء لدى النخبة النجدية أعلى ما يكون حين تندمج المناطقية مع الدينية مع سمو المحتد قبلياً او عرقياً.

والإقصاء كظاهرة شديدة التورّم والوضوح في المملكة، تخدم الوهابية وتخدم النظام السياسي على حد سواء، ولكن في المدى التكتيكي فحسب. فالإقصاء يولد الإنطواء والعزلة لدى (المقصين) ويولد مشاعر التميّز لديهم كما لدى من يمارس الإقصاء سواء بسواء، وهو في المحصلة يولد مشاعر الإغتراب والإنفصال لدى الجماعات المهمّشة، بشكل يؤدي في النهاية الى إضعاف بنيان الدولة، والنظام الحاكم نفسه في المدى الاستراتيجي.

4 ـ الحرب والعنف والتقسيم: وهي الخطوة الأخيرة التي وصلت اليها الأوضاع في المملكة اليوم. وإذا كان مؤشر العنف قد اتخذ مسار مواجهة الدولة، فإنه لن يلبث أن يعود الى وجهته القديمة بمجرد أن يستشعر أتباعه أن (ضحايا الوهابية) قد بدأوا بالوقوف على ارض صلبة للمطالبة بحقوقهم، وأن الحكومة قد تقوم ـ في خطوة تكتيكية ـ بانتهاج سياسة أقلّ طائفية وتمييزية. ولعلّ الحكومة تشعر بأن المارد الوهابي خرج عن السيطرة، وأن إصلاح علاقتها مع شرائح أخرى من شعبها، قد يزيد المتشددين العنفيين مبرراً لمواجهتها.

واذا كان ينظر الى الدين كموحد ورابط ومسيج للمجتمعات، فإن نسخته السعودية المتشددة اليوم تثبت أنه يمكن أن يتحول الى معول تقسيم وهدم وحرب، داخل المملكة كما في خارجها، ولعل الشواهد الحاضرة في العراق وأفغانستان والشيشان وغيرها ما يكفي للدلالة على ذلك.