من أجل ذاك القنديل

وجيهة الحويدر

 

اكثر من عشر سنوات منذ عدتُ للعيش في السعودية، وبعدد شهور تلك السنين كنتُ ومازلتُ أزور مدينتي، الهفوف الكئيبة، التي تقع في منطقة الأحساء في الجزء الشرقي من المملكة. وبنفس عدد تلك الزيارات مازلتُ أمرُّ في كل زيارة بقنديل منحنٍ في حي بائس، كأنه من احياء بغداد المنكوبة. ذاك القنديل يكادُ يلامس الأرض من شدة انحنائه، لم يلتفت له قط اي رجل استلم رئاسة بلدية المدينة. لم يحس أحد يوما بوجعه  ولا بإعيائه، لم يكترث بمدى العاهة التي أَلَمَت به منذ سنين طويلة، اثر حادث تسبب به ذكر طائش معتوه. لم يشعر اي رئيس بلدية ان ذاك الخنوع لذاك القنديل مؤشر واضح وفاضح لمدى الاهمال الذي تعانيه تلك المدينة، بالرغم انها ترزح على أكبر بحيرة بترول في العالم، وتروي كل مدن هذه الارض من نفطها المتدفق ليل نهار. من أجل ذاك القنديل، ومن أجل كل الجوانب المهملة في مدننا، أُطالب بترشيح النساء في مجالس البلديات القادمة في السعودية وفي كل الأقطار العربية.

ان اي زائر لأي مدينة عربية يشعر فيها من اليوم الاول انه يزور مدينة مؤقتة. تبدو وكأن الناس القاطنين فيها سيلمون حوائجهم وامتعتهم ويرحلون عنها في غضون أسابيع أو شهور. حين يجوب المرء في الشوراع العربية يجد فيها كثيراً من المشاريع غير المكتملة. حفريات واشلاء وحطامات وأطلال ومبان مترهلة، حتى في المدن التي لم تُبتلى بحرب او بكارثة طبيعية. الطرقات غالبيتها غير مرصّفة، او جزء منها غير مكتمل الترصيف. وبعضها عديمة الارصفة مثل مدينة عمّان في الاردن التي لا تعترف بحقوق المشاة أبدا. هناك مدن بشوارع غير مخطط لها، موزعة بعشوائية على مبدأ (مش حالك) مثل ما نراه في صنعاء ومسقط والمنامة والقاهرة وبيروت ودمشق وغيرها. او ان طرقاتها معبدة ومشجّرة لكنها غير مؤهلة لأن تحتضن عدد السيارات التي تعبر بها، كمدينة دبي والرياض وجدة والدمام. فمن اجل ان ينتقل من مرتادي طرقات تلك المدن من مكان الى آخر، تضيع ساعات طويلة، وتتبدد طاقات وجهود بالاضافة الى حرق اعصاب.

بالرغم من ان مدناً كجدة والرياض والدمام اكثر من نصف سكانها ممنوعين من قيادة السيارات، الا انها مكتظة حتى العنق بالسيارات والحافلات. ومدينة الرياض تعرّت قبل اكثر من عام امام ولي العهد الامير عبد الله بن عبد العزيز حين زار احياءها الفقيرة. تعجب وذُهل من شدة فاقة الناس هناك، فلم يتصور ان في مدينته التي يُسكب فيها ملايين الدولارات لإعمارها، يوجد فيها أُناس يعيشون في مساكن تشبه جحور الفئران والجرابيع.

أما عن أسوأ حال تكابده مدننا البائسة المصابة (بداء الفقر) أو (بداء الثراء)، هو انعدام المجاري والصرف الصحي. رشرشات المطر في مدينة مثل جدة تجعلها تغص وتغرق في اقل من ساعة. جدة (عروس البحر) هي أعفن (عروس) عرفها الناس على وجه الدنيا، مدينة رائحتها تُزكم الأنوف، وتخرب المزاج، وتقزز النفوس، لأن الميزانية التي حُددت لبناء مجاري تلك المدينة والتي هي مهبط جدتنا حواء كما يقال، نُهبت ورُصدت في حسابات مختليسها، فلم يعد لجدة سبيل لتصريف فضلات سكانها.

اما بالنسبة لإنهيارات الجسور والمساكن الحكومية والمرافق العامة فحدث ولا حرج خاصة في مصر. تلك المصائب تحدث بسبب فساد رؤساء البلديات الذين لا يغفلون لحظة واحدة عن لَمّ الرشاوي والشرهات والمال غيرالمشروع، من وراء المناقصات التي تطرحها الدولة ويتلقفها عديمو الذمم من المقاوليين.

أشهر معمارية في العالم (زهاء حديد) تلك العراقية البارعة، قالت في احد اللقاءات التي اُجريت لها مؤخرا في الشرق الاوسط (ان المدن العربية مدن تتسم بالبدواة). وهذا رأي امرأة خبيرة في بناء المدن وتخطيطها. وبالفعل مدننا تعج بالهمجية حتى في الدول النفطية التي تعتبر ثرية. لا تعبأ البلديات بتحسين المدن بطريقة عملية ولا بإسدال طابعها الشرقي على معالمها. صارت المدن العربية لا شرقية ولا غربية، تائهة دون هوية كأهلها تماما. فمدينة الكويت مثلا ليس فيها اي لمسة شرقية جمالية، بالرغم انه اُعيد بناؤها من جديد من بعد حرب الخليج الثانية. اليوم مدينة الكويت مدينة متاهات، وعمارات حديثة شاهقة بلا مذاق ولا نكهة ولا طابع معين. اشجارها مقلمة ومشذبة كنسائها المحرومات من حقهن السياسي. الجسور تشقها طولا وعرضا لكن دون ظهور اي لوائح واضحة لترشد العابرين فيها للوصول الى المكان الذي يريدونه.

وابو ظبي في الامارات، هي الاخرى لا يقوى على فك لغز طرقاتها سوى من يقطن فيها. كل من حاول ان يعبر تلك المدينة يجد نفسه اما على جسر متوجه لمدينة دبي او ناحية السعودية. لا توجد لوحات او اشارات او علامات واضحة تدل الى اي جهة انت ذاهب او من اي جهة قادم. وللأهمية يجب ان لا يحلم المار بالمدن العربية في ان يتّبع خرائطها، لأنها في معظم الحالات لا تعكس ارض الواقع. ومن الضروري ان ينسَ تماما فكرة استخدام المواصلات العامة، لأنه نظام مازال مرتبكا وفوضاويا، وحافلاته معظمها غير صالحة للإستهلاك الآدمي. بالطبع مدن دول شمال افريقيا ليست بأفضل حالا مما ذُكر، قد تكون اوضاعها اسوأ لأنها مدن لدول موبوءة اما بالنزاعات او بالفقر او بالأثنين معا.

لم نسمع قط في اي قطر عربي برئيس بلدية امرأة. جميع مدننا العربية كانت وما زالت تحت إمرة رجال وتخطيط رجال وشُيدت بنظرتهم الثاقبة الرصينة، والنتيجة ما نراه ونعيشه اليوم. مازال الكثير يردد بإفتراء (لا خير في أمّة تقودها امرأة).. هاهي قيادة الرجال العرب، اين هو الخير الذي عشمونا به وأوصلونا اليه في المدن، ناهيك عن الحال المزري للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني؟. غالبية المسؤولين العرب لا يستثمرون اوقاتهم في شؤون الصالح العام، لأن مصالحهم الخاصة هي المحرك الحقيقي لأذهانهم الملوثة ونفوسهم الخربة.

اليوم وبشكل عام في الوطن العربي وفي العالم تحصيل الإناث الأكاديمي أعلى بكثير من تحصيل الذكور. في دولة مثل السعودية في قطاع التعليم الجامعيات يفوق عدد الجامعين، ويوجد %100 كادر نسائي في مدارس البنات، وتجدهن على جميع المستويات التي ُصرح لهن بالظهور، حققن فيها ناجاحات مبهرة. النساء يصرفن وقتا اطول في الأمور الأكثر أهمية. اليوم مجمل النساء العربيات هن صانعات البيوت ومدبرات شؤونها. المرأة في المجتمعات العربية تعمل على راحة الاسرة ومستقبلها بجانب إضافة المسحات الجمالية هنا وهناك في حياة أفرادها. إنهن على دراية بالشؤون الصغيرة قبل الكبيرة، والتي يهملها كثير من الرجال. فعندما يُولّى للمرأة رئاسة البلدية، متى ما تحطمت اشارة مرور في شارع ما، او ذبلت شجرة، أو سقطت لوحة من مكانها ستشعر المرأة بها وتتألم من أجلها وتسعى لإصلاحها.

اذا اردت ان تتذوق لمسات الانثى في المدن، فعليك بزيارة للدول الاسكندنافية. فهي تتبع اكثر الانظمة السياسية والاجتماعية تحضرا تفوق دولاً كثيرة حتى امريكا، لأن نسبة لا يُستهان بها من النساء صانعات قرار في تلك البلدان. فعلى سبيل المثال السويد وعاصمتها ستوكهولم من احسن المدن الاسكندنافية نضارة وجمالا وتألقا، ليس بمحض الصدفة، بل لأن السويد بلد يعج بالنساء فعددهن يفوق عدد الرجال، ويتبوأ النساء 54% من مقاعد البرلمان فيها.

البلدان العربية في حاجة ماسة الى نساء في مجالسها البلدية. نرجو من الحكومة السعودية التي ستخوض تجربتها الاولى في عقد الانتخابات ان تفتح الابواب للنساء، واذا لم يفز اي منهن بمقاعد، وهذا المتوقع، لأنه حصل في دول الخليج الاخرى، نطالب ان تُعين نساء في مجالس البلديات تحت نظام (الكوتة)، كي يُزال عن مدننا بعض من صبغة البداوة ، وآثار الفساد والاختلاسات المتفشية، ومن أجل ان لا يبقى فيها قنديل منحن او مهشم.

عن: الحوار المتمدن – 8/10/2004