العدد  18 يوليو 2004

 

من (الأفغان العرب) الى (العراقيين العرب)

موجة العنف العنف القادمة من العراق

 حين تبدأ فورة العنف في العراق بالتراجع، سنجد المقاتلين العرب يعودون منه الى ديارهم، محمّلين بذخائر التجربة، وهياكل التنظيم الجديد، لتبدأ مسيرة جديدة من العنف في الدول المجاورة التي فتحت أمامهم الحدود لأهداف سياسية تكتيكية، وسنقرأ حينها عناوين مثل: (العائدون من العراق) (العراقيون العرب)!

 الإرباك في موقف الحكومة السعودية مما يجري في العراق صار واضحاً. فهناك خطاب داخلي يدين العنف ضد الأجانب (خاصة الغربيين) ويصفهم بـ (المستأمنين) الذين حصلوا على عهد الأمان من (ولي الأمر).. وهذا الخطاب يدين العنف والإرهاب، ويندد بقتل المدنيين المسالمين المسلمين والعرب وغيرهم، وهو خطاب يحاول تفكيك منظومة الفكر العنفي والنفاذ اليها بالنقد والتشريح، وإن كانت المحاولة لاتزال بدائية. أيضاً فإن الخطاب الداخلي يتسم بالشدة والحزم في إطلاق كل الأوصاف على (الفئة الضالة) و (الخارجة) و (الغالية) و (الجاهلة) و (العميلة للصهيونية) و (المتحللة من القيود الشرعية) و (الناقضة للعهد) والتي تريد أن تنفذ ما يريده (العدو) من ضرب مهد الإسلام، ومقاومة (الحكومة الشرعية) (القائمة بالدين) والحريصة على مصالح الأمّة! ويصرّ الخطاب المحلي، على أن المملكة (ليست أرض جهاد) ولم يجد بعض الكتاب والمقربين من السلطة حرجاً في الإشارة الى أن شروط الجهاد متوفرة في أمكنة أخرى غير المملكة ويسميها بالإسم: (العراق، أفغانستان، والشيشان)!

أما الخطاب الخارجي، أو ذو الرسالة الموجة للخارج، فإنه يتأرجح بين إهمال التعليق على موجات العنف ـ خاصة تلك التي تقع في العراق ـ أو يباركها بصورة لا لبس فيها. الإهمال وعدم إعطاء موقف مما يجري في العراق، يبين حجم المشكلة التي يحملها السعوديون على أكتافهم. فلم يعد سرّاً حجم التسرّب السعودي الوهابي الى العراق، وقيامه بأعمال تفجير وإنتحار راح ضحيتها المئات إن لم يكن الآلاف، فلا تزال مواقع الإنترنت تلقي لنا يومياً بأحمال من المعلومات عن مساهمة السعوديين وأسمائهم ومناطقهم وبيوت العزاء التي تنصب (للشهداء!) منهم.

وإذا كان من المنطقي جداً أن تكون مقاومة المحتلّ الأجنبي للعراق مشروعة، لا يستطيع أحدٌ أن يسلب منها شرعيتها، إلاّ أن ما يجري خرج عن إطار المقاومة الى استهداف كل الشعب العراقي، بقياداته الدينية والسياسية، وبمصالحه وثرواته الوطنية. ولا يمكن القبول منطقاً أن تأتي فئة من الخارج لتقرر للأكثرية العراقية الموقف الذي يجب أن تتخذه، فيوصم معظم أبناء العراق بأنهم غير وطنيين، ويأتي أولئك من الخارج ليعلموهم الوطنية والجهاد! كما ليس من المنطق في شيء أن يأتي أطفال ليعلموا علماء العراق سبل الجهاد ومشروعيته، وليفرضوا عليهم المعركة ووسائلها وطرقها، دون وعي أو التفات لرأي (أصحاب الدار).

لنتخيّل مثلاً، أن بين من قاموا بتفجيرات المحيا وغرناطة في الرياض أشخاص من العراق أو من لبنان أو الأردن، وبرروا أفعالهم بنفس التبريرات، وهي مواجهة الإحتلال، أو بدعوى (إخراج المشركين من جزيرة العرب)! كيف كان الموقف الشعبي والرسمي إزاءهم؟

المملكة التي لم تتحرر بعد من نقمة (الجهاد) في أفغانستان، والتي لاتزال تضمد جراح ما ارتكبته من أخطاء هناك، وتدفع أثمان (العائدين من المجاهدين العرب).. تكرر أخطاء الماضي. فالموقف الرسمي إذ يتوارى هرباً من إعطاء موقف لموجات العنف الأعمى في العراق، متلفعاً بستار (المقاومة) وصمت الحكومة العراقية وقبلها مجلس الحكم عن توجيه أية نقد للحكومة السعودية، ضنّاً منهما وطمعاً بعلاقات مستقبلية أفضل.. والموقف الرسمي الذي يسارع لإدانة (الثمرة) في السعودية، يتناسى أن (الثمرة المرة) في العراق ما هي إلا نتاج لـ (الشجرة) المغروسة في الداخل السعودي. ولا يقلل من مسؤولية الحكومة السعودية أنها تواجه (فرعاً) صغيراً من شجرة العنف في البيت لم تستطع السيطرة عليه حتى الآن.

والحكومة إذ تفصل نظرياً وعملياً بين من يفجر ويقتل في العراق وبين من يفعل الشيء ذاته في السعودية، فإنها لم تلتفت بعد الى أمرين هامين: الأول مسؤوليتها القانونية عن حفظ حدودها مع العراق، ومنع رعاياها من المشاركة في العنف هناك، إضافة الى مسؤوليتها في التعرف على من اخترق الحدود، ومتابعة النشاط الداعم للإرهاب في العراق، ولا نقصد بهذا النشاط المقاوم. وإذا كانت الحكومة لا تستطيع التفريق بين الإثنين، فتلك مصيبة، إذ أن من غادر الى العراق يؤمن بفعل الشيء ذاته في السعودية، بنفس التبريرات الدينية، وبذات الوسائل المتشابهة التي تستنسخ، كمسألة قطع الرؤوس! المملكة مسؤولة عن الشبكات السعودية الداخلية، سواء تلك التي وجهت سهامها للمجتمع السعودي أو العراقي على حدّ سواء، ومسؤولة أيضاً عن فكر التطرف والعنف الذي يعلم القاصي والداني أن مصدره الأكبر هو السعودية نفسها. أما الأمر الثاني، فالحكومة السعودية المشغولة بالعنف في أراضيها، لا تزال تمارس سياسة التنفيس عن التيار العنفي بأن تفتح له مخارج لـ(الجهاد). لقد أدى الإنسداد في هذا الأمر الى ثورتين عظيمتين: ثورة الإخوان الأولى 1928-1930، وثورة الإخوان الثانية 1979 بقيادة جهيمان العتيبي. ووجدت الحكومة فرصة عظيمة حين تلاقت بغيتها في مكافحة الشيوعية واحتلال السوفيات لأفغانستان، فوجهت (الجهاد المعطّل) ليقوم بدوره في الأرض الأفغانية. وهي اليوم تفعل الشيء ذاته، فبدلاً من (الجهاد!) على الأراضي السعودية، وإقلاق ديار الإسلام!، فلتكن الحرب في العراق، بين المشركين والكفرة والخوارج. المشركون هم الشيعة! والكفرة هم المحتلون، والخوارج هم الوهابيون المارقون المغالون! وإذن فلينصرهم الله على بعضهم البعض!، أو ليكن فخاراً يكسّر بعضه بعضاً تخرج منه حكومات المنطقة سالمة غانمة!

الرؤية الطائفية للموضوع العراقي لم تبارح الذهنية السعودية منذ تشكل العراق الحديث، بل قبل ذلك، وآن الأوان للحكومة السعودية أن تدرك (تغيُّر الزمان) وأن تقدّم مصالحها الأمنيّة والإقتصادية والسياسة على الرؤية (الأيديولوجية) المتمذهبة حدّ النخاع.

وعليها أن تدرك بأن الوضع في العراق، لن يبقى على وضعه الحالي، وأن عدم استقراره سيعود بالضرر على السعودية ولو بعد حين، كما أن الإستقرار في العراق لن يكون بعيد المنال في ظلّ تشكّل أجهزة الدولة العراقية، وبالتالي فإن استخدام العراق كـ (مكبّ للنفايات السعودية) أو الأرض (المرشحة لتلقي الأيديولوجيا الوهابية المصدّرة) لن يكتب له النجاح. وأكثر ما يقلق، أن التكتيك السعودي وإن نجح خلال الأشهر الستة الماضية، عبر تفجير الوضع الداخلي العراقي، لكنه سيعيد المنتج السعودي والعربي الى أهله من جديد.

إن من فضّل الجهاد في العراق، وليس في السعودية أو الأردن أو سوريا أو اليمن أو الكويت أو إيران أو فلسطين، ومهما تكن المبررات السياسية والحسابات الطائفية، ما يلبث أن يعود الى دياره، وستبدأ موجة عنف (العائدين من العراق) كما كانت (موجة العنف العائدين من أفغانستان).. ومما لا شك فيه أن الدول العربية التي رحّبت بأفعال مقاومة الزرقاوي، وتساهلت في ضبط حدودها كيما توقع المحتلّ الأميركي في مأزق وإن كان على حساب المواطن العراقي، إن هذه الدول بقدر ما تساهم في توتير الوضع العراقي، فإنها بالفعل تساهم في تقوية البنية التحتية للعنف القادم من العراق الى أراضيها في قادم الأسابيع أو الأشهر.

لا يجب أن نصدّق أن الحكومة السعودية إنما هي ضحية أو إحدى ضحايا الوضع في العراق، بالرغم من أن ما جرى من احتلال أجج النقمة وزاد التحفّز لدى تيار العنف والتطرف السعودي. الصحيح أن شعب العراق كان ضحية نظامه السياسي، وضحية الدولة الكبرى قبل وبعد الإحتلال، وضحية جيرانه الخليجيين: الكويت والسعودية بوجه خاص، اللتان دعمتا صدام حسين ثم دعمتا إزالته من الحكم، وفي كلتا الحالتين فإن النتائج سلبية كانت أو إيجابية يتحمل هؤلاء جميعاً مسؤوليتها. وليس من المنطقي أن تأتي السعودية اليوم فتحمّل العراقيين مسؤولية القلاقل، فيما مواطنوها ينثرون الملح على الجرح بأفعالهم المشينة فوق التراب العراقي.

أما التيار السلفي السعودي فهو لا يكتم سعادته البالغة بما يقوم به أتباعه في العراق، وإن كان منشقاً في موقفه من ذات الأفعال التي يقوم بها أشقاؤهم والتي تقع في السعودية. لقد جرّب التيار السلفي في العراق أقصى حالات (الجهاد!) حيث وفّر الوضع مناخاً رائعاً من جهة الأهداف البشرية والإقتصادية الكثيرة التي تقع ضمن دائرة الإستهداف. صحيح أن الوهابية هي أكثر المذاهب شرعنة للعنف وأكثرها تساهلاً في إستباحة الدم الحرام ولأتفه الأسباب، كان هذا تاريخها ـ أي الوهابية ـ وحاضرها ومستقبلها القريب ـ على الأقل. ولكن العراق بأكثريته الشيعية، أغرى الوهابيين بالتساهل في استباحة الدماء، سواء كانوا في الأسواق أو في المساجد، وسواء كانوا أطفالاً أو نساء أو شيوخاً أو أفراداً مسالمين، فكل هؤلاء يدخلون ضمن خانة المشركين الذين سبق للوهابية أن استباحت دماء أمثالهم في الجزيرة العربية وخارجها. والحقيقة فإن الرؤية الوهابية للمشركين أوسع من الشيعة الذين يشكلون أكثرية السكان، ولكن السياسي (السنّي العربي) بدا وكأنه يريد استخدام المقاتلين العرب لتعزيز موقفه السياسي، ولكنه أدرك متأخراً بأن الوهابية وإن كانت تعتبر الشيعة أشدّ كفراً من اليهود والنصارى، فإنها في الوقت ذاته لا ترى في مجمل السنّة مسلمين صحيحي الإسلام، وبالتالي فهم أيضاً على قائمة الإستهداف. ولأن الوهابية أقلّ مساومة على ما تعتبره مبادئها، فإنها حملت العنف الى السنّة العرب أيضاً، وكانت انفجارات الموصل والرمادي وكذلك الإغتيالات في مدن سنيّة قبل ثلاثة أسابيع بداية تحول فاصل في علاقة المقاتلين العرب مع الحاضن السنّي العربي.

ان التيار السلفي لم يبارح بعد نمطيته الأيديولوجية، الأمر الذي يجعله سواء في المملكة أو خارجها بلا مشروع سياسي، بل مجرد مشروع للتفجير والقتل والتدمير. وهو بهذا يضعف الحكومة السعودية كما الحكومة العراقية في بادئ الأمر، ولكنه في الوقت نفسه سيحفّزهما ويستنفر جهدهما لمواجهته، كل في أرضه. إن التنميط الأيديولوجي يثبت أيضاً أنه قادر على تضييع المكاسب في طرفة حين من أجل مكاسب أيديولوجية متوهمة، ولذا فهو يخسر تعاطف الجمهور معه في محيطه السنّي العربي في العراق، كما في محيطه السلفي في نجد السعودية.

ويوماً بعد آخر، سيثبت التيار العنفي السلفي أنه كتلة من اللهب تظن الحكومة السعودية وبعض اللاعبين السياسيين على الأرض السعودية والعراقية أنهم يستطيعون احتواءه، لكن تلك الكتلة الملتهبة لن تلبث أن تحرق المقربين منها، كما حدث في السعودية مراراً وكما حدث على أرض الجزائر، وكما بدأ يحدث في العراق.

وملخص القول، أنه حين تبدأ فورة العنف في العراق بالتراجع، سنجد العائدين منه يعودون الى ديارهم، محمّلين بذخائر التجربة، وهياكل التنظيم الجديد، لتبدأ مسيرة جديدة من العنف في الدول المجاورة، وسنقرأ حينها عناوين مثل: (العائدون من العراق) (العراقيون العرب)!