تطبيق على المملكة العربية السعودية

الاستبداد وآليات إعادة إنتاجه والسبل الممكنة لمواجهته

(2-2)

  توفيق السيف

  

التيار الإصلاحي.. مهماته وإمكاناته وحدوده

قدمت هذه المقالة حتى الآن صورة أميل إلى التشاؤم عن أهلية التيار الإصلاحي والمجتمع السعودي ككل لاستنباط حراك فعال يسهم في إنهاء أو تخفيف الاستبداد السياسي.

والحق أنه تصوير غير مقصود من قبل الكاتب، فثمة وجه آخر للصورة قد يؤدي عرضه إلى إعطاء انطباع متفائل عن الراهن والمستقبل. ما أريد قوله أن الوضع العام في المملكة يميل بشكل قوي ويتحرك سريعا نحو تغيير يصب في خانة الإصلاح، وثمة علامات مهمة توضح يوما بعد يوم أن التغيير يكسب مواقع جديدة في المجتمع والدولة معا.

الانطباع المتشائم مرده ربما الوضع الذي كنا فيه والصعوبات العميقة التي تحيط بنا، وعلى أي حال فإن الحديث عن استبداد قائم هو بذاته مدعاة للتشاؤم أيا كان موقف المجتمع منه.

 

مبادرات تحرك الراكد

خلال العقد الأخير شهد المجتمع السعودي مجموعة من المتغيرات خدمت مسيرة الإصلاح، بعضها نتيجة فعل سياسي وبعضها تداعيات لحوادث محلية أو خارجية. كان الغزو العراقي للكويت في أغسطس/آب 1990 منعطفا بارزا في تاريخ البلاد. فقد كشف الكثير من الأمور التي كانت مغفلة أبرزها ربما هو فشل المملكة في تعبئة الشعب وتوحيده للدفاع عن البلاد.

هذا الحدث كان بمثابة الصاعقة التي نبهت مجتمعا مسترخيا وغافلا عن مشكلاته مما أطلق موجات قوية من الجدل في العلاقة بين المجتمع والدولة لم يسبق لها مثيل. حاولت الحكومة احتواء الجدل الذي فجرته تلك الأحداث بإعلان سلسلة إصلاحات قانونية في مارس/آذار 1992 شملت إصدار النظام الأساسي للحكم، نظام المناطق (اللامركزية الإدارية) وإنشاء مجلس الشورى.

لم يتجاوز وعي المجتمع واهتمامه بالشأن العام الحالة الانفعالية المرتبطة بوقت الحدث، ولهذا فإن قرار الحكومة إصدار الأنظمة المذكورة بصيغتها الفعلية، عبر عن فهم لجوهر المشكلة التي أثارت الجدل، بقدر ما عبر عن تحليل صائب للمدى النهائي الذي يمكن أن يصل إليه المجتمع في ممارسة الضغط.

فالأنظمة الثلاثة تقدم حلولا باهتة لمشكلة عميقة وجذرية. إن التغيير الوحيد الذي أمكن لمس آثاره هو قيام مجلس الشورى الذي كان بمثابة إقرار للمرة الأولى من جانب الحكومة بوجود ما يمكن مقاربته بنخبة سياسية وطنية خارج دائرة الحكم الضيقة التي اعتادت البلاد عليها منذ أوائل القرن.

أطلقت أحداث أغسطس/آب 1990 ثلاث مبادرات هامة:

1- تظاهرة نسائية في الرياض يوم السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1990 تطالب بإلغاء الحظر على قيادة النساء للسيارات.

رغم أن التظاهرة اشتهرت بهذا المطلب فقط فإن التحرك نفسه والمطالب التي عبر عنها لامست صميم مشكلة الحرمان التاريخي للنساء السعوديات، وكشفت عما يمكن وصفه بتيار نسوي في طور التشكل. وقد جرى الاعتراف به أخيرا عبر المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الثاني الذي عقد في مكة (ديسمبر/ كانون الأول 2003)، وهي المرة الأولى التي يسمح للنساء بمناقشة الشأن الوطني العام ضمن إطار رسمي ومعلن(44).

2- المبادرة الثانية جرت في مايو/أيار 1991 حين قدم نحو 200 من العلماء والناشطين السلفيين مذكرة إلى الملك تطالب بإصلاحات "لاستعادة الشرعية" التي تضررت بتداعيات أحداث العام الماضي، وتبعتها "مذكرة النصيحة" التي قدمت للملك في يونيو/حزيران 1992.

أبرز ما ميز هذه المذكرة عن سابقتها هو تحديدها الدقيق لتوجه سياسي خاص أدى عمليا إلى بلورة التكوين السياسي للجهة التي تبنتها بصورة متمايزة عن التيار الديني الرسمي، ولا سيما بعد إصدار هيئة كبار العلماء فتوى في سبتمبر/أيلول تفند المذكرة وتشكك في نوايا أصحابها(46).

إن أهم انعكاسات هذا الجدل هو تفكك الإجماع التاريخي على شرعية النظام السياسي ضمن بيئته الاجتماعية الخاصة، وهو تطور ترتبت عليه تداعيات متوالية عند النخبة الحاكمة والجمهور السعودي معا.

3- ترجع المبادرة الثالثة إلى النصف الثاني من 1993 حين جرت مفاوضات بين الحكومة السعودية والحركة الإصلاحية أدت إلى عودة أعضاء هذه الحركة إلى المملكة بعد معارضة طالت نحو عقد ونصف. وتمثل الحركة الشيعة السعوديين، وشكلت خلال سنوات عملها ظاهرة ملفتة على المستوى الإعلامي والسياسي. أدى اتفاق الحكومة مع الحركة إلى ارتخاء سياسي تضمن إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين وإلغاء أوامر بحظر السفر على عدة مئات من الناشطين السياسيين.

أثمر الاتفاق تخلي الحكومة إلى حد كبير عن القمع العشوائي والتعذيب في السجون الذي كان سائدا فيما مضى. لكن أهميته الرئيسية تتمثل في كونه أول اعتراف من جانب الحكومة بمعارضة سياسية والقبول بمناقشتها سياسيا حول أوضاع البلاد، رغم أنها حاولت دائما حصر النقاش في إطار حقوق الطائفة الشيعية. لقد شجع هذا الاتفاق –إضافة إلى الظروف العامة المواتية– عددا من القوى التي لها مطامح سياسية على التعبير عن نفسها بشكل يقترب من العلنية.

في التحليل النهائي فإن المبادرات الثلاث عبرت عن تغير عميق في المزاج الشعبي، فالتظاهرة النسائية هزت الإجماع السلبي على انتظار التغيير التلقائي. مذكرة النصيحة كشفت عن تغير في دور الدين من عامل تسوير للنظام إلى عامل تفكيك لبيئته الاجتماعية. وكشف الاتفاق بين الحركة الإصلاحية والحكومة عن ميل بين الطبقات الحديثة والأقليات إلى إصلاحات من خلال الحوار مع الحكومة(47).

 

هجمات 11 سبتمبر ووثائق الإصلاح

كان الهجوم على نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول 2001 نهاية لعقد اتسم بالتأرجح بين الحراك الجزئي في المجتمع ومحاولات الدولة امتصاصه عبر الآليات المعتادة، أي تنشيط العامل الديني والمالي بصورة متوازية.

فقد أطلقت تلك الأحداث موجة ضغط أميركية هائلة على الحكومة السعودية، استهدفت خصوصا الجزء الديني من النظام وشملت أحيانا مطالبة بإصلاح سياسي واسع. أقنعت هذه الضغوط الحكومة بالحاجة إلى تحجيم التيار السلفي بشقيه الرسمي والأهلي وإصلاح مناهج التعليم التي نسبت إليها المسؤولية عن استزراع بذور التطرف في البلاد.

الجدل الواسع الذي أثارته تلك الأحداث وتركيز الإعلام الدولي على المملكة أدى إلى تقلص قبضة الحكومة وتضاؤل الشعور العام بهيبتها، وقد ظهرت علامات هذا التحول في الصحافة المحلية التي بدأت في مناقشة قضايا لم يسبق أن طرحت في الوسط العام وبأسلوب نقدي كان حتى ذلك الوقت أقرب إلى الحلم.

وقد تصاعد هذا الاتجاه بعد الهجمات الإرهابية على الأجانب في المملكة خلال العام 2003، مما وفر مبررا إضافيا لنقد التيار السلفي والقيم التي يدافع عنها. وفي ظني أنه ليس من المبالغة الادعاء بأن 2003 خاصة كان العام الذهبي للصحافة السعودية لما شهدته من تحرر غير مسبوق.

المرجع الرئيسي للتيار الإصلاحي المعاصر هو وثيقة "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" التي وقعها 104 من نخبة المملكة يمثلون مختلف الشرائح والانتماءات الثقافية والسياسية والمناطق. وضعت الوثيقة في أغسطس/آب 2002 وقدمت لولي العهد في يناير/كانون الثاني التالي.

وفي أبريل/ نيسان 2003 صدرت وثيقة "شركاء في الوطن" التي مثلت أول خطاب موحد للشيعة السعوديين، وتعتمد نفس منطلقات الوثيقة الأولى. وفي ديسمبر/كانون الأول صدرت وثيقة "الإصلاح الدستوري أولا" التي أعادت تحديد مخرجات الخطاب الإصلاحي وحددته في الدعوة إلى تحويل النظام السياسي إلى ملكية دستورية.

جاءت الوثيقة الأولى على شكل خمسة محاور: يدعو الأول إلى بناء المؤسسات الدستورية، ويقدم الثاني مقترحات لتصحيح الوضع الاقتصادي، والثالث حول إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة، ويدعو الرابع الحكومة إلى إطلاق مبادرة إصلاحية محددة، كما يحدد الخامس الخطوة الأولى في مؤتمر وطني لمناقشة برنامج للإصلاح(48).

ركزت وثيقة "شركاء في الوطن" التي وقعها نحو 450 من نخبة الشيعة على وصف مظاهر التمييز الطائفي، سواء ذلك الذي يقوم على سياسة رسمية أو من جانب رجال الدين الوهابيين. وطالبت بإدماج الشيعة في الحياة العامة والسماح بتمثيلهم في الجهاز الحكومي الإداري والسياسي(49).

وضمت وثيقة "الإصلاح الدستوري" التي وقع عليها 116 من ممثلي التيارات المختلفة، مطالب عامة مثل إطلاق الحريات العامة وحرية التنظيم وأخرى محددة تتناول بشكل رئيسي مقومات النظام الدستوري مثل الفصل بين السلطات وانتخاب مجلس الشورى واستقلال القضاء.

ومثل الأولى فقد طالبت هذه الوثيقة بالبدء بخطوات محددة هي إعلان الحكومة التزامها بتطوير نظام الحكم إلى ملكية دستورية، وتشكيل هيئة وطنية مستقلة لإعداد دستور دائم للبلاد يطرح للاستفتاء الشعبي خلال عام، ويبدأ تطبيقه خلال فترة انتقالية لا تتجاوز ثلاثة أعوام(50).

إضافة إلى الوثائق الثلاث المذكورة، صدرت وثائق أخرى خلال العامين 2003 و بداية 2004 لكنها لم تحظ باهتمام مماثل لذلك الذي حصلت عليه الأولى، كما أن تمثيل المطالب والموقعين لم يكن بنفس الدرجة من القوة والاتساع.

يمثل الموقعون على الوثائق الإصلاحية شريحة نموذجية عن الطبقة الوسطى الحديثة التي تعتبر عماد الحياة في المملكة اليوم، ونستعمل تعبير الطبقة الوسطى في معناه الاقتصادي الذي له إيحاءات اجتماعية وإن لم يطابق تعريف الطبقة المتعارف عليه في الأدبيات الاجتماعية.

يقع نحو 70% من الموقعين في الشريحة العمرية بين 40-50 عاما، وتلقى جميعهم تعليما حديثا، وتبدو شريحة الأكاديميين والكتاب الأكثر تمثيلا بما يعادل 35% في الوثيقة الأولى و45% في الثالثة، وامتازت الوثيقة الثانية بتنوع ملفت للموقعين فشملت فنانين ورجال أعمال وأدباء كما تميزت بكثافة تمثيل رجال الدين والنساء.

تكشف الوثائق الثلاث عن اتفاق شبه تام بين المجموعات التي تؤلف التيار الإصلاحي على مجموعة من القضايا. ففي تحليل أسباب الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة، يعتقد أن المشكلات الأساسية التي تواجه البلاد اليوم هي نتاج لعجز الدولة عن تجديد نفسها بالشكل الذي يتناسب والتحديات التي يأتي بها التغيير في البلاد نفسها وفي محيطها الإقليمي والعالم. التجديد المطلوب يتخذ اتجاها محددا هو الانتقال إلى الحكم الديمقراطي. أكثر المقترحات تحديدا هو التحول إلى ملكية دستورية كما عبر عنها في وثيقة (الإصلاح الدستوري أولا).

 

وبالتالي فإن التيار الإصلاحي يحدد مهماته في:

اولاً ـ إعادة تكوين الهوية الوطنية، بما يتضمن إجماعا جديدا على فكرة الدولة، أغراضها، علاقتها بالمجتمع، والسبل المناسبة لتحقيق تلك الأغراض.

ثانياً ـ تعديل دور الدين في الحياة العامة، طبيعة هذا الدور وانعكاس علاقته ببيئته الاجتماعية الخاصة (نجد) على علاقة الدولة ببقية المناطق، وانعكاساته على وضع الأقليات المذهبية (الشيعة مثلا) والجنسية (النساء) وعلى نظام الموازنة بين المصالح العامة والمعتقدات الدينية، والحياة الثقافية بما هي تعبير عن مجتمع متنوع.

ثالثاً ـ معالجة الأزمات التي تلوح في أفق الاقتصاد الوطني كنتاج لفشل نموذج الدولة الريعية، والتي تتجسد اليوم في صورة بطالة متفاقمة وتباطؤ في الاستثمارات الجديدة وشيوع الفساد المالي والإداري.

رابعاً ـ معالجة ظاهرة العنف التي تفاقمت في العامين الأخيرين والتي يتلاقى في تأجيجها مجموع العوامل السابقة.

يفترض الإصلاحيون أن بعض تلك المشكلات ناتج عن فلسفة النظام السياسي وهذا يحتاج إلى حلول جذرية، والبعض الآخر هو ثمرة لعيوب إدارية وهو قابل للمعالجة بمعزل عن التغيير السياسي الشامل.

وتخفي سطور وثيقتي "الرؤية" و"شركاء" قلقا عميقا من انعكاسات الوضع الحالي على وحدة البلاد، في إشارة إلى ما تردد من مخاوف حول احتمال انفراطها(51)، بينما تركز وثيقة "الإصلاح الدستوري" على العنف السياسي والقلق من تفاقمه. وثمة اتفاق على أن تلك المشكلات هي مخرجات طبيعية لعلة كبرى في النظام السياسي هي افتقاره إلى الشرعية التي لابد أن تتجسد في قيام الاجتماع السياسي على قاعدة التعاقد، إشاعة الحريات العامة، المشاركة الشعبية، وحاكمية القانون.

إن استعادة الشرعية عندهم ممكن بتحويل النظام إلى ملكية دستورية وإشراك الشعب في القرار والرقابة من خلال مجلس نيابي ومجالس محلية منتخبة. والبديل الدستوري الذي يعرضه الإصلاحيون أقرب إلى الليبرالية منه إلى الديمقراطية، وهو يقارب نموذج الدول المجاورة في الخليج والأردن، فهم يريدون ضمان حصة للمجتمع دون مساءلة دور العائلة المالكة.

والانطباع السائد بين الإصلاحيين وغيرهم أن التحرك إلى ديمقراطية كاملة سوف يستغرق بعض الوقت، لكن البدء بتمكين الشعب من حقوقه السياسية وإقرار المحاسبة وحاكمية القانون سوف يؤدي بالضرورة إلى تطوير الاجتماع السياسي باتجاه الديمقراطية الكاملة.

عدا المشكلات المتعلقة بفلسفة العمل السياسي ومضمون النظام، فإن الإصلاحيين لم ينظروا إلى المشكلات الأخرى على نفس المستوى. فهم يرجعون الأزمة الاقتصادية مثلا إلى عيوب إدارية وقانونية وإساءة استغلال السلطة، لكنهم لا يربطونها على نحو واضح بفلسفة النظام.

ولهذا السبب – ربما ـ فإنهم يرون إمكانية علاجها بمعزل عن الإصلاح السياسي الشامل. فهم يدعون الدولة إلى المساواة بين المناطق في توزيع الثروة ومشروعات العمران، مكافحة الفساد المالي والإداري واستغلال السلطة، وتفعيل أجهزة الرقابة القائمة. إن الإشارة الوحيدة التي تحمل طابعا جذريا في هذا المجال هي دعوة وثيقة "الرؤية" إلى معالجة الطابع الأحادي للاقتصاد وتنويع مصادر الدخل الوطني. ومن هذا يظهر أن التيار الإصلاحي قد ركز اهتمامه بالكامل تقريبا على الجانب السياسي واعتبره المهمة شبه الوحيدة في الوقت الراهن.

 

الدين كعامل في الحياة السياسية

كان الدور السياسي للدين موضوعا للعشرات من الدراسات التي اهتمت بالعالم العربي خلال السنوات الأخيرة. وبالمثل فقد مثلت العلاقة بين العائلة السعودية والمذهب الوهابي معينا لا ينضب للدراسات المتعلقة بالمملكة. والفرضية السائدة أن هذه العلاقة تقوم على أرضية تحالف تاريخي يوفر للدولة شرعيتها ويوفر للمؤسسة الدينية السلطة المادية الضرورية لتطبيق متبنياتها العقيدية.

 

محددات الدور الديني

ثمة محددان لدور الدين في الحياة السياسية السعودية:

1- رغم وجود هيئة دينية رسمية قد توهم بوجود تراتبية هرمية فإن المذهب الرسمي يفتقر تماما إلى مثل هذه التراتبية، بل يمكن القول إن وجود الهيئة الرسمية والتداخل الشديد بين الدين والدولة قد حال دون تبلور تراتبية طبيعية.

ثمة عامل آخر يعيق ظهور تراتبية مؤثرة وهو النهج الإخباري للمذهب الذي يسمح لكل من حصل على قسط ولو بسيط من التعليم الديني بالفتوى في أصغر الأمور وأعظمها، بخلاف المذاهب الأصولية التي تفرض دراسات طويلة جدا قبل حصول المتعلم على أهلية الفتوى. الفارق الزمني يتعلق بدراسة وسائل الاستدلال العقلي التي تستهلك سنوات طويلة قبل إتقانها.

في المذاهب الأصولية فإن الأغلبية الساحقة من رجال الدين الذين لم يصلوا درجة الاجتهاد يكتفون بنقل فتاوى المجتهدين، أما في المذهب الوهابي فإن انعدام التراتبية والإخبارية، قد مكنا كل من قرأ شيئا من التراث من ادعاء الاجتهاد والفتوى اعتمادا على مرئياته الخاصة. وخلال السنوات الأخيرة كان هذا الموضوع مدارا لنقاشات واسعة بين زعماء المذهب بسبب السيولة الهائلة للفتاوى التي لم تحرج مواقف الحكومة فقط، بل أثارت فوضى عارمة في الوسط الديني(52).

2- يلعب المذهب الرسمي (مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب) دورا هاما في تسوير وصيانة التماسك ضمن البيئة الاجتماعية الخاصة بالنظام (نجد). بالنسبة لمنطقة عسير الجنوبية وجبال الحجاز التي حقق فيها المذهب اختراقات خلال السنوات الأخيرة، فإن الوظيفة السياسية للدين ليست مماثلة في كل الأوقات لوظيفته في نجد.

وقد لاحظنا أن هذه المنطقة قدمت أكبر عدد من المشاركين في الهجمات التي نسبت إلى تنظيم القاعدة وأنصاره، كما ينتمي إليها عدد ملحوظ من رجال الدين المعارضين للحكومة. جوهر فكرة التسوير هو مفهوم "الفرقة الناجية" التي يطابق توصيفها هذه الفئة دون غيرها.

في بقية المناطق فإن الوظيفة السياسية للدين محكومة بعوامل أخرى، مثل حركية الهيئات الدينية الخاصة بتلك المذاهب وقدرتها على تثمير نفوذها سياسيا. وهذا هو السبب الذي جعل شيعة المنطقة الشرقية أقدر من غيرهم على استثمار الإمكانات المتاحة، رغم أن هذه الإمكانات كانت على الدوام أكبر في مناطق أخرى مثل الحجاز حيث يسود المذهب المالكي.

وبسبب النزاع بين تلك المذاهب والمذهب الرسمي فإن علاقتها مع الدولة تتغير إيجابا وسلبا ضمن مسار معاكس للعلاقة بين الوهابية والدولة. إن زيادة نفوذ المذهب الوهابي -سواء من خلال المؤسسة الدينية الرسمية أو النشاطات الأهلية- تؤدي بالضرورة إلى تدهور العلاقة بين الدولة وأتباع المذاهب الأخرى.

ومن هنا فإنه يمكن القول إن المذهب الذي تتوسل به الدولة لضمان شرعيتها في نجد، يلعب دورا معاكسا تماما في خارجها.

 

الدين والإصلاح السياسي

لم تغفل أي من دعوات الإصلاح السياسي التي ظهرت في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة الإشارة إلى مكانة الدين الإسلامي وما يستوجبه من الاحترام. وبالمثل فإن معظم الجماعات الدينية العربية قد ربطت موقفها من الإصلاح السياسي بمدى ما يوفره من دور للدين في الحياة العامة.

وتشكل هذه إحدى المعضلات الحقيقية في الحياة السياسية العربية. فمن ناحية لا يمكن إهمال حقيقة أن الدين هو المكون الأبرز لهوية المجتمع العربي وقد ظهر حتى الآن أنه الأقدر على تعبئة الجمهور، لكننا على الناحية الأخرى نفتقر إلى منظور ديني محدد لفكرة الديمقراطية.

إن الافتقار إلى هذا المنظور جعل الموقف الديني أقرب إلى العداء أو على الأقل تجنب تأييد الحراك الديمقراطي. ومن جانبهم فإن الديمقراطيين -جزء مهم منهم على الأقل- لم يزهدوا في تفسير المكون العلماني للديمقراطية باعتباره تهميش الدين أو حتى القضاء على دوره كليا.

في اعتقادي أنه لا يمكن إقامة ديمقراطية مستقرة في أي بلد مسلم دون التوصل إلى حل لذلك المشكل، وأظن أن مشروع التيار الإصلاحي في إيران ينطوي على إمكانات كبيرة لصياغة نموذج محلي للديمقراطية قابل للتنسيج في الثقافة الوطنية ومتناسب مع المعايير المتعارفة للديمقراطية الليبرالية في العالم.

يمكن القول إجمالا إن التيارات الدينية غير الوهابية تتفق جميعا وبدون تحفظ على دعم الحراك الإصلاحي لأسباب كثيرة، أبسطها أن تقدم هذا التيار سيقلص الأحادية التي عانت منها هذه المذاهب حتى الآن. لكن فيما يتعلق بالمذهب الوهابي فهناك ثلاثة مواقف متباينة:

1- موقف المؤسسة الدينية الرسمية وأطرافها، وهو يعارض الدعوات الإصلاحية من نفس المنظور الحكومي، أي لما تؤدي إليه من إضعاف للسلطة. تتمثل رموز هذا الاتجاه في أعضاء هيئة كبار العلماء ومجلس القضاء الأعلى وأعضاء الإفتاء ورؤساء المدارس الدينية، وتجدهم يوميا على منابر الإعلام المحلي بأنواعها.

2- موقف السلفية الصحوية، وهي التي تعتبر التيار الوسط بين السلفيين السعوديين. وهو موقف مؤيد للإصلاح من زاوية تكتيكية في الغالب، لأن هذا التيار مسيس وقد انطلق أساسا من موقف عدائي للدولة قبل أن يميل إلى مهادنتها، فهو يعتقد أن البلاد سائرة إلى إصلاحات ديمقراطية لا محالة، ويرى أن قدرته على ضمان مكان في السياسة رهين بالتمايز عن المؤسسة الدينية الرسمية والحوار مع الغير(53).

لكن هذا الموقف الذي يبدو معتدلا لا يصل إلى حد القبول بحقوق على أساس المواطنة، بل يعتبر المعايير الفقهية هي الأساس في منح الحقوق. إن مذكرة النصيحة التي صدرت في 1992 هي أدق تعبير عن مواقف هذا التيار السياسية(54). أبرز ممثلي هذا التيار هم سلمان العودة وسفر الحوالي ومحسن العواجي.

3- موقف التيار السلفي الجهادي وهو يعارض الحراك الإصلاحي لأن مضمونه غير ديني، ولأن الدولة غير قابلة للإصلاح، والبديل الذي يطرحه هذا التيار هو حكومة دينية صرفة.

وتنسب إلى هذا التيار الذي يوالي أسامة بن لادن معظم أعمال العنف التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة. وهو يستمد قوته من محاكاته للضمير السلفي وسحر فكرة القوة والتغيير الفوري، ولهذا فإنه يحظى بممالأة من جانب شخصيات تصنف ضمن التيار السلفي الصحوي، لا تؤمن به جوهريا بل تسعى إلى استثمار القوة المجتمعية التي يولدها (سفر الحوالي ومحمد المسعري مثلا).

 

قصور تيار الإصلاح السياسي

عدا هذه المواقف الثلاثة، فهناك تيار ديني مازال صغير الحجم يؤمن بالإصلاح السياسي في معناه الشامل، وشارك هذا التيار في وثيقة "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" كما تزعم الدعوة لوثيقة "الإصلاح الدستوري أولا"، وساهم ممثلوه بفاعلية في المؤتمر الثاني للحوار الوطني.

ولا يتمتع هذا التيار بنفوذ اجتماعي ملحوظ، سيما بسبب تكوينه النخبوي من ناحية وما يتعرض له من عداء التيارات الثلاثة المذكورة من ناحية أخرى. لكنه –بالنظر إلى مسار الأحداث- ينطوي على احتمالات كبيرة للتوسع والظهور كأحد الممثلين الأقوياء للتيار الديني النجدي.

ويؤكد خطاب التيار الإصلاحي في المملكة على دور الدين في الحياة العامة، لكنه –مثل معظم الحركات المماثلة في العالم العربي– يقف قاصرا عن تحديد موقف قطعي من المشكلات الرئيسية التي يطرحها جدل الدين-الديمقراطية.

ويظهر هذا القصور في أوليات الخطاب، أي اعتبار الدولة الوطنية إطارا قاعديا للسياسة، بما ينطوي عليه من القول بالمساواة بين المواطنين على أساس المواطنة، كما يظهر في أدوات العمل السياسي مثل اعتبار رأي الأكثرية معيارا موضوعيا لشرعية القرار.

ظهر تأثير هذا القصور واضحا في العمل الذي سبق إصدار وثيقة "الإصلاح الدستوري أولا" حين اعترض بعض السلفيين عليها بسبب وجود "عدد كبير" من الشيعة والليبراليين بين الأسماء، واعترض عليها اليساريون بسبب غلبة الطابع الديني على لغتها.

كما أن أول اجتماع سياسي موسع للحركة الإصلاحية (25 فبراير/شباط 2004) انتهى إلى الفشل لعجز المشاركين عن الاتفاق على التساوي بين كل منهم والآخر في الرأي والالتزام برأي الأكثرية.

وقد أكدت جميع الوثائق التي أصدرها الإصلاحيون السعوديون على الدور المحوري للإسلام في الحياة العامة، وقررت وثيقتا الرؤية والإصلاح الدستوري أن الشريعة الإسلامية ورضا الشعب بصورة متوازية هما مصدر شرعية السلطة، وتزيد وثيقة الإصلاح أن التطبيق الأمين للشريعة ممكن فقط في ظل المشاركة الشعبية وضمان الحريات العامة.

لكن كلتا الوثيقتين تتحاشى الإشارة إلى دور المؤسسة الدينية أو طبيعة العلاقة بين الدين والدولة أو المعايير التي تحدد الوصف الديني للدولة.

يبدو حتى الآن أن تصور الإصلاحيين لدور الدين في الحياة العامة، ولا سيما دور المؤسسة الدينية هو العائق الرئيسي أمام انضمام التيار السلفي -حتى الشريحة المعتدلة منه- إلى المسار الإصلاحي. ولا شك أن مثل هذ الخطوة كانت ستضيف -لو حدثت- زخما شعبيا جديدا إلى الحراك الإصلاحي. بل ربما اعتبرها البعض كالدكتورة الرشيد مثلا، المفتاح الوحيد للانسداد السياسي الفعلي(55).

لكن يبدو من التجارب المتكررة منذ أوائل التسعينات على الأقل أن الشخصيات السلفية التي التحقت بالتيار الإصلاحي هي تلك التي انفصلت عمليا عن التيار السلفي ولم يعد لها تأثير يذكر في وسطه. الجدير بالذكر أن اثنين فقط من الذين وقعوا على وثيقة الإصلاح الدستوري كانوا من الموقعين على مذكرة النصيحة.

ينادي التيار السلفي بدور للدين والمؤسسة الدينية يتجاوز ما هو مقبول لدى الإصلاحيين والموالين للحكومة على السواء، وهو لا ينظر إلى حقوق الإنسان الأولية باعتبارها طبيعية -أي سابقة للقانون- ولا يؤسسها على مفهوم المواطنة، بل يستمدها من الفقه التقليدي.

ولهذا السبب ـ ربما- لم يرد لفظ "الحرية" في كامل "مذكرة النصيحة" التي تبلغ 45 صفحة. وبشكل عام فإنه لا يعتبر الحرية هماّ، بل ربما اعتبر مظاهر الانفتاح والليبرالية القليلة التي شهدها المجتمع السعودي في السنوات الأخيرة نذير خطر وعلامة على فساد الأخلاق العامة.

يمكن القول بصورة مجملة إذن إن التيار الإصلاحي مثل التيار السلفي لا يقدم حلا واضحا لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة. التيار الثاني لا يراها مشكلة على الإطلا ، بينما يقتصر الأول على الدعوة إلى إنهاء الهيمنة الأحادية للمذهب الرسمي.

 

استنتاجات ختامية

تفترض هذه المقالة أن الاستبداد هو أحد الإمكانات المتوفرة في الحياة الاجتماعية، لكن ترجيحه في فترة قيام الدولة السعودية يرتبط بغلبة عوامل محددة هي:

ـ هيمنة ثقافة الخضوع كمستخلص عام من التجربة التاريخية التي تمثل مرجعية للتفكير الفردي والعقل الجمعي على السواء.

ـ التفكك وتعدد الهويات الاجتماعية.

ـ غياب الحياة السياسية الذي أدى بالضرورة إلى تخلف الثقافة السياسية، بسبب الموقع الطرفي للمجتمعات التي تشكلت منها المملكة.

 

طبيعة الاستبداد

رغم أن الاستبداد بذاته ذو طبيعة واحدة تتلخص في الانفراد بالسلطة والرأي، فإنه يتمايز في البلدان المختلفة بحسب إطاره العملي. وتقترح هذه المقالة دراسة طبيعة الاستبداد في المملكة ضمن "النموذج البدوي".

في هذا النموذج تمثل القبيلة إطارا مفهوميا للقيم والتراتب الاجتماعي ونظاما للسلطة ورؤية للذات والعالم. وتمثل الغنيمة عنوانا للاقتصاد السياسي، بينما تمثل العقيدة القاعدة الأخلاقية التي تبرر النظام وتوفر المشروعية لديناميات الاستمرار الخاصة به.

سياسيا يتصف هذا النموذج بأنه:

أ- نظام في ذاته ولذاته. إن منظومة المصالح ليست هي أساس الهوية، بل الرابطة القرابية التي تقوم عليها لاحقا منظومات مصالح، وهذا يجعل القبيلة –خلافا للطبقة– نظاما مغلقا على الخارج فلا يسمح بالحراك منه إلى الخارج أو من الخارج إليه.

ب- وهو أيضا نظام عضوي غير تعاقدي، تعتمد المكانة فيه على النسب لا الإنجاز. كما أن مفهوم الملك والمصلحة وما ينشأ عنهما من علاقات وسلطة ليس مؤقتا أو قابلا للانتقال والتبادل، بل تقوم على أساس تطور طبيعي تنحصر بموجبه داخل النظام الذي يمثل رابطة طبيعية بين أبنائه.

ج– أخيرا فإنه نظام يتحدد مفهوم السلطة فيه بالقهر. إن مفهومه الخاص بالشرعية ليس مستمدا من العقيدة المشتركة بين الحاكم ومجموع رعيته، بل بينه وبين الأقلية التي يعتمد عليها لإخضاع الأكثرية. ويرجع هذا إلى الصفة الأولى، أي كونه نظاما لذاته.

 

إعادة إنتاج الاستبداد

يعيد الاستبداد إنتاج نفسه في ظروف التحول الاجتماعي من خلال تفعيل العوامل التي قام عليها، وتلعب الدولة المستبدة دور الوسيط أو مدير اللعبة الذي يسمح بتنشيط عوامل محددة -موروثة أو مستجدة- ويمنع أخرى.

أبرز العوامل التي نجحت الدولة في استخدامها هي الدعم الخارجي ونمط الإنتاج الريعي. في ظل النموذج الريعي فإن الحقوق السياسية ليست موضوعا للنقاش، العلاقة بين المواطن والدولة تتمحور حول مقدار ما يحصل عليه من مال أو خدمات توفر مالا.

 

الحراك الاجتماعي

تجادل المقالة في أن ضعف الحراك السياسي الديمقراطي في المجتمع السعودي يرجع إلى عاملين متعاضدين هما:

أ- غياب الإجماع الوطني، أي منظومة القيم والمعايير المتفق عليها من قبل الجميع كقاعدة للعلاقة بين المواطنين من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. غياب الإجماع هو مظهر لغياب الهوية الوطنية الجامعة.

ب- العجز عن استنباط منظومات عمل اجتماعية بديلة عن تلك المنتسبة إلى عصر ما قبل الدولة. لقد انهارت البنى الاجتماعية القديمة تحت ضغط التحديث ولم يسمح بقيام منظومات عمل بديلة.

بموازاة هذا الفراغ، فإن ضغط التحديث قد حفز مقاومة في بعض البنى التقليدية احتمت كالعادة بعباءة الدين والتقاليد الفاضلة. في الوقت الحاضر يمثل جدل الحداثة/التقليد أحد مبررات الانشقاق البارزة في المجتمع السعودي. دور الدولة المستبدة في إعاقة الحراك الاجتماعي مفهوم ضمنا، لكن السؤال الجوهري يتعلق بعجز المجتمع عن استنباط بدائله.

 

التيار الإصلاحي

نتيجة لانعدام الإجماع الوطني فإن المقاربات السياسية التي شهدتها البلاد حتى نهاية العقد المنصرم عبرت عن أنساق اجتماعية محددة، قصر أي منها عن تمثل الهم الوطني الشامل. وقد جرى تجاوز هذا المشكل -جزئيا على الأقل- من جانب التيار الإصلاحي الذي تمثلت فيه جميع الأطياف الاجتماعية تقريبا.

ظهر هذا التيار من خلال الوثائق التي قدمت لولي العهد ثم أعلنت، وهي تتضمن تصويرا للوضع السياسي القائم وطريق الإصلاح السياسي المقترح.

يرجع التيار الإصلاحي بعض مشكلات المملكة الحالية إلى فلسفة النظام السياسي مما يتطلب حلولا جذرية، ويرجع البعض الآخر إلى عيوب إدارية أو قانونية لا ترتبط على نحو واضح بفلسفة النظام، وبالتالي فهي قابلة للمعالجة بمعزل عن التغيير السياسي الشامل.

وينطوي تحليل الإصلاحيين على قلق عميق من انعكاسات الجمود السياسي على وحدة البلاد، كما يرجعون إليه حملة العنف السياسي التي تفاقمت في السنوات الأخيرة. المشكلة الرئيسية التي تعانيها البلاد في رأيهم هي انعدام شرعية الدولة وغياب الأساس التعاقدي للاجتماع السياسي.

يتمتع التيار الإصلاحي بفرص طيبة للنجاح، وهو قد أسهم حتى الآن في تغيير المزاج الشعبي واللغة السياسية المتداولة. يعتقد الكاتب أن الصيغة الحالية للتيار الإصلاحي لن تعمر طويلا وأن المجموعات المكونة للتيار ستتجه إلى بناء نفسها بصورة مستقلة، لكن وثيقة الرؤية ستكون القاعدة المشتركة للجميع.

ويحتاج الإصلاحيون في ظل الأوضاع الراهنة إلى معالجة عدد من الموضوعات الملحة، من بينها موضوع العلاقة بين الدين والدولة ولا سيما استنباط تصور معمق عن نموذج ديمقراطي وطني ينسجم مع الدين الإسلامي باعتباره المكون الرئيسي لهوية المواطنين.

أشير أيضا إلى ثلاث مهمات مثيرة للجدل وأظن أنها قابلة للعلاج دون عناء كبير:

أ - التكوين النخبوي المحافظ:

لكي يتحول الحراك الإصلاحي إلى حركة شعبية قادرة على فرض أجندة الإصلاح، فلابد من إزالة الحاجز الزجاجي الذي يفصل النخبة الإصلاحية عن الجمهور الواسع. ومثل هذه الخطوة تتطلب جهدا وتضحية. ومن دون ذلك فإن الزخم الإصلاحي قد يستهلك تحت الضغط الحكومي المتمثل في التجاهل أحيانا والقمع أحيانا أخرى.

الجمهور العام هو القوة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها للانتقال إلى الديمقراطية. يميل أكثرية السعوديين -بمن فيهم الإصلاحيون- إلى نموذج اجتماعي أقرب إلى المحافظة منه إلى الليبرالية(56). في هذا النموذج تصنف المداولات السياسية كعمل يقوم به خاصة المجتمع لا العامة، وهذا أحد الأسباب التي تكمن وراء إهمال – وأحيانا الممانعة من – طرح المطالب الإصلاحية للنقاش الشعبي.

بسبب إهمال مشاركة العامة في الشأن السياسي فإن المفاهيم التي تعتبر مسلمات في العالم مثل الحرية والدستور.. إلخ، ما زالت غريبة الوقع في المجتمع وتحتاج دائما إلى إقناع وتفسيرات. بكلمة أخرى فإن الثقافة السياسية للبلاد ما زالت تنتمي في المجمل إلى المرحلة التقليدية ومحورها هو الإقرار بعلاقة السيد-التابع، وهو عامل يخدم إطالة عمر الاستبداد.

ب- الإجماع الوطني:

رغم الإيمان العميق الظاهر عند شريحة واسعة من الإصلاحيين باعتماد المواطنة أساسا للحقوق العامة، فإن هذا المفهوم العام تعرض أحيانا للتهميش بتأثير المماحكات السياسية بين الإصلاحيين أنفسهم وخلال محاولاتهم لاستقطاب القوى الأخرى.

إن نجاح الإصلاحيين مشروط بقدرتهم على اتقاء هذه العلة، ليس فقط لأن الابتلاء بها يفقد المشروع الإصلاحي مصداقيته كبديل عن نموذج الاستبداد القائم، بل أيضا لأن مثل المسار لن ينجح أبدا في الاستمرار، خاصة إذا عرفنا أن المحرك الأقوى للتيار الإصلاحي في هذه المرحلة هم المتضررون مباشرة من الاستبداد، أي الأقليات والمناطق المهمشة، وهذه ترفض ذلك النوع من التصنيف لما ينطوي عليه من إقرار بالنموذج السياسي الذي تتبناه الحكومة والذي يقوم على تغليب العنصر النجدي-الوهابي.

ج- دور الخارج:

رغم تردد الإصلاحيين في القبول بدور لحلفاء المملكة الأجانب في دعم الإصلاح السياسي، فإن اطلاعي المباشر على المداولات المحلية بهذا الشأن يسمح لي بالقول إن ذلك الاستنكار يخفي وراء قشرته الخارجية ترحيبا متحفظا، تجد بعض مصاديقه حتى بين السلفيين، فضلا عمن يوصفون بالليبراليين(57).

مشكلة الدور الخارجي تكمن في الاختلاط الحاصل بين تحليل الواقعة وتقييمها. التحليل يجيب على سؤال: هل هذا ممكن أم لا؟ وإذا حصل هل يفيد –موضوعيا- أم لا؟ أما التقييم فيجيب على سؤال: هل نقبل به أم لا؟ وواضح أن الأمرين مختلفان. من الناحية الواقعية فإن تدخل الولايات المتحدة كان مفيدا في بعض الأحيان(58).

لقد اقتصرت معالجة الإصلاحيين للموضوع على تحذير الحكومة من احتمال أن يمسي التدخل الخارجي قدرا لا مفر منه إذا لم تبادر إلى تبني مشروع إصلاح وطني. إغفال مسألة كهذه يشير إلى ضآلة الجهد الذي يبذله الإصلاحيون في مناقشة التحديات التي تواجه مشروعهم. إذ لا شك أن بالإمكان وضع تصور عن علاقة مركبة مع الخارج -الأميركي أو غيره- تسمح بالتعبير عن المواقف دون الانزلاق إلى التعميم أو العداء غير المبرر.

 

ــــــــــــــــــــــــــ

 

المصادر:

 

44- حول أبرز مطالب النساء السعوديات، انظر سهيلة حماد، اقتراح محاور لمؤتمر حوار وطني سعودي موضوعه المرأة، الحياة (لندن 27/2/2004) www.daralhayat.com/opinion/02-2004/20040226-27p10-01.txt/story.html

45- نص المذكرة، موقع الحركة الإسلامية للإصلاح. www.islah.tv/documents/islahdocs1.htm

46- الجزيرة العربية، العدد 21 (لندن، أكتوبر/تشرين الأول 1992)

47- For an historical approach to the transformation of Shi‘ite opposition, see Madawi al-Rasheed, “The Shia of Saudi Arabia: A Minority in Search of Cultural Authenticity”, British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 25, no. 1. (May, 1998), pp. 121-138.

48- نص وثيقة "رؤية.." شؤون سعودية، العدد2، (لندن، مارس/آذار 2003)، ص 14. www.saudiaffairs.net

49- نص وثيقة "شركاء.." السفير (بيروت 22/5/2003)

50- نص وثيقة "الإصلاح.."، موقع الإسلام اليوم (25/12/2003)

www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?artid=3201&catid=76

51- حول العلاقة بين الجمود السياسي والقلق على الوحدة الوطنية، انظر متروك الفالح، المرجع السابق

52- انظر بهذا الصدد رأي عبد الله التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، جريدة الزمان

www.azzaman.com/azzaman/articles/2002/03/03-14/789a.htm

53- انظر مثلا مقابلة محسن العواجي في إيلاف (14/5/2004) www.elaph.com. ويمكن الحصول على معلومات أكثر عن مواقف هذا التيار على موقع الإسلام اليوم www.islamtoday.net الذي يشرف عليه سلمان العودة وموقع الوسطية الخاص بالعواجي www.wasatyah.com

54- نص مذكرة النصيحة، موقع مركزالحرمين (12/5/2004)

 www.alhramain.com/text/payan/alnseha/1.htm

55- مضاوي الرشيد، الملكية الدستورية غير ممكنة والتحالف الوطني هو الحل، القدس العربي (لندن 14/1/2004)

www.alquds.co.uk/index.asp?fname=2004\01\01-14\a52.htm

56- On the major characteristics of Conservatism, see Andrew Heywood, Political Ideologies, (New York 1998), p.66

57- انظر مثلا الطريقة التي عالج بها أبو السمح الدور الأميركي في العراق. عبد الله أبو السمح، "المزايدون الضالون"، عكاظ (جدة 19/7/2003)

 www.okaz.com.sa/okazarchive/data/2003/7/19/Art_8270.xmL

58- أشير هنا مثلا إلى إعلان وزارة الخارجية الأميركية عن خيبة أملها بعد اعتقال الزعماء الإصلاحيين

CBS News, (March, 21, 2004) .

 www.cbsnews.com/stories/2004/01/29/world/main596614.shtml

وهو موقف وفر للمعتقلين دعما سياسيا مهما أدى إلى منحهم معاملة مثالية بالقياس إلى معتقلين من التيار السلفي ـ بينهم علماء- في نفس الوقت، حرموا من أية حقوق قانونية. لبعض التفاصيل عن هذه الاعتقالات انظر شؤون سعودية، ع15، (لندن، أبريل/نيسان 2004)

 www.saudiaffairs.net/webpage/issue15/article15r/issue15rt9.htm