العدد  18 يوليو 2004

 وجيهة الحويدر: عنفنا الغريب عاد الى دياره شاهراً سيفه، ساخطاً ممن أنجبوه

الإصلاح اسطوانة مشروخة تدار كلما احتاج ولي الامر سماع ألحانها الشاذة

  حاورها: نعيم مهلهل

  أيام كنت أقرأ ولازلت لهذا الكائن النسوي الملتزم فكراً وأدباً ورصانة ثقافة، أجد معها توهجاً لقيم يريد الآخرون أن يهيلوا عليها التراب، لكن الحويدر وعت بثقافة متحررة ومتحضرة قيمة أن يكون للمرأة وعي مستقل بعيداً عن كل مظاهر الإضطهاد الفكري والاجتماعي الذي يمارس في الكثير من المجتمعات الشرقية ومنها مجتمع بلدها السعودية.

 لكنها مناضلة، تؤمن بثمن البحث عن الحرية، لذلك عندما منعت من الكتابة في صحف بلدها، مشى قلمها على أكثر من أديم وليسجل وعي إبنة الجزيرة وجيهة الحويدرإشراقات ميزت فيها روح التفاؤل والحياة من أجل عالم نسائي تحقق فيه المساواة بين المرأة والرجل مادامت حواء قد نزلت مع بعلها آدم الى الأرض خطوة بخطوة.

 وجيهه الحويدر داعية نسائية تعي شعور الباطن لدى بنات جنسها، وتكاد أن تكون مع القليل من رائدات الفكر السعودي، الصوت الآخر لحلم المرأة، لتكون الضفة الأخرى لوجدان المجتمع، ولتشكل مع الرجل وحدة حضارية لدفع البلاد الى سمو ورفعة أخرى. يرى نمط تفكيرها بعض المثقفين بأنه إمتداد لصحوة جيل أتعبته رمال الصحراء وأعراف القبيلة.

اليوم نلتقيها في دارتها بجزيرة الحلم العربي الذي يزعج حلمه التأريخي وآماله العريضة هاجس الأرهاب المنظم والمدفوع بظلامية فكرة ما، ونسألها:

 السيدة الحويدر، فكرياً، ماهي رؤى وعي المنطق لما يحدث الآن من هذا العنف المعاند ـ والمتتابع؟

عنفنا المنظم ذاك كان موجودا منذ أكثر من عقدين، لكنه كان يحاك في أراض بعيدة عنا. نحن كنا نموله ونشد على يده ونسانده كلما كاد ان يتهاوى. الآن عاد الغريب الى دياره شاهراً سيفه، ساخطاً ممن أنجبوه في هذه الدنيا، فالخبز العفن الذي ساهمنا في عجنه وإعداده وطبخه، صرنا نتلقفه لقمة بعد لقمة بمرارة وألم.. لا منطق يُستوعب، ولا لغة تُفهم، ولا حوار يُسمع، ولا حكمة تُدرك، حين يدك العنف النفوس والأمكنة. منذ فاجعة منهاتن المروعة دخلنا كسعوديين في نفق قاتم موحش، ولا نعلم متى سنبصر النور. ان ما ينتظرنا على هذه الارض هو اعظم.. ولا استبعد ان نكون على ابواب حرب عصابات ضروس ستلتهم كل من تصادفه في دربها، وستنشر الخراب والدمار في المدن.

 في أفكارك وعي غير محدد لمفهوم تحرير المرأة السعودية من قيود المجتمع، هل ترين المتحقق يوازي طموح رسالتك؟

ربما من الأجدر ان نكشف ما اسميته بـ(المتحقق).. ما هو؟ وما فحواه؟ على افتراض ان هناك شيء ما (تحقق) ووجد لتستند عليه المرأة حين تعبث بها السنون. تلك خرافة ومهزلة تستخف بعقول الضحليين. ياسيدي نحن مازلنا في طور اننا نريد ان نكون وجوداً قبل كل شيء، وليس جزءا من الكماليات المنزلية. هناك من يتصور أن خانة الصفر أحط مكان ممكن قد يقيّم به وضع آدمي. نحن النساء على هذه الأرض نحلم بذاك الصفر.. اذا حزنا عليه نكون قد انجزنا الكثير. أتدري لماذا؟ لأن الصفر موجود، فهو رقم متعافى ومتكامل ويرزح بثقة على خط الأعداد اللامتناهي، بينما نحن لا وجود لنا ولا هوية ولا منزلة.. فقط تصبح لنا قيمة حين يريد لنا المحرم ذلك، وتنعدم حالما يقرر هو بانعدامها وتلاشيها. لذلك ما اطمح في رسالتي لتحقيقه من اجل اناثنا مازال كأنه خيوط سراب بعيدة المنال. انا مازالت أحسّه على السطح، ولم اتمكن من مس اعماقه بعد، قد يحتاج لسرب طويل من السنوات المديدة لإنجاز شيء من تلك الرسالة.

 أنت تقرأين الأفكار من خلال طروحات المشاهدة للظواهر على مستوى الفكر والمهنة والعادات. هل تحققين غاية، أم أنك تعانين من جدار ما يعزلك عن رسالتك؟

العزلة تلازمنا أينما ولينا وجوهنا في هذا الشرق. الكتب مازالت تُصادر، والأقلام تُبتر، والإصلاح اسطوانة مشروخة تدار كلما احتاج ولي الامر سماع ألحانها الشاذة. إنه أمر في منتهى الصعوبة أن تحلم بتحقيق غايات بإمكانها ان تُحدث شيئا على مستوى يبعد كثيرا عن الساحة الشخصية. لن أعلق ألم عزلتي على شماعة الأنوثة المأزومة البالية، ولن أعول عليها، لأن جدار العزل قدر الشرقيين من النساء والرجال. ان تكون إنسانا على الارض وتُحسب حجراً أو جسماً جامداً أو بشراً معطل الأحلام، فهذا أمر معتاد، ويحصل لكل واحد منا نحن العرب، بسبب ما تفعله بنا الأنظمة وما نفعله ببعضنا البعض.

 صفي لنا حلم المرأة السعودية! من هن وراء أسوار البيت والنقاب كثيرات، ولكن وسائل الإتصال تصل إليهن بسهولة، الفضائيات، الأنترنت، الصحف. هل لهذا من تأثير؟

المرأة السعودية تصارع الويلات القادمة من ثلاث مؤسسات: الأسرية والدينية والسياسية. فهي محاطة طوال حياتها بأسوار البيت والنقاب ونقط التفتيش والخطوط الحمراء. وسائل الإعلام اقتحمت البيوت بالفعل، لكن لم تخترق جدار العادات والتقاليد المحصن، ولم تحدث اي ثقب فيه. كثير من السعوديات مازلن يفتقرن لأبسط الحقوق؛ كأن تعرف من ستربط حياتها به، او تختار كيف تتعلم وماذا تتعلم وأين تتعلم. الفضائيات والإنترنت والمجلات صارت متنفسا لإحتقان مزمن، بعضها ـ أعني وسائل التنفيس ـ أخذ بالنسبة للمرأة السعودية دور المسكن لأوجاع الحرمان والعزلة والدونية.. لكن البعض الآخر صار مهيجا ومثيرا للشجون. الفتاة السعودية ترى كل ذاك الصخب والإنفتاح والحرية على الضفة الأخرى وتقارنه بحالها، فتشعر بالاختناق أكثر وتزداد حسرة وانكسارا.

 في بلداننا العربية، هناك الكثيرات من رائدات الفكر والأدب، مي زيادة، نازك الملائكة، نوال السعداوي، أحلام مستغاني، فدوى طوقان، سعاد الصباح..الخ. من هن في المملكة جديرات بأن يضاف إسمهن الى القائمة أعلاه ولماذا؟

في الحقيقة هناك كثير من الكاتبات والشاعرات اللاتي مارسن مهنة الكتابة، لكنهن في نظري لم يعتلين منصة الريادة بعد.. لم يلجن الى أعماق النساء السعوديات ويستعمرن مكانة تجعل العالم الخارجي يشهد لهن بالقيادة او الاقتداء. لكن يتراءى لي أن لطيفة الشعلان، ومضاوي الرشيد، ومي يماني، وزينب حنفي، وفوزية بوخالد، وبدرية البشر.. نساء مؤهلات لتلك المكانة.

 في كل مقالاتك تفكرين بوعي أنثى لا تريد ان تفقد إيمانها، لكن تفسير رؤاك يحرجك في بعض الأحيان. هل تصرين على المواصلة؟ وهل الوعي الجديد ألم مضاعف على امرأة تريد أن تكون رائية لجيلها من النساء؟

لا يهمني الإحراج أبدا طالما الخفافيش لا تمسني ولا تقترب من حدودي.. المواصلة هي التي تصر علي.. أنا لم أختر أن أكتب عن عنائنا اليومي.. وجدت نفسي مجبرة على تهشيم حيطان الصمت.. السقم ينخر فينا نحن النساء، فسواء تحدثنا أو صمتنا فإن الوضع في كلتا الحالتين شقاء ممزوج بألم. الإستمرار في السير أمر حتمي، والوعي قدر لا بد منه. حتى الأميات في بلدي يعين جيدا أنهن مهضومات الحقوق.. القهر أمره مفضوح لا يمكن ان يستغفل أحداً. القضية في منتهى الوضوح، أن لا أحد يحتاج أن يكون مثقفا كي يعي أنه مصارد الوجدان والهوية. كل ما يحتاجه هو أن تجري في عروقه دماء البشر كي يعلم ذلك.

 تسعين في نقاشاتك الى محاورة ذات الأنثى من خلال رصد الظواهر ورسم القيم الجديدة لعالمها. حصل هذا وبسببه تعرضت الى بعض سوء فهم. ترى هل ما حصل هو ثمن حرية الفكر، أم أن الأمر خاضع لضغوط أو حسد؟

لا ليست ضغوطاً ولا حسداً ولا حتى سوء فهم. اعتقد أن ما حصل لي هو نتيجة ثقافة سائدة في المجتمع السعودي، وهي ثقافة رفض الصوت (الآخر). إما أن تكن معهم أو أنك حتما ستكون ضدهم. إنهم يرفضون أن يسمعوا لحناً خارج ترنيمات السرب وموسيقاه. صارت غالبية البشر هنا مجرد قطعان بلون واحد، وحين يشذّ عن نهجهم شخص ما يُصنف على انه (الآخر) الذي يريد خلخلة الجمع، وهدم ثوابته، وتدمير قاعدته، وتحريف مثله، وتغيير نهجه السوي. لذلك يحارب بشتى السبل. عموما فإن ثمن الحرية باهظ مكلف، وهي تحتاج تضحيات كبيرة، ونحن نعلم جيدا ان الحقوق تؤخذ ولا تعطى. أيضا لا تأتي العدالة مجزأة أو معلبة على طاولة مساومات أو في (حوارات وطنية).

 المملكة اليوم واحدة من حواضر العروبة، في بعض الأحيان يجاهر ساستها بوعي مفتوح على واقع الأمة، أي ان السياسة السعودية تكاد تكون سياسة مجابهة في الكثير من المواقف، هل تدركين معي، أنهم بدأوا يفكرون اليوم بروح المغفور له الملك فيصل بن سعود، الذي عاش مراحل حرجة من تاريخ أمته وشعبه؟

لا احد يدري بماذا يفكرون، وماذا يعدون للخروج من هذه الأزمة الراهنة، لكن ما نراه اليوم على الساحة السياسية والوطنية لا ينم عن تصور محدد لما سيجري علينا ولنا، ونحن نكابد عتمة هذه المرحلة. الدولة لم تغير أسلوبها في معالجة الأمور العصيبة التي تلم بها. مازالت تتبع نفس السياسة المهترئة منذ عقود. الدرب الذي تسير فيه الحكومة الآن هو في مجمله ردات فعل، وتعامل مع النتائج لا الاسباب، واستخدام عنف مضاد مثل اجتثاث الجذور من تربتها وتفتيت البنى التحتية للمتورطين في قضايا ضد الدولة. الى ماذا سيوصلنا ذاك الطريق؟ لا احد لديه اية فكرة. كل ما هنالك الان هو تنبوءات تحوم في الأجواء والتي قد تكون قراءة خاطئة للمسألة وتبعاتها.