العدد  18 يوليو 2004

 العلاقات السعودية ـ العراقية: الإستحالات والتحولاّت

التحرير

 

وضع العراق في الثامن والعشرين من يونيو الماضي قدمه الأولى على طريق السيادة الكاملة مفتتحاً ذلك بتشكيل حكومة المرحلة الانتقالية، مع أمل وطيد لدى الجميع بإعادة بناء الدولة العراقية على أسس جديدة وفي ضوء معاييرمختلفة تقوم على حكم القانون، والديمقراطية، والتعددية والمشاركة الشعبية.

ومهما تباينت وجهات النظر حيال المنهجية المتبّعة في بناء العراق السياسي والثقافي والانساني،  يظل هذا البلد العزيز إحدى القلاع الحصيّنة للأمة العربية والاسلامية، كما يمثّل مركز إشعاع ثقافي وحضاري علاوة الى كونه قوة إقتصادية كبيرة، ومن جهة ثانية يعتبر العراق دولة جوار بالغة الأهمية تملي بشدة إيلاء العلاقة معها درجة عالية من الاهتمام، إحرازاً  لقائمة أهداف استراتيجية مشتركة، من بينها تحقيق الاستقرار السياسي والامني على المستويين المحلي والاقليمي الى جانب الاهداف الاخرى الحضارية والفكرية والانسانية.

إن هذه المعطيات تفرض علينا قراءة نقدية واعية للعلاقات السياسية السعودية العراقية من منظور راهني مشفوعاً بتحليل لالتباسات الماضي واخطائه، مع مراعاة المساحة المقررة لهذه القراءة إذ تظل هناك حاجة دائمة لوعي محّركات العلاقة وأغراضها. 

نحن ندرك تماماً بأن حركة السياسة الخارجية السعودية أصيبت بنكسة كبيرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الى جانب إنحدار الاوضاع الاقتصادية والأمنية والتي تطلبت تركيزاً شديداً على مشكلات الداخل. إن هذه التحوّلات عكست نفسها بقوة على الصورة الخارجية للدولة السعودية إذ بقيت الاخيرة أسيرة الانطباع الذي صنعته أحداث نيويورك وواشنطن باعتبارها وكراً للارهاب والتطرف الديني ما دفع بها لأن تكرّس جهودها الدبلوماسية لاطلاق حملة علاقات عامة بهدف ترميم سمعتها الدولية، وقد استهلكت هذه الحملة جزءاً جوهرياً من الطاقة الدبلوماسية السعودية الى درجة ضنّت بجهود أخرى عن التوظيف في ترميم علاقاتها الدبلوماسية على المستوى الاقليمي.

لقد تركّزت الحملة الدبلوماسية السعودية في الفترة القريبة الماضية على الساحة الأميركية بدرجة أساسية، فيما كانت جماعات العنف تمارس دور البديل عن وزارة الخارجية، من خلال حضورها الكثيف والمدوّي في ساحات عربية ودولية هامة. فقد سبق وصول الوفد الدبلوماسي السعودي الى العراق بعد سقوط النظام السابق، شاحنات انتحارية وأحزمة ناسفة سعودية، الى جانب المشاركة السعودية الفاعلة في أحداث العنف كما تعكسها بصورة شديدة الوضوح أشرطة مصوّرة يطلق خلالها سعوديون بلهجة نجدية بيانات الخطف والقتل.

كان الأمل أن تستوعب بلادنا الدرس العراقي جيداً قبل أن تنتهي الفترة المقررة، وقبل أن يكسو الشك والريبة صفحة العلاقة السعودية العراقية في انطلاقتها الجديدة.

إن الدعوات التي أطلقت في السر والعلن لأفراد التنظيم الجهادي التابع للقاعدة في الجزيرة العربية من أجل نقل عملياته الى العراق تجنيباً البلاد بلاء شديداً، وكأن العراق مكب نفايات لمعاملنا الارهابية، أو أن أبناء العراق ومنشآته مستباحة الى حد اطلاق العنان لكل النزعات الشريرة كيما تحقق ما تصبو اليه هي دعوات بالغة الخطورة، لا على العراق وحده بل على الذات بدرجة أساسية، فحين يصبح الآخر مسلوب الكرامة مهدور الدم تبدو العلاقة معه عرضة للانهيار في أي لحظة لأنها قائمة على أساس نزع الحق ونفي الحرمة.

قد يكون التعويل على عراق مضطرب يدرء عن المحيط المجاور تبعات نجاح نموذجه السياسي الديمقراطي القادم ممكناً في مرحلة سابقة على اعتبار أن العراق سيكون قاعدة ينطلق منها مشروع شرق أوسط جديد ترسمه الولايات المتحدة، ولكن هذا التعويل لم يكن يمنع من فتح قوسين للتفكير في العلاقة مع العراق ـ الدولة والمجتمع وبعيداً عن المشاريع السياسية، سيما وأن بقاء العراق مضطرب لن يدوم طويلاً، فضلاً عن أن إضطرابه لن يحول دون انتقال تأثيراته على دول الجوار، مع التذكير بأن خيار نقل المعركة الى داخل الدول المجاورة المتورطة في  حوادث العنف في العراق ظل قائماً بل وراجحاً وقد عبّر عنه صراحة أكثر من مسؤول عراقي رفيع المستوى بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الداخلية.

إن قرار أعضاء الحكومة الانتقالية في العراق القاضي بمعارضة مشاركة قوات عسكرية من دول الجوار في حفظ الامن والاستقرار داخل العراق هو قرار يحمل دلالة ورسالة، فهؤلاء يدركون بأن دول الجوار تشارك عملياً في تفتيت الوحدة الداخلية واضطراب الاوضاع الامنية، ولدى أجهزة الأمن العراقية من الوثائق الدامغة ما يثبت تورط هذه الدول في عمليات تخريب لمنشآت حيوية ونفطية واغتيال شخصيات سياسة ورسمية وتمويل لعمليات تفجير في مناطق مختلفة داخل العراق، وفي نظر هؤلاء المسؤولين فإن دول الجوار تستفيد من وتسعى في الوقت نفسه الى إبقاء دوامة العنف والاختلال الامني لأمد أطول، وبالتالي فإن مشاركة قوات من هذه الدول تعني إضفاء مشروعية على تخريب الوضع الداخلي من قبل هذه الدول وتسهيل مهام المجموعات التخريبية الداخلية.

يلزم القول بأن الاستثمار السياسي في العراق في الفترة الراهنة خيار استراتيجي، كما أن العمل الدبلوماسي يظل لعبة اتفاقية في المقام الأول، ولابد من رصد وحشد العناصر المشتركة في هذا العمل الشاق. إن التاريخ الحالي في العراق ليس بالتأكيد لصالح بناء علاقة صلبة وراسخة الجذور مع العراق، لأنه تاريخ مليء بضروب المكر والهدم خلف الكواليس والمشاحنات والمكائد والمناورات. إن هذه العناصر تحذّر من تفاقم التوتر في العلاقة أكثر مما تزرع اطمئناناً وثقة في الطرف الآخر فيها، أي العراقي.

إن المنتصر الحقيقي هو الذي يقترف القدر الأدنى من الاخطاء، أي الذين كان الافضل في استغلال فرص النجاح وتفادي الاخطاء قبل وقوعها وتصحيحها فور وقوعها، وأن العراق في الوقت الراهن تحوّل الى ساحة اختبار الكفاءات السياسية والدبلوماسية للدول، وحتى الآن تبدو ايران رغم قصر تجربتها الدبلوماسية والسياسة الأخيرة الطرف الأقدر على ادارة اللعبة بذكاء بالغ، بالمقارنة مع دول عديدة دخلت العراق عبر اطراف داخلية أو خارجية وحملت اليه مشاريع سياسية من نوعا ولكنها ذات أبعاد خارجية متعارضة مع مصالح الشعب العراقي.

إن كل الذين تورّطوا في مستنقع العنف داخل العراق أو شاركوا في الحرب الاهلية الداخلية سوف يكتووا بنار هذه الحرب، وقد تتسبب الاخيرة في ضياعهم لأنهم يشاركون فيها دون حسابات دقيقة لقواهم الحقيقية ولا لقوة استراتيجياتهم العسكرية. إن الخطأ السياسي لاشك قاتل وخصوصاً حين تكون اللعبة مصبوغة بالدم، ولذلك فإن ثمة خيارات انتحارية تقدم عليها بعض الدول دون وعي بنتائجها الكارثية، وإن هناك مواقف تاريخية منتظرة من أجل تصحيح الخطأ القائم وتقليل وقوع فرصة الخطأ القادم، وهذا يتطلب انضاج استراتيجية واضحة في العلاقة مع الدولة العراقية الجديدة، تقوم على الكف عن وهم الذات وخداعها بأن التاريخ قابل لأن يطوى سريعاً وتنسى حوادثه وبالتالي فإن البدء في العلاقة مع الدولة الجديدة من أي نقطة سيكون كالبدء من أي نقطة اخرى. يجب أن ننقطع عن خداع انفسنا وتضليلها بفكرة واهمة من هذا القبيل، فالتاريخ الذي يطوى هو التاريخ الذي يكون فيه اختلال ميزان القوى شديداً وهو اختلال غير قابل للدوام، وخصوصاً في ظروف اقليمية ودولية كالتي نشهدها الآن. وهذا يتطلب ان نعي الاخطار المستمرة لضروب التوتر والعنف في العراق لأن انعكاساتها على المدى القريب والبعيد لا تبعث على الاطمئنان بأي حال، ويجب أن توضع هذه الاخطار في سياقها الموضوعي والتاريخي.

إن الشرط الجوهري في العلاقات القادمة مع الدولة العراقية هو محو الصورة النمطية عنه، مع التشديد هنا على أن الأمر لا يدور فحسب حول تهديم الصورة من أجل تشكيل صورة بديلة، بل الأمر يدور محوّرياً حول معالجة الاخطاء القاتلة التي وقعت في تجربة العلاقة مع النظام البائد. إن الطابع الايديولوجي الذي يصبغ رؤية العلاقة القادمة مع العراق ـ الدولة والمجتمع لن تؤدي سوى الى اقتفاء السيرة الغابرة، أي وقف المعركة ضد الخطأ والوهم، وبالتالي إعادة العمل بشروط ورؤية قديمة تقوم على فهم ناقص لمكونات المعادلة الجديدة التي تعكسها الحكومة العراقية الانتقالية كتمظهر للتعدية الاجتماعية والفكرية.

إن وعي مثل هذا الموقف الجديد يقودنا الى التنبّه الدائم ضد مؤثرات صناعة الرؤى والمواقف السياسية المتصلة بخاصة في مجال العلاقات الدبلوماسية، وفي الواقع تصبح أخطاء السياسة في هذا المجال عوامل معيقة قد تؤدي في نهاية المطاف الى حصار الدولة جزئياً أو كلياً. إن خسارة الدولة في مجال علاقاتها الدبلوماسية لا تقل عن خسارتها في مجال حفظ الامن والاستقرار الداخلي، لا لأن الاخير مستند فحسب على متانة العلاقات الدبلوماسية بين الدول وكثافة العمل الدبلوماسي لدولة ما، ولكن هذا الدور يشكّل احدى ضمانات عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ويدرء عنها مؤامرات الخارج.

أمام حكومة بلادنا فرصة الآن لابرام صفقة مصالحة مع العراق ـ المجتمع والدولة، من أجل تدشين مرحلة جديدة في العلاقة التاريخية مع هذا الجار القوي. إن حملات المساعدة التي تصل الى العراق مازالت مقتصرة على بعض المناطق والفئات، فيما لا تزال صورة حكومة بلادنا لدى الاغلبية تصنعها تفجيرات النجف وكربلاء وبغداد.   

لاشك أن الفعل الدبلوماسي يستهدف غايات محددة ويستعمل وسائل مناسبة لتحقيقها، وقد قيل بأن هناك دولاً تجني قليلاً من عملها الدبلوماسي بسبب افتقارها الى استراتيجية دبلوماسية واضحة قادرة على تحقيق أهداف واضحة ومحددة، ويبدو ذلك واضحاً في أوقات المحن التي تواجه هذه الدول حيث تلجأ الاخيرة الى رصيدها الدبلوماسي من أجل إعانتها على المواجهة وتحمّل الاعباء. لقد شعرت ليبيا عام 1992 بخيبة أمل كبيرة عقب إكتشافها بأن ما أنفقته من مليارات الدولارات من أجل بناء جبهة حلفاء لها في الخارج، إضطرت عقبها الى وقف فوري لكافة المعونات المالية الخارجية، وهو شعور كانت بلادنا قد أصابها في حرب الخليج الثانية حيث تبيّن ضعف التأييد العربي للموقف السعودي حيال تهديدات النظام العراقي البائد.

ونحن نبدأ، اليوم، في أن نرى كيف يمكن لعلاقة جديدة ان تتشكل مع الحكومة الانتقالية في العراق، لابد أن نفهم استحالات الواقع وتحوّلاته في العراق، ومن أول الاستحالات أن تاريخ العراق الحديث يبدأ الآن بشروط مختلفة ويرفض العودة للوراء، وبالتالي فإن المعادلة القديمة القائمة على احتكار السلطة وحرمان الاغلبية قد تفسخت وتحللت وهناك عناصر جديدة في المعادلة العراقية يجب أن تؤخذ في الحسبان. من جهة ثانية، هناك تحوّلات جديدة في الساحة العراقية وهكذا في الساحتين الاقليمية والدولية، على مستوى نظام الحكم أولاً، بمعنى أن النظام السياسي القادم في العراقي سيكون ديمقراطياً تعددياً، وهذا التغيّر سيترك تأثيراً مباشراً على المحيط الاقليمي عموماً وعلى السعودية بوجه خاص.

 

(التحرير)