الطريق الى الإنفصالية في المملكة العربية السعودية

(شرعنة الإنفصال) مقابل (شرعنة الهيمنة)

(2 ـ 2)

 د. خالد الرشيد

 في القسم الأول من هذه الدراسة، كشفت عن بعض ملامح ودوافع الإنفصال في المملكة العربية السعودية، وفي هذا القسم الثاني والأخير، سأحاول تقديم صورة لسيرورة الحركة الإنفصالية وكيفية بزوغها وشرعنة نفسها، ومن ثمّ تمثيلها وتقدمها في دعوتها، وعوامل نجاحها وفشلها.

هناك قضيتنان مرتبطتان بمدى شرعيّة الإنفصال. أحدها يتعلق بسؤال: كيف تستطيع حركة إنفصالية ما، أن تقنع جمهورها به؟ ما هي أدوات تلك الشرعية، وما هي المدّعيات المفهومية التي تقنع ذلك الجمهور بخطوة مثل تلك، وكيف تساهم أخطاء الدولة في توفير تلك المشروعية. الإجابة على هذا السؤال يحلّ جزءاً من شرعية الحركة الإنفصالية في داخل بيئتها المحليّة، ولكنه ليس كافياً ما لم تتحقق الإجابة على سؤال آخر له علاقة بشرعية الحركة الإنفصالية في محيطها الإقليمي والدولي وهو: متى ولماذا يمنح الغطاء الإقليمي والدولي لحركة انفصالية ما ويحجب عن أخرى؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين من صميم البحث عن موضوع شرعية أي حركة إنفصالية سواء وقعت في المملكة أو في غيرها، والسؤالان مرتبطان ببعضهما إذ لا يكفي لنجاح أي حركة إنفصالية ما لم تحقّق هذين العنصرين. في هذه الدراسة سنكتفي بالبحث عن السؤال الأول، تاركين الإجابة على السؤال الثاني لوقت آخر.

يجدر بنا ـ ابتداءً ـ أن نوضح أن تحصيل الشرعية للحركة الإنفصالية في محيطها الأثني أو الديني أو المناطقي قد يبدو أكثر صعوبة من تحصيل نظيرها الخارجي؛ بيد أن نظرة مليّة للحالة الإنفصالية قد تعطي نتيجة مغايرة لذلك؛ أي أن تحصيل الشرعية محليّاً قد يكون أقلّ صعوبة بالنسبة للحركة الإنفصالية من تحصيل الشرعية الخارجية؛ فالحركة الإنفصالية تستطيع ـ وهي التي تعرف بيئتها ـ أن تستثمر كل أخطاء النظام في تأجيج المشاعر الإنفصالية، فنجاحها يعود بدرجة أساس الى جهدها الإقناعي واستخدام الأخطاء التي تقترفها الحكومة المركزية. أما الشرعية الدولية، فتأتي لاحقاً لتطور ونجاح الحركة الإنفصالية محلياً، وهي لا ترتبط بالضرورة بقوّة الحركة الإنفصالية، ولا بإرادتها، فمصالح الدول الكبرى والقوى الإقليمية قد تعترف بحركة انفصالية ضعيفة وتوفّر لها الحماية والإعتراف الدولي، في حين قد تتجاهل حركة انفصالية قويّة إن كان الإعتراف بها لا يخدم مصالح تلك القوى والدول.

تستند شرعنة الإنفصال بين جمهور الجماعة الإنفصالية الى معطيات واقعية أكثر منها نظريّة. بمعنى أن قيادة الحركة السياسية الإنفصالية قد لا تستطيع أو لا تحبّذ في الأساس بل قد تتجنّب ـ خاصة في مراحلها الأولى ـ موضوع التنظير للإنفصال بناء على مفاهيم (غير مبيّأة) محليّاً ولا يستطيع الجمهور استيعابها، كمفهوم (حق تقرير المصير) او (الإستقلال) أو (الحكم الذاتي) فهذه المفاهيم تنتظر الحركة الإنفصالية لاحقاً في معركة شرعنة نفسها دولياً. تطور الحركة الإنفصالية يبدأ على شكل مراحل تبدو متداخلة بعضها ببعض، فقد تأخذ هذا الإتجاه:

ـ تعميق الشعور لدى جمهورها بالحيف الواقع عليه، والذي لا تخفى أدلّته ووقائعه، كون تلك الأدلة والوقائع أمر معاش مكشوف واضح لدى جمهرة المضطهدين المستهدفين. لكن هذا التعميق لا يستهدف فحسب تعزيز الشعور بـ (المظلومية) بغرض تجنيد الأتباع ضمن برنامج سياسي.. بل أن أثر ذلك أعمق من هذا على صعيد الجماعة المستهدفة بالإنفصال وليس الحركة الإنفصالية وأتباعها فحسب، إذ يأتي ربط ذلك (الظلم) مباشرة أو غير مباشرة بـ (التميّز) لدى الجماعة سواء كان تميّزاً ثقافياً ـ دينياً أو لغوياً ـ أو تميّزاً عرقياً أو تميّزاً إقتصادياً أو غير ذلك. حيث يشعر المضطهدون عادةً بأنهم إنما اضطهدوا بسبب (تميّزهم) وليس لمجرد (اختلافهم) عن النسيج الثقافي العام مثلاً. هذا الشعور بالتميّز، هو المادّة الخام، الذي تبنى على أسسه قواعد الدعوة للإنفصال.

ـ تشييد الأسوار حول الذات، وذلك بالتفتيش عن مكامن التميّز الثقافي والسياسي والتاريخي والإقتصادي وتسييسه، وشحن الجمهور بجرعات زائدة منه بحيث تجعله ينظر الى نفسه وكأنه أعلى مرتبة وقامة من مضطهديه وجلاّديه. ولهذا عادة ما تتهم الأقليّات ببناء الأسوار من حول أتباعها. ولكن ينسى المُتّهِمون أن عملية (بناء الأسوار) لا تبنيها الأقلية أو الجماعة الإنفصالية بل لا تستطيع ذلك بدون أن توفر لها الفئة المسيطرة (مواد البناء) اللازمة. فسياسة التهميش والإقصاء السياسي والإقتصادي والإجتماعي وغيره، توفر البيئة المناسبة لصناعة (الغيتوات) ورفع الأسوار عالية مع الآخر. ومن هنا فإنه يُنظر الى تشييد الأسوار على أنها مجرد (رد فعل) وليس (فعلاً) بحدّ ذاته. فمتى شعرت الجماعة بأنها مهددة في ثقافتها وفي كيانها الإجتماعي اجتمعت وانطوت على نفسها؛ فـ (القمع) وسياسة (التهميش) تولدان (العزل) الذي لا يحتاج معه جهد كبير لتأطيره بالأسوار، فهذا تحصيل حاصل.

ـ تبدأ الجماعة بعد هذا بما يمكن تسميته بـ (رد الفعل الإيجابي) إذ ينخرط أفراد أو وجاهات من المجتمع للدفاع عن مصالح الفئة المغيّبة أو المضطهدة، وفي الغالب تبدي تلك القيادات استعدادها للإنخراط والمساهمة في العملية السياسية حتى ضمن الحدود الدنيا. أي أن الحركة الإنفصالية قد لا تبدأ ـ على الأرجح ـ بالدعوة الى الإنفصال، إلا بعد فشل الخيارات المتاحة، فهي تطالب بـ (الإنضمام) الى عملية سياسية واقتصادية قائمة حُرمت منها دون وجه حق. لكن هذا المطلب قد يُرفض من الناحية العملية، فالقابضون على السلطة لا يريدون (شركاء) جدد يقاسمونهم السلطة والثروة، وإذا ما كانت الفئة المسيطرة فئوية وأقليّة هي الأخرى، كالحالة في السعودية، فإن رفضها يكون تلقائياً وبمبررات لا تقبل المساومة؛ فالإقصاء قد يجد مبرره في التفسير الديني (الوهابية) وهو بمثابة غطاء، أو (مناطقي) أو غيرهما. هنا ما يلبث أن يتطور (رد الفعل الإيجابي) الى (حركة سياسية) أو (حزباً معارضاً) إذا ما فشلت الجهود في تحقيق الحدود الدنيا من الأهداف، فالجماعة في سعيها للبحث عن حلول لمشاكلها، تتطور وسائلها كما تتطوّر أهدافها وآليّات عملها، وقد يلجأ بعض أفراد الجماعة في ظل الصدّ والطرق المسدودة أو الفشل الى التوسل بالعنف كأحد وسائل الحلّ.

ـ هنا يصبح الإرتداد ليس على سياسات النظام، وإنما ضد النظام السياسي بمجمله، أي أن الفشل في (إصلاح) سياسات النظام، على الأقل تجاه الجماعة المعنيّة، يدفع بها الى تبنّي أهداف راديكالية ينظر اليها كحل جذري لأزمة العلاقة بين الدولة والجماعة المضطهدة، وهنا أمام الجماعة واحدٌ من خيارين: السعي الى إسقاط النظام الذي لا تستطيعه، بسبب احتكاره لكل وسائل العنف والإكراه من جهة، وبسبب عزلة الجماعة عن الجهاز الحكومي مجملاً؛ فلا يبقى أمامها من خيار إلا الدعوة الى الإنفصال، لأنّها تمتلك بعضاً من أدواته الأساسية، ولأنّ الخارج الدولي والإقليمي يمتلك بعضاً من تلك الأوراق، أي أن الجماعة الحاكمة لا تمتلك ـ في هذه الحالة ـ كل أوراق اللعبة السياسية. هكذا، تدخل الحركة الإنفصالية طوراً جديداً، بانتظار اقتناص فرصة تحوّل خارجي أو داخلي أو كليهما، كالذي شهدناه عشية أحداث 11/9/2001 لتستثمره أو لتستخدمه رصيداً وأحد الجسور نحو أهدافها.

وكما نلاحظ، فإن شرعية الحركة الإنفصالية بين جمهورها إنما تبنيها بمعاول وأدوات حكومية، فهذه هي التي توفّر مبررات (شرعية) سواء للخروج على نظام الحكم، أو لتقسيم الدولة نفسها. وإذا ما أدركنا أن الحركة الإنفصالية ـ بطبعها ـ تخاطب العاطفة، وتعتمد في الإقناع على المحسوسات، وعلى الإجابات السهلة، أدركنا أنها قادرة على تجنيد أتباع لا يستطيعون مقاومة إغراء الإنفصال عن المركز السعودي غير القابل ـ بنظرهم ـ للإصلاح والتغيير.

 

النخب والإنفصال

 

يمكن الإدّعاء هنا، بأن المشاعر الإنفصالية في المملكة أكثر تبلوراً لدى الجمهور منها لدى النخب، فهذه الأخيرة تخجل أحياناً من أن توصم بالإنفصالية، وتحسب خطواتها في هذا الإتجاه بحرص بالغ، كما يفعل أي سياسي حريص على ألاّ يدفع ثمناً يعلم أن المشاعر العامّة تميل إليه، وكأن تلك النخب تتمنّى أن يقوم غيرها بالجهد والإعلان عن خطاب إنفصالي شديد اللهجة لتستفيد هي منه في ضغوطها المطلبية على الحكم، وإذا لم يحدث ذلك فإن مقولتها المكرورة تقول: (لم آمر بها ولم تسؤني). أي لم آمر بالإنفصال، ولن يسوءني إن حدث!

ما يدفع الى الإعتقاد بأن مشاعر الإنفصال قوية لدى العامّة هو ما يظهر منها من تعليقات وعبارات وأمنيات ومشاعر والتي لا تجد نظيرها بين النخب نفسها، والتي هي أقدر من العامة على كبتها أو عدم البوح بها. لهذا قيل أن المشاعر الإنفصالية في المملكة (دفينة) و (حيّة) يعبر عنها رجل الشارع قبل النخبوي وقبل السياسي. وإذا كان السياسي لم يقتحم بوضوح ـ حتى الآن ـ الساحة ليبلور تلك المشاعر في حركة فاعلة ويقودها، فإنه من الناحية العملية يغضّ النظر عن تطور تلك المشاعر، وقد يؤججها في المجالس المغلقة، بل قد يحرّض عليها من وراء الستار لأسباب تكتيكية، أي أنه من الناحية الفعلية ليس ضدّ الإنفصال مبدئياً، ولا هو مدافع عن الوحدة السياسية القائمة، بقدر ما يعتقد بأن الوقت لم ينضج لإعلان الدعوة، أو نضج بالفعل ولكنه لا يريد أن يدفع ثمن الإعلان، ولذا يحاول أن يتشبّث بحلول أخرى حتى وإن كانت معطياتها لا تعينه، كالإصلاح السياسي وإعادة هيكلة الدولة السعودية من جديد، وهو أمرٌ لازال في رحم الغيب. ومن هنا لا تجد مشاعر الإحباط والإنفصال لدى العامّة اعتراضات حقيقية أو جدّيّة في محيطها الأمر الذي يسمح بنموها من خلال النقاش والطرح العلني الصريح، وتتغذّى على ما يرد من أخبار ومعلومات وأحداث تصيب الجماعة التي يتبلور فيها هذا الشعور. ولو قدّر لمؤسسة تقيس الرأي العام في المملكة، خاصة بين الشيعة في الشرق والحجازيين في الغرب، وفي جوّ من الحرية وبعيداً عن الإكراه او الخوف المستتبع لإبداء الرأي، لوجدنا أن الأكثرية الشعبية تميل الى الإنفصال بدون تحفّظ، خلافاً لرأي النخبة المتردد.

هذا الإستنتاج ـ غير الناضج حتى الآن ـ يمنح الحكومة السعودية الفرصة لإبقاء النخب الدينية أو المناطقية بعيدة عن جمهورها ذي النزعة (الإنفصالية).. ولكن الحكومة لا تمتلك الإرادة لتحقيق هذا الأمر، بل أنها قد لا تمتلك الآليّة الكافية أيضاً. فإبعاد (الرأس) عن ضغوط (الجسد) يتطلّب أمراً مهمّاً، وهو (دمج النخب) المهمّشة في ماكنة السلطة، إذ أن (النخب) لم تتخلّص ـ كما هو شأنها في كل الدنيا ـ من صفتها الإنتهازيّة، ولا يوجد إلاّ القليل بينها ممن يحمل صفة مؤدلجة (مبدئيّة) تجعله لصيقاً بمشروع إنفصالي مبني على حسابات دينية أو تاريخية أو سياسية.

(دمج النخب) هذا ممكن نظرياً، ولكن تعترضه قضيّتان مفصليتان:

الأولى ـ إنعدام الإطارات الجديدة التي تستوعب النخب. فنحن نعلم أن جهاز الدولة قد استكمل وظيفياً ولا توجد به مواقع شاغرة تستوعب مجاميع كبيرة من النخب التي تجد نفسها مهمّشة لأسباب قبلية ومناطقية ومذهبية. والمملكة ـ وهذه إحدى مشكلاتها ـ تتوافر فيها أعداد كبيرة من النخب المتعلّمة والطامحة لدور تلعبه، تفوق في نسبتها دولاً عربية عريقة عديدة. وتزداد المشكلة، حين نعلم أن المقاعد المشغولة لا يمكن للجالسين عليها التفريط فيها، فقد احتلّت في بيئة ومناخ مختلف عمّا هو عليه اليوم، وتجديد النخب أمرٌ صعب في المملكة، سواء بالموت أو الإحالة على التقاعد، أو الترقيات. لن تقبل الفئة المستحوذة على جهاز الدولة (نجد بقصيمها ورياضها دون حائلها) أن تتنازل أو تخفّض نسبة احتكارها لجهاز الدولة لأيّ سبب كان، خاصة إذا كان لصالح فئات تعتبر (دخيلة) على الدولة، بل وتنظر إليها (دونيّاً) على قاعدة المذهب أو العرق أو المنطقة. ربما تستطيع الدولة صناعة إطارات جديدة من خلال التطور الطبيعي لجهاز الدولة، ولكن هذا محدود للغاية، ولا يفي بتعديل كفّة الميزان ولا يلغي شيئاً ذا بال من الإحتكار القائم.

وحتى الإستيعاب ضمن مشروع الإصلاح السياسي مشكوك فيه؛ فالجهاز المسيطر، لا شك أنه خطط أو يخطط، أن لا يأتي الإصلاح ـ إن أتى ـ على حسابه، وسيقلل ما وسعه التقليل، حتى بالإعتماد على وسائل غير شرعية، من حجم ما يعتقد أنه خسارة. فالإنتخابات البلدية والمناطقية والشوريّة إن قامت، يمكن أن تستوعب بعضاً من النخب المهمّشة، ولكن (الإتجاه النجدي ـ الحكومي) سيعمد الى كل الوسائل لتقليص حصص غيره عبر التلاعب بالدوائر الإنتخابية وبالأصوات أيضاً، وبوادر ذلك واضحة للمتابعين اليوم للإنتخابات البلدية والأنظمة التي وضعت لذلك.

الثانية ـ المشكلة الأخرى هي أن فكرة (الدمج) مؤدلجة دينيّاً/ مذهبياً/ وهّابيّاً؛ فالدولة قامت ولاتزال على سياسة الهيمنة والسيطرة الفئوية Domination – Hegemony وليس على قاعدة الإستيعاب والدمج Accommodation – Integration، ومما لا شك فيه أن أي مبادرة لاستيعاب المختلف عموماً، لن تلقى إلا الإعتراض الشديد من قبل المؤسسة الدينية، ومن قبل النخبة النجدية. ولذا، لا يعتقد أن فكرة دمج النخب المناطقية والمذهبية والقبلية وإبعادها عن محيطها (الإنفصالي) أمراً ممكناً بالصورة المطلوبة؛ فقد يجري بعض التعديل هو أشبه ما يكون إشارة الى (الرغبة) الحكومية، وليس (تحقيقها) بالفعل على أرض الواقع.

لذا، لا يعتقد أن تبتعد النخب كثيراً عن إغراءات الدعوة الإنفصالية:

أولاً ـ لأنها ورقة قابلة للإستخدام والمساومة مع السلطة السياسية، بل هي أقوى الأوراق وأشدّها خطراً وتأثيراً لما لها من تأثيرات بعيدة المدى؛

وثانياً ـ لأن الحركة الإنفصالية لا تتوقف ولا تموت في مناخ مثل مناخ المملكة الذي يمنحها كل القوّة والعنفوان عبر منهجية الدولة وسياساتها من جهة، ويحرّم الإفصاح عنها بقوّة القانون وبعصا الأمن من جهة ثانية! الحركة الإنفصالية ستنتج ـ إن لم تكن قد أنتجت بعد، إذ أن الشك يساور المراقب بأن ما يجري في المملكة بعيدٌ عن ضلوع نخبٍ تطالب بالإنفصال ـ ستنتج قيادتها ورموزها في المستقبل، الأمر الذي يشكّل ضغطاً على من يمكن تسميتهم بالجناح المعتدل لتبنّي الخطاب الإنفصالي والدعوة إليه والإنخراط فيه بجدّ، أو يجدوا أنفسهم بدون جمهور حقيقي؛ إذ أن من شأن الحركة الإنفصالية ـ كما شهدت كل المناطق الإنفصالية الساخنة في العالم ـ قدرتها على تجاوز القيادات التقليدية والمعتدلة، وهي في الغالب تعمد الى تحطيم كل من يقف أمامها كالسيل الجارف. رأينا هذا في سيريلانكا، وفي قبرص، وفي جنوب السودان، وفي الفلبين وغيرها. وبمجرد أن تتهاون قيادة الحركة الإنفصالية ـ بعد أن تؤكد شرعيتها وتمثيلها لبني قومها ـ في الدعوة التي أسست بنيانها على أساسها، تظهر فيها الإنشقاقات من جديد. أي أن وحدة الحركة الإنفصالية رهين بنزوعها المتطرّف، ورهين بعدم المساومة، كما هو رهين أيضاً بمسائل أخرى ليس هنا مجال نقاشها.

 

شرعية الحركة الإنفصالية

 

تقوم شرعية الحركة الإنفصالية على قاعدتين رئيسيتين لتحقيق تمثيلها لجمهورها:

القاعدة الأولى ـ هي فصل جمهورها وقطع ما تبقى من خيوط وأواصر مع المحيط الإجتماعي والسياسي المختلف، وبالذات عن السلطة السياسية. وهذه الخطوة لا تمثل تحدّياً كبيراً. فالسلطة السياسية كما في المملكة ليست أثيرة لدى الجمهور لا في الشرق ولا في الغرب ولا في الشمال ولا في الجنوب، وبالتالي بإمكان الحركة الإنفصالية أن تطرح نفسها (كبديل) عن سلطة (غير محبوبة). أي أنها تستطيع أن (تنازع) السلطة السعودية القائمة في مجال الشرعية (المعنوية) وإن بقيت (شرعية القوة) بيد السلطة ـ العائلة المالكة، تلك الشرعية هي (خضوع) أكثر منها شرعية حقيقية وصميمية.

القاعدة الثانية ـ هي أن تصبح الحركة الإنفصالية (الممثل الوحيد) للجمهور؛ فبعد إقصاء السلطة القائمة من لعبة الشرعية المحلية، يبقى التنافس بين القوى المحليّة. هنا لا تستطيع القوى المعتدلة ـ على الأرجح ـ مقاومة مزاعم ودعاوى خطاب الحركة الإنفصالية؛ فمن ينبري للدفاع عن الوحدة السياسية القائمة يُربط بشكل مباشر بـ (الدفاع عن نظام الحكم) أي عن الجلاد، ولن يسلم من يقول بذلك من اتهامات بالعمالة والخيانة ومناصرة الظالم ضد أهله. ولأنّ الجدل لا يمكن أن يتخذ صفة منطقية في مثل هذه المواضيع (من جهة احتساب الأرباح والخسائر، ووضع الأيديولوجيات مقابل الأخرى، والمبادئ مقابل مبادئ مناقضة من أجل المقارنة) يتوقع أن لا تجد التحذيرات من قبل المعتدلين صدىً ذا بال لدى الجمهور، حيث سيختطف قرار (الأكثرية) بسهولة لصالح الخطاب الأكثر تشدداً في مواجهة السلطات، ولن يعدم صانعو ذلك الخطاب من تفنيد رأي المنافس ـ كما هو حاصل الآن في بعض حلقات النقاش ـ لأن (المعتدل) لا يمتلك مادّة يعتدّ بها في الدفاع عن رأيه؛ فالسلطة السياسية لا تعينه بممارساتها، ولا تنظر إليه في الأساس نظرة احترام وتقدير إن لم تكن تتهمه هو الآخر بالإنفصالية والعمالة وغيرهما؛ أي أن المعتدل يقع تحت ضغط جمهور الحركة الإنفصالية من جهة وبطش الحكومة وأجهزتها الأمنية من جهة أخرى، فلا يجد أمامه، والحال هذه، إلا التراجع والإنعزال والإنكفاء، أو الإنخراط في تيار الإنفصالية. أما في حال استمر التراشق بين الإنفصاليين والمعتدلين فقد يتطور الأمر لاحقاً الى العنف، لاثبات (أحقيّة تمثيل الجماعة) كما حدث في مناطق عديدة من العالم.

باكتساح الخصوم السياسيين في دارها، تكون الحركة الإنفصالية قد حققت شرعيتها بين جمهورها من خلال تمثيله السياسي، والتعبير عن طموحاته وتطلعاته المستقبلية.

 

رواج ثقافة الإنفصال

 

بديهي هنا أن الجو الأمني والسياسي في المملكة قد لا يتيح اليوم تعبيراً عن حركة إنفصالية مشخّصة المعالم ـ حتى إن وجدت ـ فتواجدها لن يكون إلاّ سرّيّاً، أما انعكاسات ذلك الوجود فعلنيّة، لا يمكن مكافحتها أمنياً. أي لا يمكن منع النقاش في الموضوع، ولا تداول المواد الثقافية التنزيهية للذات عن المدينة والقبيلة والمنطقة والمذهب وعن شخصيات تاريخية لم تحتوها ثقافة وطنية ولا تاريخ وطني، ولا يمكن منع تفسير خطوات الحكومة وسياساتها المحلية بالصورة التي تخدم الوجهة الإنفصالية، ولا منع المواطنين العاديين من التعبير عن التطلعات والأحلام بقيام دولة (الخاصة) بعيداً عن تغوّل (المركز) واحتكاره وفئويته، كما هو حادث اليوم بشكل واضح في أكثر من منطقة من المملكة.

الحركة الإنفصالية بنموها الحالي، في ظل وجود قبضة السلطة القويّة المتمكّنة، يكشف عن قدرة حكومية محدودة في السيطرة على فضاء (الثقافة الإنفصالية) ومتوالياتها، خاصة إذا ما كانت هذه السلطة ـ بحمقها وجهلها ـ تنحاز الى ثقافة وهوية فئوية، وتدخل في معارك بالنيابة عن تلك الثقافة والهوية، بغرض إضعاف من تعتبرهم خصوماً وتجريدهم من أسلحتهم الثقافية.

وفي كل الأحوال، بإمكان السلطات ـ السعودية ـ أن تلتف، كما فعلت دولٌ أخرى، على هذه الثقافة المولّدة لمشاعر الإنفصال، بتعطيلها عبر استيعابها، والسماح لها بالتعبير عن نفسها. فقيمة (الثقافة الخاصة) وخطورتها لا تنبعان بالضرورة من ذاتها ومن مفرداتها ومحتوياتها، بقدر ما تستمد القوة من المحيط الخانق المفروض عليها، الأمر الذي يجعلها ذات قيمة كبيرة لأتباعها، ويجعل منها موضوعاً سياسياً خطيراً حين توضع الى جانب قضايا أخرى عالقة، فتصبح نسيجاً ملغوماً. بإفساح الطريق لها، نشراً وتوزيعا، تفقد الثقافة الخاصة أهم عناصر قوتها وهي كونها (ثقافة المتميّزين) أو (ثقافة المحرومين) أو (الثقافة الممنوعة والمضطهدة) والتي ما مُنعت إلا لقيمتها وأهميتها! بإفساح المجال لها، تصبح عناصر تلك الثقافة (مكشوفة) وعرضة للجدل والنقاش والطعن بين جمهورها كما بين أعدائها او مخالفيها، فتؤسس بذلك عناصر (عقلنتها) والسيطرة عليها، وتخرج من كونها سلاحاً للتدمير الشامل أو العابر للقارات!

 

شرعنة الإنفصال مقابل شرعنة الهيمنة

 

في الغالب لا يشرعن (الإنفصال) إلا إذا شرعنت (الهيمنة) من قبل فئة ما في الدولة. مقابل الإحتكار السياسي والديني والإقتصادي والعسكري، يكون هناك من يطالب بالإنفصال عن دولة بهكذا مواصفات فئوية. يتعدّى موضوع شرعنة الإنفصال موضوع (وجود حركة انفصالية) الى شرعنة (الجماعة) نفسها والتي تقطن إقليماً معيّناً. فالإحتكار وسياسة الهيمنة يتضمنان إعلاناً فاقعاً بأن (الآخر) ليس موجوداً البتة. ولقد مضى زمن على السعوديين ـ كأفراد ـ وهم لا يعرفون طبيعة النسيج الإجتماعي الذي تتشكل منه الدولة. فإلى وقت قريب لم يعرف كثيرون أن هناك شيعة في المنطقة الشرقية، أو إسماعيليين في الجنوب، أو متصوفين في الحجاز، أو أتباع المذاهب الأخرى السنيّة غير الوهابية. وحتى من أدرك شيئاً من هذا الوجود، ففي الغالب كان إدراكاً لشيء ضئيل الأهمية، لم تسلّط عليه الأضواء، ولم يعطَ حجمه، بالنظر الى سياسة الدولة في تغييب المخالف أو المختلف كليّاً عن فضائها وصورتها المحلية والخارجية، وتعمّدها على إظهار صورة نمطية واحدة تتشكل منها الدولة.

الإحتكار من جهة، يعني (إلغاءً) لجهة أو جهات.. إلغاءً ثقافياً أو سياسياً أو غيرهما؛ إنه شطب ـ بكل ما في الكلمة من معنى ـ لذلك الوجود، ولحقّه في التعبير عن ذاته، ولحقوقه الأصيلة في دولة. والإحتكار وسياسة الهيمنة تعنيان (العزل)، وهو أبعد أثراً من (التهميش) والعيش على حافة المجتمع أو في أدنى درجاته الطبقية والوظيفية والإعتبارية. ولهذا اكتسبت الدولة السعودية وجهاً (نجدياً) منذ نشأتها؛ واكتسبت (الوهابية) تمثيلاً لمجتمع متعدد بدون منطق أو وجه حق، عدا الزعم بامتلاك الحقيقة الدينية التي لم يمتلكها أحدٌ من الأولين ولا الآخرين! هذه الصورة للدولة من الخارج كان يجب أن تكشف للواعين عن (مرض) عضال، مرض قد يودي بحياتها دونما مقدمات، كون هذه الصورة مزيّفة، لا يفيد الإدّعاء بأنها صحيحة، ولا يفيد إقناع الآخر الخارجي بأنها كذلك، طالما أن كثيراً من المواطنين يعلمون علم اليقين أنها صورة ليست صحيحة.

ولذا، فإن الجماعات المشكلة للمجتمع السعودي، وإن خضعت لقهر السلطة ومذهبها، فإنها كانت تحثّ الخطى في الدفاع عن ذاتها (كجماعات) جرى إلغاؤها، وتحاول إثبات حضورها ووجودها بكل الوسائل الممكنة. إن من يُلغى في النشرة الجوية، ويلغى إسمه من خارطة المملكة الجغرافية، ويلغى وجوده في مؤسسات الدولة ولا يستطيع أن يبيح بهويته الخاصة ولا حتى بمكان سكناه وتولده، كما لا يستطيع أن يدافع عن حقه المنهوب جهاراً نهاراً، لا يمكن أن يوصف إلا بأنه يعيش (معركة وجود) و (تحدّي بقاء) سواء اتخذ الصفة المناطقية أو الثقافية أو غيرهما.

 

نجد (الرسالية) و (دروع الحماية)

 

تستطيع نجد أن تشرعن سياسات الهيمنة على نظيراتها، بأنها المنطقة (ذات الرسالة) التوحيدية الدينية والسياسية؛ وأنها المنطقة التي تبنّت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تلك الدعوة التطهرية النجدية الصحيحة، التي لم يدرك قيمتها إلا أهل نجد، الذين يتولون الدفاع عنها وإدخال الناس فيها شاؤوا أم أبوا. ليست (نجد) وحدها من يبرر السيطرة على الآخرين بمثل هذه المزاعم؛ فكثير من الجماعات فعلت ذات الشيء، واستناداً الى الحقيقة الدينية، كما فعل الموارنة في لبنان الذين رأوا في لبنان (بيتاً للموارنة)، والأمهريون في أثيوبيا الذين روّجوا بأن أثيوبيا هي بيت المسيحية الأصلي في العالم، والسنهاليون في سيريلانكا الذين اعتبروا أنفسهم الوحيدين الذين يدافعون وينشرون ويحمون العقيدة البوذيّة.. كل هؤلاء، زعموا أن لهم (رسالة دينية خالدة) جرى من تحت غطائها الإستيلاء والإستحواذ على السلطة، أو على الأقل أن يكون لهم قصب السبق فيها كمواطنين درجة أولى لا يتمتع بها غيرهم. والغريب أن كل هؤلاء عاشوا حروباً أهلية، وبعضها حروباً انفصالية، نجحت في أثيوبيا ولاتزال قائمة في سيريلانكا.

مقابل (الجماعة الرسالية النجديّة) تتوسل الجماعات الأخرى في المملكة التي تعاني من (الإلغاء والشطب) بـ (دروع حمائية)؛ واحدة منها، التأكيد على شرعيتها من خلال الطرح المكثّف لما يمكن تسميته بـ (تأصيل الوجود) في مواقعها وأقاليمها. فتسمع بين سكان المنطقة الشرقية جملة معتادة لدارسي الأثنيات وهي (نحن السكان الأصليون).. إن التأكيد على هذه الأصالةIndigenousness  مقابل (الأغراب) ظاهرة واضحة وتمثل ردّاً تلقائياً على سياسة الإستحواذ والهيمنة التي تقوم بها الفئة الكبرى أو الفئة المتسلّطة بالقوة وإن لم تكن الأكبر حجماً وعدداً. وكلما تعرضت جماعة للخطر الديمغرافي أو الثقافي أو التهميش السياسي وغيره، صدّت العدوان بمقولات (أبناء الأرض) و (السكان الأصليون). وهذه التعبيرات تعني في أحد وجوهها (تملّكاً لإقليم معيّن)، و(استحقاقاً لتكوين دولة خاصة)، أو تملكاً للدولة القائمة (own the country)  كما بالنسبة للفيجيين الأصليين مقابل الفيجيين من أصل هندي، أو النجديين مقابل باقي فئات المجتمع السعودي، الأمر الذي يترتب عليه مطالب تحصيص وظائف عليا معيّنة بيد هؤلاء الأصلاء، وحقوقاً إضافية يرون أنهم جديرون بها.

في المنطقة الشرقية من المملكة، يُلحظ أن وجهاء الشيعة ومنذ زمن بعيد في مراسلاتهم مع رموز الدولة، وهي منشورة على أية حال، استخدموا عبارة (السكان الأصليين) وهم إذ لم يتجاوزوا الحقيقة في هذا، فإنهم إنما استخدموا ذلك للمطالبة بحقوقهم على قاعدة (الأصالة) و (التملك) بالرغم من أن ال سعود يعتبرون البلاد كلها ملكاً لهم، ورثوها من آبائهم وأجدادهم، وليس محض السلطة فحسب! أي أن الدفاع عن حقوقهم ـ كشيعة ـ لم يتم بناء على قاعدة المواطنة بالضرورة، وهي قاعدة صلبة من حيث المفهوم، ولكنها في التطبيق لا يعتدّ بها البتة في بلد كالمملكة العربية السعودية. ولعلّ استخدام هذا اللفظ فيه (دفاع عن الذات)؛ فتغوّل الدعوات الوهابية المتطرّفة بـ (طرد) ملايين الشيعة خارج الحدود، أشعل رهبة في النفوس، وكأن الشيعة بتثبيت أصالتهم في مناطقهم وتحقيقها تاريخياً يريدون القول بأن الآخر (النجدي ـ الوهابي) هو (الطارئ)، وهو من يجب أن يرحل عنها حكماً ووجوداً. وإنه مما يؤسف له حقاً، ان الحكومة السعودية ـ في فورة الطائفية في الثمانينات ـ ألمحت الى أن مواطنيها (الشيعة) ليسوا (أصلاء) أو (أصلاء) ولكن بدون حقوق، وإذا ما قاموا بمناهضة الحكم السعودي، فمن حق النظام (طردهم!).

منعاً للتقوّل، نسوق مثالين سريعين في هذا الإتجاه، جرى ذكرهما في دراسة سابقة، لمجرد البرهنة، بأن الدعوة الإنفصالية في عمقها قد تكون (دفاعاً عن الجماعة وكيانها ككل).

الأول: قدمت لجنة من الأمم المتحدة خاصة بالتمييز على أُسس دينية تساؤلاً فيما يتعلق بمعاملة الحكومة السعودية لمواطنيها الشيعة، وما يتعرضون له من اعتقالات عشوائية ، وقد جاء الجواب السعودي المدهش في 14 نوفمبر 1990 على النحو التالي: (لا أحد مجبرٌ على العيش والعمل في السعودية برغم إرادته. وإذا كان كارهاً لقوانينها وضوابطها، فعليه أن لا يختارها للعيش فيها. أمّا إذا اختارها فعليه أن يحترم ويقبل ـ وبكل دقـّة ـ كل قوانينها وضوابطها، وإذا ما خالفها، فإنه معرّض للعقوبات الموجودة والقائمة)!

الثاني: بعد أحداث المحرم الدموية في المنطقة الشرقية سنة 1400هـ/ نوفمبر 1979م، أرسل وجهاء الشيعة برقية الى الملك خالد، في الخامس من صفر 1400هـ، شرحوا فيها ما حدث: الإستفزاز الحكومي ، القتل، الإعتقال، فرض حظر التجول، الطائرات وقصفها للمواطنين، الحرب الحقيقية في الشوارع، وتحدثوا عن أسباب الأزمة وجذورها. وفي 25 من الشهر نفسه رد الملك في برقية نفى فيها أن تكون القوات الحكومية قد قامت بتعديات، ونفى أن يكون هناك قتلى وجرحى. ومما جاء في برقية الملك جملة ذات دلالة تقول أن (من شاء البقاء فليبق) أي من أراد أن يبقى في هذه البلاد فليبق أو فليخرج إن كان يريد المعارضة، أو لم تعجبه السياسة الرسمية. ولقد هزّت تلك العبارة الوجهاء الشيعة هزّاً عنيفاً وردوا في رسالة الى ولي العهد ـ الملك الحالي ـ كونه هو الملك الفعلي، وذلك في 11 ربيع الأول 1400هـ/ 1980م، قالوا فيها: (وإننا لباقون في بلادنا، مهد أجدادنا وأحفادنا رغم كل ما يدبره المغرضون، ولن نخرج منها ولو أُرغمنا). عموماً لا تزال دعوات الوهابيين بطرد الشيعة قائمة ومؤصلة وهي ليست جديدة في نوعها.

إن كلمة (بلادنا) لا تعني سوى (الإقليم) وليس (المملكة).. فساحة (معركة الوجود) ليس في الحجاز أو نجد أو حائل أو الجوف أو نجران، وإنما في عمق المنطقة الشرقية ومدنها التاريخية.. بيد أن المنطق المدهش الخارج عن سياق التاريخ في معركة (إثبات الوجود) يكمن في حقيقة أن هناك فئة (وهابية) لا تزعم ولا تستطيع أن تزعم بأنها أصيلة في المناطق الشرقية، ولا أنها جاءت قبل الشيعة بقرون، فتاريخ الوهابية حديث، كما هو تاريخ آل سعود الذي يشرعنون حكمهم على خلفية (ملك الآباء والأجداد!).. ومع هذا ترى أن من حقها ليس الإستحواذ على الحكم فحسب، بل أن من يعترض على ذلك لا يحق له البقاء في الأماكن والمناطق التي يعيش على أرضها. هذا النوع من التهديد لم يحدث ـ حسب علمنا ـ حتى في أسوء الدول التي تعيش حروباً داخلية وصراعات حادّة. ربما يكون اليأس من صهر الشيعة مذهبياً، وربما يكون لوجودهم في أغنى منطقة في المملكة هو ما يحفّز هذا النوع من الدعوات الإستئصالية؛ إذ لم يتحدث أحد من الوهابيين مثلاً عن طرد الإسماعيليين في الجنوب (نجران) رغم الخصومة المذهبية، ولم تصل النظرة الدونيّة النجدية للحجازيين وأصولهم المختلطة الى حدّ المطالبة أو التلويح (رسمياً) بطردهم من البلاد، وإن ظهر من بعض متطرفي الوهابية مثل هذه الأقاويل.

إن (شرعنة وجود) الجماعة في هكذا محيط يقتضي ـ بل يفرض أحياناً ـ بروز نزعات إنفصالية حادّة، قد تخفيها عضلات السلطة عن السطح الى حين؛ فالتأكيد على الهوية الخاصة والتاريخ الخاص والشخصيات الخاصة بالمنطقة ضرورة لتثبيت الأقدام أمام خصم لا يفتأ يهدد المجموعة كلّها بالطرد أو بالسحق أحياناً (أو بالإخصاء ربما! حيث طالب الشيخ الوهابي ناصر العمر بوضع حدّ لتكاثر الشيعة كما قال!) وليس مجرد حرمانهم من حقوق صارت من البديهيات في عصر الدولة القطرية/ الوطنية.

 

درع الحق التاريخي في السيطرة والحكم

 

في الحجاز، تستقي الحركة الإنفصالية زخمها وشرعيتها من منابع مختلفة. فمنطقة نجد تظهر شرعيتها في الإستفراد بالسلطة بأثواب مختلفة، حسب طبيعة المنطقة المهيمن عليها، بل حتى بين المهمشين داخل نجد نفسها؛ فإقصاء سكان حائل لا يعتمد ذات المبررات، وفي الجنوب تظهر نجد نفسها ليس فقط حاملة رسالة دينية، بل ومبشرة بالتطوير والإنتعاش الإقتصادي، كون تلك المنطقة فقيرة، وأن أهلها بحاجة ماسّة الى (الدين الصحيح) القادم من الشمال. هنا تأخذ الهيمنة ذات مبررات الإستعمار الأوروبي، فهم ما جاؤوا إلا للتطوير، وخدمة السكان، الذين هم مجرد (قرود على حيود) أو (زيود يهود) لا يحق لهم أن يساهموا في صناعة وطن، والمشاركة في قراراته كبيرة أو صغيرة، إذ (يكفيهم أن أكثر المغنين منهم) كما قال نجدي ـ قصيمي ـ علماني متعصّب ذات مرّة ساخراً، ردّاً على سؤال حول غياب مشاركة الجنوب في صناعة القرار السياسي والديني.

وبالنسبة للحجاز فإن نجد تحاول أن تطوّر خطاباً يمثّل قاعدة يستند إليها في التبرير والهيمنة السياسيين، فماذا عسى نخبها أن تزعم بغير الصفاء الديني، و(فتح) مكة كما فتحها رسول الله، وكيف أن الوهابيين هدموا القباب ومعابد الشرك، كما هدم رسول الله الأصنام؟! هي إذن (الرسالة الدينية) التي انتدبت نجد لها: تخليص الأماكن المقدسة من الشرك، ومن المتصوفة، ومن عبادة الأوثان كيما يعبد الرحمن حق عبادته. هل انتهت المسألة عند هذا الفتح؟! لا. فالرسالة الدينية تتواصل بتعمير الحرمين الشريفين وخدمة الحجاج! ثم ما يفيض من خير يأتي متسربلاً من نفط الشرق الى الغرب ببركات الموصل الحراري النجدي لينعم به أهل الحجاز.

يفترض أن (الرسالة الدينية) قد حققت أهدافها بسيطرة الوهابيين على المناطق وفرض مذهبهم. ويفترض أن يكون حكم الأشراف في ذمّة التاريخ، فقد خلّص الوهابيون أهل الحجاز من (ظلم وطغيان) الشريف وعائلته! ولكنهم احتلوا هم مقاعد الأشراف، وصاروا موزّعين لفتات السلطة والثروة كلّ حسب قربه من المركز!

هل ينتج هذا تبريراً كافياً لعلاقة الهيمنة السائدة بين الحجاز ونجد؟ هل تكفي القوّة والتبشير الديني ـ حتى مع افتراض تحوّل أهل الحجاز كلّهم الى المذهب الوهابي ـ لإنهاء المشكلة؟ بالطبع لا. فقيادة نجد ـ آل سعود ـ لا تستطيع الإعتماد على (الحق التاريخي) في الحكم خارج إطار نجد. فالخارج يُحكم بمبررات أخرى لم يهضمها سكان تلك المناطق حتى الآن. ولهذا ذكرت في دراسة سابقة: (إشكالية الوحدة والإنفصال في المملكة العربية السعودية) أن منطق (ملك الآباء والأجداد) يجب أن يتغيّر، لأن لا أحد خارج نجد يقرّ لآل سعود ونخبة نجد السياسية والدينية بالحكم وفق هذه القاعدة، خاصة وأن الجميع يستطيع أن يستخدم نفس العبارة للدفاع عن حقه في حكم ذاته أو منطقته مقابل آل سعود.

من هنا تحديداً تستقي الإنفصالية في الحجاز زخمها؛ ومن هنا يبدأ الحجر الأساس في الدفاع عن الجماعة وهويّتها. تحاول نجد أن تشرعن نفسها إضافة الى ما ذكر سابقاً بأنها (الوريث) لحكم (الأشراف) وغيرهم من العوائل المالكة في مختلف مناطق المملكة، أو الوريث للحكم العثماني (في الحجاز والأحساء خصوصاً).. لكن شرعنة الهيمنة بهذه الصورة لا تقف عند مرتكز سوى (القوّة ـ الإحتلال). فحق (الفتح/ الإحتلال) هو جوهر الهيمنة النجدية، وما عداه من تبريرات دينية ليس سوى غطاء، قد يستخدم غيره ـ قبلياً أو عرقياً مثلاً ـ في حال كان السكان وهابيون (حائل مثلاً وبعض مناطق الجنوب). هذا التبرير، يشرعن العنف ضد الدولة القائمة وضدّ نجد عموماً، فضلاً عن أنه متهالك، لأنّ مناطق أيضاً احتلّت أجزاء من نجد تاريخياً، فليس من بنى إمبراطورية في الماضي يحقّ له الإستمرار لأنه كان محتلاً ذات يوم. وإلا فإن المنطق يدعونا اليوم الى القول بأن آل سعود يمتلكون حقوقاً تاريخية في قطر والكويت والإمارات كلّها وعمان، كونها احتلتها كلها أو أجزاء كبيرة منها في فترات متقطعة من القرن التاسع عشر الميلادي. أعلم أن بعض النجديين يقولون بهذا، ويرون أن هناك خطأً تاريخياً ارتكب وكان ينبغي إزالة كل دول الخليج الأخرى لصالح المركز النجدي، وبنفس المنطق آنف الذكر.

لكن هل تنبّه هؤلاء الى المنطق المعكوس أيضاً؟ فتلك الدول نفسها تستطيع المجادلة على قاعدة الحق التاريخي كون بعضها احتلّ أو سيطر على مناطق الشرق. هل يحقّ للحجازيين استعادة حكمهم الخاص بهم، بناء على منطق (ملك الآباء والأجداد) و (الحق التاريخي في الإمتداد الى نجد والجنوب والشمال)؟ هذا ليس مدّعىً صعباً، وقد مارسه ويمارسه كثيرون؛ فالسيخ إنّما يرتكزون على دعوتهم الإنفصالية على هذا الحق التاريخي، وعلى التمدد وإعادة الإمبراطورية التي بنوها (امبراطورية مارثا). وهناك مجموعة غير قليلة من الجماعات في غرب أفريقيا ـ خاصة نيجيريا ـ تتطلع الى الفتوحات/ الإحتلال لتعيد أمجادها الغابرة.

(درع الحق التاريخي) في الحكم لا يمكن تخطئته في الحجاز، فهو يستخدم بصور شتى، في المقارنة بين حكم آل سعود والأشراف، وفي الشحن الداخلي الثقافي والتطلعات السياسية لاستعادة سيادة الحجاز واستقلاله؛ أو على الأقل في مواجهة الهيمنة النجدية. لماذا يرث النجديون عرش الحجاز، وليس الحجازيين؟ تساءل مثقف حجازي ذات مرّة، وقد كان السؤال الإحتجاجي في مكانه؛ لماذا باؤكم تجرّ وباؤنا لا تجرّ؟ هل هي القوّة التي تمنح الشرعية؛ إذن لنبحث عنها، ولنستعد الى المستقبل، ولنبحث عن الهوية الضائعة او المستباحة في بطون التاريخ ونجلّيها عالية واضحة.

(الحق التاريخي) يمدّ الحركة الإنفصالية بجزء حيوي من مشروعيتها، أولاً في الإعتراف بكينونتها وخصائصها؛ وثانياً يمدّها بالمعنويّات الكافية لأن تدير شؤونها بنفسها، خاصة وأن شرعنة الحركة الإنفصالية خارجياً، أي في محيطها الإقليمي والدولي، يعتمد في كثير من جوانبه على تراث الجماعة الإنفصالية السياسي وما إذا كانت قد حكمت نفسها من قبل، وما تشير اليه من جهة قابليتها وإمكانيتها في حكم نفسها في الوضع الحالي، بمعنى أنها جرّبت واستطاعت حكم نفسها، بل والسيطرة على غيرها؛ وثالثاً يمدّ الحقّ التاريخي الحركة الإنفصالية أفراداً ومجتمعاً بزخم معنوي غير عادي تعتمد عليه في تمييز ذاتها وفي المطالبة بحقوق تعتقد أن لا مساومة فيها.

ربما من سوء الأقدار بالنسبة لمنطقة نجد، أنها سيطرت على مناطق متعددة المذاهب والثقافات والنشاط الإقتصادي.. ومن سوء حظها أن كل المناطق تقريباً تتمتع بإرث تاريخي لا يقبل الجدل، كما أنه ليس بعيداً عن الذاكرة، كون الدولة السعودية ـ النجدية ـ الوهابية حديثة منشأ، قريبة عهد بذلك التراث السياسي مزدحم الفصول وموضع التشابك. ليس (الحجاز) وحده من يمتلك ذلك التراث، بل في الجنوب والشرق والى حدّ ما في الشمال، فالمركز النجدي لا يستطيع أن يبحث في تراثه السياسي الفاعل أبعد من قرنين، في حين يستطيع الحجازيون والشيعة وغيرهم الحديث عن قرون من الزعامة، وعن دول أقاموها وسادت، بالرغم من أن المركز النجدي يحاول أن يحطّ من ذلك، بالزعم ـ مثلاً ـ أن الأشراف لم يحكموا سوى تسع سنوات (بين عامي 1915-1924).

ومختصر القول هنا، أن هناك (شرعنة للتمايز والإنفصال بين المناطق مقابل شرعنة الإستفراد والهيمنة النجدي)، ولا يمكن التخفيف من تلك الشرعنة إلاّ بالعودة الى الحلول الجذرية: إبعاد الدولة عن فئويتها، والقبول بتعددية ثقافة مناطقها، وتحصيص السلطة والثروة بشكل أقرب الى العدل، وبناء روح المواطنة القائمة على هوية وطنيّة لا تستثني أحداً ولا تسوّد فئة على أخرى.

 

شرعنة الذات من خلال شرعنة الآخر

 

بالطبع فإن كل منطقة من مناطق المملكة تستطيع شرعنة ذاتها مقابل المركز، وشرعنة المركز في الوقت ذاته ليست مبنيّة على أسس قويّة، فالجماعة (ذات الرسالة الدينية التطهرية الخالدة) فشلت في إقناع الآخر بأحقيتها في التسوّد، ولربما ـ نقول ربما ـ وجد بين الشيعة والحجازيين من يعتقد أنه يحمل رسالة خالدة؛ وهل يمكن أن تكون هناك رسالة دينية أقوى صدىً في حال انطلقت من الحجاز؟

لا شك أن بعض الأسس المشرعنة للجماعات تختلف في قوتها، لكن ما يهم حقاً ليس شرعنة الجماعة (داخل حريمها وجغرافيتها)، فهذا لا يعدّ نجاحاً حقيقياً، فإذا استطاعت نجد مثلاً أن تقنع جمهورها وأتباع (رسالتها الدينية الصحيحة) بأحقيّة تميّزها السياسي وسيطرتها وإثرتها بالحكم والغنم، فإنها في الوقت نفسه ـ وهذا مؤكد ـ فشلت في إقناع الآخر المهيمن عليه بتلك الأحقيّة. فالجماعات (الدونيّة) أو التي أريد لها أن تكون كذلك لم تفشل ـ مثلها في ذلك مثل نجد ـ في إقناع جمهورها بتميزه وأن له حقوقاًً يجب أن تصان وأن يحصل عليها، أي أنها نجحت مثل المركز الإقصائي، في شرعنة نفسها داخل إطارها الديني والجغرافي. هل نحتاج الى أدلّة تثبت ذلك؟ لننظر الى ما وراء مطالب الجماعات المهمّشة؛ الحجازيون يقولون بأن حصتهم في السلطة قليلة؛ والشيعة يقولون بأن خيرات البلد تأتي من مناطقهم وبالتالي فإن لهم حقاً مضاعفاً فيها، لا تجريداً لذلك الحق؛ وأهل الجنوب يعتقدون بأن المركز وربما الأطراف أيضاً قد تعمّدت إقصاءهم؛ وأهل الشمال ـ خاصة الجوف ـ يتميزون غضباً لإهمالهم وكأنهم سقط متاع. ترى، ألا تكمن وراء هذه المطالب قناعات قويّة بين جمهورها غير النجدي؟

ليس مهمّاً بدرجة ذات بال إن كانت هذه المطالب صحيحة أم سقيمة، وهي على الأرجح صحيحة جداً، ولكن المهم هو (قناعة) المواطنين المعنيين بها، بدرجة لا تستطيع الآلة الدعائية الحكومية إقناع الآخرين بعكس ذلك. هذا هو المهم، وهذا هو جوهر ردّة الفعل إزاء تميّز المركز النجدي. (الشعور بالمظلومية) أخطر هنا من (حقيقة الظلم من عدمه) نفسه، لأن ذلك الشعور هو واحدٌ من مولّدات ومحفّزات الحركة الإنفصالية.

يطيب للمركز أحياناً ـ ويستطيب بمبالغة أحياناً ـ أن يعدد إنجازاته خارج إطاره الجغرافي، ربما كمحاولة إقناع للآخر بأنه على أحسن ما يرام، وأن المركز يعتني به جيداً، وفي هذا تضليل للذات أكثر منه تضليل للآخر. إن من يجب أن يُصدر صكوك نجاح المركز ليس هم القائمون على المركز، بل المحكومون به والتابعون له؛ وهذا يعني أن شرعية المركز لا تأتي فقط من أتباعه، بل الأهم والأكثر حسماً أن تأتي الشرعية من خارج إطاره الديني والسياسي والجغرافي. وإذا كان المركز النجدي يشرعن نفسه ونهجه الإقصائي اعتماداً على أتباعه فقط، فإنها في الحقيقة شرعية ناقصة لجماعة ترى أن الحكم حق خاص بها.

لا يجب أن يفوتنا حقيقة أن الشرعية ذات وجهين متقابلين: أن تشرعن الجماعة نفسها (مقابل أو عبر) شرعنة غيرها. فإذا لم تعترف الجماعة (المهيمنة) بشرعية وجود الجماعات الأخرى، خسرت هي أيضاً (شرعنة) تلك الجماعات لحقّها في السيادة والسيطرة. إنها كالدول، من لا يعترف بدولة ما، لا تعترف به تلك الدولة أيضاً. بإمكان نجد أن تلغي الجماعات الأخرى وحقوقها من الأذهان، ولكن هذا يترتب عليه ـ كما هو حالياً ـ النظر اليها (كجماعة محتلّة مغتصبة لحقوق غيرها) ويصبح النضال ضدّها مشروعاً، إما عبر تقويض هيمنتها أو عبر الإنفكاك والإنفصال عنها أو عبر تعديل الموازين من خلال بوابة الإصلاح الشامل.

إن عدم إعتراف نجد بالآخر، بحقوقه السياسية والثقافية والإقتصادية، لا يضرّ (اللا معترف) به فحسب، بل يضرّ (الإقصائي) نفسه. إنه يضرّ بالقيادة السياسية ـ آل سعود، وبالمؤسسة الدينية ـ الوهابية كقيادة دينية أيضاً. وإذا وجدت هاتان القيادتان نفسيهما دونما حاجة لشرعنة نفسيهما (عبر الآخر المعترف به والمتساوي في الحقوق) فإنهما (اختصرتا) ـ وبسهولة جداً ـ الطريق الى الإنفصالية وتفكيك سلطة المركز والدولة التي أقامها.

وأخيراً فإن عدم شرعنة الجماعات والمناطق بثقافاتها المتعددة، وفي الوقت الذي ينتج حيفاً يقع عليها وعلى أتباعها، فإنه في نفس الوقت يسهّل من (شرعنة مطالبها الإنفصالية) ومن بث رسالتها الإنفصالية بين جمهورها، ومن ثمّ  ما ينتج عنه لاحقاً من زيادة رصيد شرعية الجماعة الإنفصالية في الخارج الدولي والإقليمي. هنا ينبغي أن نؤكد، أن شرعية الجماعة المهمّشة، وسواء سارت باتجاه الإنفصال أو عدمه، قد أكّدت ـ تاريخياً ـ وجودها الشرعي بنظر الآخر خارج الدولة. فعدم الإعتراف بحقوق أو بوجود الجماعات المذهبية والمناطقية، لا يغير من حقيقة وجودها على الأرض، وأنّها معروفة لدى الخارج، فالمركز ـ على سبيل المثال ـ لا يستطيع أن يلغي شيئاً إسمه الحجاز ونجران وحائل والجوف والأحساء والقطيف، وإن إلغاء وجود المختلف في هذه المناطق من ذهنيّة المركز النجدي، لا يلغيه من أذهان الآخرين في الخارج، فحضوره واضح تاريخياً وحاضراً؛ ولهذا، نجد أن الحكومة السعودية ضعيفة في دفاعها ـ هذه الأيام ـ تجاه الأسئلة المتعلقّة بالحقوق المدنية لجماعات ومناطق ترى أنها مهمّشة ومضطهدة.