الإندماج الوطني في المملكة السعودية

محـرّضـات الـنـزوع الإنـفـصـالي

 

د.فؤاد ابراهيم

 

إن سطوة التهمة المصاحبة للاقليات كونها تمثل حواضن نموذجية للنزعات الانفصالية والنفوذ الاجنبي تزاول أحياناً دوراً غوائياً ماكراً ضد المعيارية العلمية والحياد الاكاديمي. فالخضوع تحت تأثير ممليات هذه التهمة يدحض اي مبرر لاضاعة الجهد والوقت في قضية محسومة، وفي بحث قد تم استخلاص وتقرير النتيجة فيه سلفاً. وهذا من جهة ثانية يعفي الجهة المتضررة الافتراضية، أي الدولة، من أية مسؤولية عن تنمية وتعميق مثل تلك النزعات التي تدفع بجماعات سكانية معينة لتبني مشاريع انشقاقية.

من الناحية النظرية، ثمة اتفاق على أن مخاوف الدولة تنبع غالباً من القضايا التي أخفقت فيها، مثل الاندماج الوطني حيث تخشى من ظهور حركات إنفصالية كرد فعل على الاحساس العميق بالخسارة والتمييز، والمشاركة السياسية حيث تخشى الدولة من ظهور تشكيلات سياسية اعتراضية تستهدف الاطاحة بنظام الحكم أو اجباره على توسيع قاعدة المشاركة وصناعة القرار السياسي، والحرمان الاقتصادي حيث تخشى الحكومة من تنظيم الاعتصامات والاضرابات العمالية والتشكّل النقابي بمضمونه الاحتجاجي، وفي بعض الحالات شلّ عجلة الاقتصاد وربما تخريب المنشآت. إذن فهناك مخاوف جديّة لدى الدولة تعود الى الطريقة التي تدير بها الطبقة الحاكمة الشؤون العامة وردود الفعل الناجمة عن تلك الطريقة، وبالتالي فإن نشوء ظواهر انفصالية او احتجاجية لا يتم معزولاً أو في فراغ، بل هناك منتجات طبيعية لتفاعلات داخلية وتراكمات معقدة في العلاقة بين الدولة وبعض اجزاء من المجتمع.

وعلى اية حال، فإن هذه المشكلة تعود الى تشكيل الامم، فهناك أمم تاريخية وهناك امم متاخرة (belated nations)، كالتي نشأت في القرنين الماضيين تحت ظروف سياسية واجتماعية وجغرافية معينة، وهناك أمم لم تتشكل بعد بالرغم من وجود افرادها داخل دولة واحدة، كما هو الحال بالنسبة للسعودية التي يصدق عليها وصف دولة بلا أمة. وفي واقع الامر أن الدولة القومية تقوم على توافق بين الاقليم والسكان بدرجة أساسية. نشير هنا الى أن فكرة التوافق هذه هي منتج الحداثة الغربية التي جرى تصديرها الى ارجاء العالم، وهناك تشديد متواصل على ان لا يكون سكان الدولة يتحدّرون من روابط اثنية متفاوتة بما يخلّ في التوافق بين الحدود الاثنية والسياسية.

يلتقي ما سبق مع حقيقة باتت معروفة في علم السياسة وهي أن الدول القومية في الاصل قائمة على اساس التمييز ضد الاقليات، ويزداد تفاقم السياسات التمييزية في الدولة غير القومية بالمعنى السياسي والقانوني، أي في الدول التي قامت في الاصل على خلفية فئوية، اي على تمثيل مجتزء ومنقوص، بمعنى حين لا تمثل الدولة الاغلبية السكانية كما هو الحال في الدول القومية. ولكن ما يخفي غلواء الدولة وطغيانها واجحافها في تحقيق العدل الانصاف، هو كونها أساسية وجوهرية بالنسبة للنظام الدولي الحديث، ولا لكونها الاطار الامثل للعلاقة بين بني البشر، فقد بات من الضروري من اجل تثبيت نظام تبادل مصالح على مستوى دولي ان يتم اقرار اطار ثابت يحظى بالتوافق ويكون صالحاً لاعتماده دولياً ويكفل تداول المصالح وروداً وعبوراً وصدوراً.

إن جذر مشكلة الدولة في حقيقة الأمر يمتد الى الوضع القانوني للجماعات السكانية فيها. فالنقطة الرئيسية التي تدور حولها الخلافات السياسية في أغلب الدول هو شخصية الدولة والاوضاع القانونية للمواطنين فيها.  فالمواطنون الذين يجري التعامل معهم على أساس كونهم من الدرجة الثانية، حيث يتم التجابه معهم من خلال سياسات تمييزية منظّمة يمكن التنبوء بردود أفعالهم حيال تلك السياسات. في تطبيق ذلك على السعودية، فإنه بالرغم ان الاضبارات القانونية لا تتضمن نصّاً يملي سياسة تمييزية ضد الشيعة، بسبب غياب حافظة قانونية وتشريعية متماسكة ومؤطّرة، فإن التعليمات الشفهية والتعبئة الدينية والثقافية العامة طيلة عقود كانت كفيلة بصناعة وضع شبه قانوني يفوق في سطوته القانون المكتوب، كونه يستند على مبررات أيديولوجية وثقافية متغلغلة في الوعي الشعبي، بحيث بات المناخ العدائي ضد الشيعة يجيز استعمال كافة الاحكام القضائية والتدابير القانونية والادارية. ومع ذلك تصبح الدولة قادرة على تبرئة ذاتها من أية اجراءات تمييزية لغياب الآثار المادية لأدلة الادانة، بما يجعل مقاضاة تلك السياسات التمييزية شديدة الصعوبة ان لم تكن في حكم المستحيل، بل تصبح (لعبة اللوم) مخرجاً مثالياً للدولة. فقد كانت العبارة الاستهلاكية المستعملة من قبل الامراء والمسؤولين الكبار في الدولة أن الجهات الدينية المتشددة تتحمل مسؤولية السياسات التمييزية في الدولة، بدافع ابراء ذمة الطبقة الحاكمة.

وعلى اية حال، فإن اوضاعاً سائلة كهذه تضيع فيها الحقوق ويتقاذف فيها اطراف اللعبة السياسية الاتهامات، تدفع الضحايا والمتضررين من السياسات التمييزية نحو المطالبة بتوفير ضمانات قانونية ودستورية مكتوبة من أجل منع سريان تلك السياسات في المستقبل، وهناك تجارب في العديد من الدول على تضمين مواد دستورية تكفل الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للاقليات التي تكون حقوها عرضة للانتهاك من قبل الدولة.

وفي غير تلك الحالات، أي حين تعجز الدولة عن توفير الحماية لسكانها او حتى حين يتولد احساس بالخطر والاضطراب الامني لدى الجماعات السكانية تبدأ الاخيرة في التفكير عن خيارات حماية خارج اطار الدولة، وربما تفكّر في الاعتماد على ذاتها في توفير الحماية قبالة الاخطار الداخلية وربما الخارجية.

في المقابل، هناك ثمة حقائق على الارض تتظافر مجتمعة في تمهيد أرضية انشقاقية، وقد تلعب الظروف السياسية وممارسات الحكومة المركزية في تحويلها الى محرّضات فاعلة على تبني خيارات راديكالية من جانب جماعات سكانية معينة.

 

التركيز الديمغرافي  

يلعب العامل الديمغرافي دوراً هاماً في النزاعات الداخلية وفي انبعاث نزعات انفصالية، كما أن حجم جماعة سكانية متجانسة يعتبر عنصراً جوهرياً يحدد مستوى التمثيل السياسي، وبالنتيجة مشاركتها في الحكومة. أهمية حجم اي جماعة ينبع من قدرتها على التأثير في مصالحها وفي تقرير طبيعة المناشط الاقتصادية التي تزاولها.

وللحجم أيضاً علاقة وثيقة بطبيعة مطالب الاستقلال الثقافي والاقليمي. في المقابل، تنظر الجماعة او الجماعات المهيمنة الى الجماعة السكانية المختلفة باعتبارها مصدر تهديد مباشر لاستغلال وتماسك وفي بعض الاحيان لبقاء الدولة. وعلى هذا الاساس، فإن الحجم يظل دائماً مثار جدل. مع التنبيه هنا الى أنه بينما تبقى الاحصائيات الرسمية في الغالب غير صحيحة أو غير معتمدة، فإن ادعاءات الجماعات السكانية في المقابل حول أحجامها الحقيقية هي ايضاً مبالغة.

وبصورة عامة، فإن التركيز الديمغرافي لجماعة متجانسة يوفّر أرضية خصبة لتخليق مجتمع مضاد يتجابه في بعض الحالات مع الدولة والمجتمع الذي يحظى برعايتها أو الذي ينظر اليه باعتباره جزءا تكوينياً منها. إن مجرد وجود تركيز ديمغرافي في منطقة ما لا يعني بالضرورة ظاهرة سيئة ما لم يتم تأجيج المكنون الاعتراضي بداخله عن طريق إتباع سياسات تمييزية تزيد في تماسكه على خلفية الاحساس بالحرمان والاضطهاد والرغبة في الخلاص من شقاء السلطة الحاكمة.

 

العامل الجغرافي

قد تلعب الجغرافيا في أحيان كثيرة دوراً في تغيير التاريخ، فوجود جماعات سكانية في مناطق معينة طرفية او على تماس جغرافي مع مناطق شديدة الاضطراب او ذات تأثير سياسي وثقافي شديد، تحرّض على الانفصال عن الدولة الام، خصوصاً حين تكون الاخيرة لا تحظى برضا تلك الجماعات التي تقطن في مناطق جغرافية طرفية. إن العامل الجغرافي يصبح بالنسبة لتلك الجماعات المتجانسة حافزاً قومياً يدفع باتجاه العنف والحركات الانفصالية أكثر من الاقليات المنبثة بصورة واسعة في مناطق مختلفة من البلاد او التي تعيش في داخلها بحيث تكون محاطة بصورة شبه كاملة بحدود اخرى.

ولذلك كان الحل المقترح في بعض الحالات التي يصبح التعايش شديد الصعوبة في ظل نظام مركزي هو منح استقلالية ادارية لبعض المناطق باعتبارها حلاً مناسباً لاخماد محرّضات الحروب الاهلية أو النزعات الانفصالية، وعلى اية حال، فإن الحكم الذاتي داخل الدولة كآلية حل للنزاعات يعتبر خياراً عملياً لكافة الاطراف.

في القانون الدولي، الاستقلال الذاتي (autonomy) يعني أن (أجزاء من الرقعة الجغرافية للدولة تدير نفسها بصورة قانونية في موضوعات محددة بتطبيق بعض القوانين والاوضاع القانونية، ولكن دون أن تشكّل هذه الاجزاء دولة خاصة بها). وهذه تطبق حصرياً على الاستقلال الاقليمي، والذي يمنح جماعة ما حكماً ذاتياً في المنطقة التي تقيم عليها.

بطبيعة الحال، فإن الاستقلال الاداري يتطلب اعترافاً من قبل الدولة بالكيانية الجغرافية لجماعة سكانية ما، وهذا قد يشكّل مؤشر تهديد لتماسك الدولة وخصوصاً في فترات ضعفها، اضافة الى أن الدولة تحمل خشية تكوينية من ان منح الاستقلال الاداري لأية جماعة يمثل الخطوة الاولى نحو الانشقاق النهائي. يجدير التذكير ايضاً في مثل هذه الحالات بأن منح الاستقلال الاداري لمنطقة معينة يتم النظر اليه باعتباره تمييزاً ضد السكان الآخرين، كما أن الاستقلال الذاتي يشجّع، وهذا مصدر قلق آخر، على التدخل من قبل قوى اقليمية ودولية.

إن المناطق المستقلة ادارياً تكون، من الناحية الطبيعية، متحفّزة للانشقاق. فالعلاقة بين الحكومة المركزية في اي دولة والمنطقة المستقلة ادارياً لا يماثل العلاقة الافقعية بين الدولة ذات السيادة ولا العلاقة العمودية بين الدولة ومواطنيها، بصرف النظر عما اذا كانت تلك العلائق منظمة سياسياً ضمن خطوط ايديولوجية أو دينية او إثنية. فحين تمنح دولة ما استقلالاً ادارياً لمنطقة محددة فإنها تعترف قانونياً وعملياً بانتقاص جزء محدد من سيادتها وانتقالها الى سكان تلك المنطقة، أي أن الحكومة المركزية تتنازل عن سلطتها القانونية على تلك المناطق، وهنا يكمن جوهر الاستقلال الاداري. وفي الوقت نفسه، فإن الحكومة المركزية تشدد على خضوع المنطقة المستقلة تحت سيطرتها، بحيث يكون بقاء هذه المنطقة غير متوقف على تماسكها بصورة مستقلة وانما من خلال التحامها بالدولة ذات الحكومة المركزية. وهنا يمكن وصف العلاقة بين هذه المنطقة والحكومة المركزية متقاطعة، بحيث يمكن اعتبار المنطقة المستقلة ادارياً بأنها دولة داخل دولة، حتى وإن لم يقرّ الطرفان بذلك.

المناطق المستقلة ادارياً تؤسس من الناحية التقليدية في هيئة دولة، بسلطات قضائية وتشريعية وتنفيذية، اضافة الى رموز دولة مثل العلم والزي العسكري. في الواقع، إن الادارة المستقلة تشترك في معظم خصائص الدولة ولكن باستحالة حصولها من حيث الخاصيّة الرئيسية لتعريف الدولة على السيادة الكاملة. وفيما تدّعي المنطقة المستقلة ادارياً السيادة، الا أنها في واقع الامر سيادة جزئية، لأن سيادة المنطقة المستقلة ادارياً تبقى دائماً جزئية، مقيّدة بمجالات محددة مثل الثقافة والاقتصاد.

يبقى، أن تأسيس المنطقة المستقلة ادارياً يدلل رغم ذلك على أن الدولة ذاتها لم تعد تتمتع بالسيادة الكاملة، وقد قبلت بناء على ذلك باقتسام السيادة مع منطقة اخرى، مع أن هذه القسمة ليست على اساس متكافىء وعادل.

مبعث القلق من نشوء مناطق مستقلة ادارياً داخل الدولة هو وجود محفّزات نشطة على الانشقاق لأن تأسيس وتطوير هوية مستقلة لمجموعة افتراضية يزيد في تماسك المجموعة وارادتها للعمل، كما أن إقامة مؤسسات سياسية تزيد في قدرة تلك المجموعة للعمل. إن الاستقلال الاداري يؤثر، بصورة عامة، في مجالات عديدة وهي: الحدود، هوية المجموعة، مؤسسات الدولة، القيادة، الاعلام الجماهيري، والدعم الخارجي.

قد ترى الحكومة في بعض الاحيان وخصوصاً في الدول التي تحاول تشجيع هوية وطنية مدنية، بأن منح استقلال اداري لجماعة سكانية يساوي تعريف هذه الجماعة بأن اعضاءها مواطنون من الدرجة الثانية. الحكومة التركية مثلاً تتمسك برفضها للحقوق الخاصة بالمواطنين من اصول كردية على ارضية ان هؤلاء يتمتعون بحقوقهم كمواطنين من الدرجة الاولى في الجمهورية التركية، وأن منح اية حقوق خاصة سيعني تمييزهم عن باقي السكان وبالتالي تخفيض وضعهم الى مستوى مواطنين من الدرجة الثانية. وبنفس الطريقة، يمكن المجادلة بأن رفض منح استقلال اداري لجماعة ما قد يكون حافزاً قوياً لدولة مرتبطة بأقلية للتدخل. 

 

العامل السياسي

هناك أربع مفردات ذات صلة بالعامل السياسي جديرة بالاهتمام:

الاولى: المؤسسات السياسية التمييزية: وتوجد هذه المؤسسات حين تكون درجة الانصاف في النظام السياسي منخفضة. بكلمات اخرى، حين يكون مستوى التمثيل ليس غير متكافىء فحسب بل مجحفاً بصورة واضحة للعيان. أي حين لا تمثّل الجماعات السكانية بدرجة كافية وعادلة في المحاكم والمؤسسة العسكرية والشرطة ومؤسسات سياسية أخرى في الدولة. إن هذا الاجحاف في مجال التمثيل يثير السخط من قبل الجماعات السكانية، ويؤسس أرضية المجابهة السياسية مع الدولة وفي حالات متقدمة تصبح المجابهة مصيرية أي على البقاء كجزء من الدولة او الانفصال عنها طلباً لنيل الحقوق غير المكفولة من قبل الطبقة الحاكمة.

الثانية: الايديولوجيات الوطنية الاقصائية، بالرغم من أن الايديولوجية السياسية للدولة السعودية ليست مؤسسة على قاعدة اثنية، الا أنها تحظى بنفس عنفوانها وجبروتها، فهي ايديولوجية دينية ترتبط بمذهب واقليم وجماعة محددة، وبالتالي فهي تملك كل مواصفات الاستبعادية والاقصائية. 

يفسّر علماء الاثنيات الفروقات الخطيرة بين القومية المدنية والقومية ذات المواصفات الاثنية وان كانت دينية، أن القومية المدنية هي في الغالب منتج للديمقراطيات المومأسسة بصورة وثيقة، بينما القومية الاثنية لا تقوم على مؤسسات بل على ثقافة خاصة، وعلى تجربة سابقة، وعلى ذكريات واساطير تاريخية. وهي تصلح كمثال على قوة الانتماء والولاء المتصل بها من قبل الجماعة التي ترتبط بهذه الثقافة.

اذا اخذنا بتعبير جين كيرباتريك عن القومية فإنها (التعبير بالفخر في هوية شخص ما)، أي أنها تمنح السكان أسباب كافية للاحساس بالفخر، وهذا ما لا يمكن تطبيقه على حالة السعودية، حيث الايديولوجية السياسية للدولة ليست قائمة على اساس وطني عام.

الثالثة: سياسة الجماعة الداخلية: وهذه السياسة قد تخلق محفّزات كامنة للعنف اذا كانت لدى الجماعات اهداف طموحة، واحساس قوية بالهوية واستراتيجيات خصامية. فالجماعات السكانية تخلق احياناً احزابها السياسية وتشكيلاتها الثقافية والاجتماعية التي تعبّر عن هويتها وتحقق قدراً من التمثيل والاستعلان السياسي لهذه الجماعات وتعبّر عن مطالبها بالحقوق والحريات وايضاً رفضها للوضع السياسي القائم. وهي تمثل ردود فعل على المكوّنات الثقافية والتاريخية الخاصة وهذا ما تعكسه هوية الدولة السعودية وسياساتها العامة حتى الآن على الاقل.  

الرابعة: سياسات النخبة وتعني التكتيكات الموظّفة من قبل رجال السياسة في ظروف سياسية واقتصادية معينة. وفي الدول الشمولية تصبح الطبقة الحاكمة والقيادة السياسية فيها بدرجة أساسية اللاعب الوحيد في المضمار والقوة الفاعلة في إدارة العملية السياسية، فهي تقرر الحرب والسلام، والعدل والاجحاف، والغنى والفقر، والانصاف والتمييز. وهناك من يرى بأن القادة السياسيين يلعبون دوراً بارزاً في النزاعات أكثر من المصالحات، ولذلك يقال بأن الغالبية العظمى من المشاكل وأكثرها خطراً تعود الى وجود قادة سيئين، يصنعون القرارات السياسية القاتلة. فقد وضع قادة سياسيون مصير الدولة السعودية عبر مراحلها الثلاث في مهب الاقدار، وسقطت الدولتين السعوديتين الاولى والثانية بفعل قرارات فردية قاتلة، وكادت ان تلقى المصير نفسه في عهد الملك سعود لولا غياب قوة سياسية شعبية منظمة وبفعل الظروف الدولية غير المؤاتية وتالياً بناء تحالف طوارىء داخل العائلة المالكة من اجل انقاذ الحكم السعودي. غير ان الاخطاء لم تتوقف فقد وقعت اقترافات كبيرة مازالت تدفع الدولة ثمنها، وإن الاستدراك المتأخر من اجل اعادة تنسيج المجتمع في بناء وطني للدولة يعد أحد حلول الطوارىء التي لجأت اليها الدولة من اجل انقاذ الدولة التي تشهد تفتتاً بنيوياً منذ الحادي عشر من سبتمبر.

 

العامل الاقتصادي

دراسات عدة صدرت في السنوات الاخيرة توصلت الى أن الدول ذات المصادر الطبيعية الوفيرة والغنية تواجه خطر الحرب الاهلية بدرجة أكبر من الدول ذات المصادر الفقيرة. وقد اعتمدت هذه الدراسات على النزاعات العسكرية في افريقيا وجنوب شرق آسيا واميركا اللاتينية. ورغم ان فرضية الربط الوثيق بين الثروة والنزاع السياسي والعسكري تظل من الناحية النظرية غير محسومة،  ولكن من حيث المبدأ فإن الربط بين الثروة والنزاع يظل وثيقاً في داخل الدول وفيما بينها، فمصادر الثروة الطبيعية هي في كل الاحوال  محرّكاً للحروب والنزاعات بين الامم (ولعل الامثلة الأبرز الصراعات الدولية على النفط والغاز مناجم الذهب، الماس، والنحاس). وبنفس الطريقة يمكن القول أيضاً إن مسألة توزيع الثروة تبقى حاضرة في المحاججات السياسية الداخلية وبين قوى المعارضة والحكومة، وبالنسبة للجماعات المحرومة فإن المشكلة تصبح جزءا من نضالها من أجل الحصول على حصة من الثروة خصوصاً حين يكون التفاوت الاقتصادي حاداً، كيف واذا كانت مصادر الثروة في المناطق التي يقطنها المحرومون منها.

 وبقدر ما تحوّلت مصادر الثروة الى عامل تمكيني للدولة لتعزيز سيادتها وهيمنتها، فإنها في الوقت نفسه خلقا ايضاً مشكلة اخرى وهي التوزيع غير العادل للثروة بين رعايا الدولة. ولذلك فإن ثمة ربطاً وثيقاً بين اكتشاف النفط والغاز والمعادن بانتهاكات حقوق الانسان، ومستويات عالية من عدم المساواة والفساد، وبالتالي ظهور حركات اعتراضية تناضل من أجل تحسين ظروف حقوق الانسان وتحقيق العدل والمساواة على المستوى الاقتصادي والسياسي.

من  وجهة نظر اخرى، فإن مصادر الثروة تعطي بعض الجماعات في المناطق الغنية بهذه المصادر حافزاً لتأسيس دولة مستقلة، سيما حين لا يكون في المناطق الاخرى ما يشجّعها على البقاء ملتحمة في الدولة، فضلاً عن ان تخسره في حال قررت الانفصال عنه.

ورغم أن الدولة والظروف الاقتصادية شجعت على الهجرة الى المناطق الغنية في البلاد، بحيث أدى ذلك الى تهميش وتقليل حجم السكان الاصليين وهكذا تخفيض خطر الظواهر الانشقاقية، الا أن ذلك لا يلغي انبعاث تلك الظواهر حين تفشل الدولة في تحقيق سياسات اندماجية حقيقية داخلية، اي في غياب الروح المشتركة لدى السكان والتي بها يمكن أن تشد لحمة الدولة وتتوثق عراها او في حال سوء الاوضاع الاقتصادية بحيث تغمر آثارها فئات عديدة من المجتمع.

 

 التحريض الخارجي

بقدر ما يمثّل العامل الخارجي هاجساً دائماً وفي الوقت نفسه عاراً يلصق بجماعة او جماعات سكانية معينة في حالة تخالف مع الدولة، فإنه يحتسب قلقاً مشروعاً، في ظل التداخل الشديد بين الدول والنزوع الشديد نحو التدخل في الشؤون الداخلية طلباً لمصلحة محددة او درءا لخطر متخيّل او حقيقي. فالتحريض الخارجي يعتبر مسؤولاً عن الاطاحة بأنظمة سياسية في عدد من قارات العالم ولاسيما آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، ولكن نجاح عمليات التحريض لا يتم بدون وجود حركة سياسية قادرة على استثمار السخط الداخلي لجهة توظيفه في مشاريع سياسية انفصالية مدعومة من الخارج.

إن ملفات أجهزة الاستخبارات الدولية والاقليمية تشتمل على مخططات تفصيلية لمحاولات قلب أنظمة حكم او تشجيع حركات انفصالية في بعض الدول يجري تمويلها ودعمها من جهات خارجية. وفي بعض الحالات شجّعت الحركات الانفصالية التدخل الخارجي من أجل ازالة أنظمة الحكم القائمة وتنصيب أنظمة بديلة.

ولكن السؤال يبقى: هل أن مجرد وجود عناصر انشقاقية كافية للخضوع تحت تأثير التحريض الخارجي؟ الجواب يتوقف على استجابة الجماعات لرسالة التحريض الخارجية وشروط القوة المحرّضة، إذ ليس كل جماعة مؤهلة من الناحية الافتراضية للاستماع لدعاوي انفصالية تكون دائماً حاضنة طبيعية لمشروع انفصالي، خصوصاً حين تكون مصدر تلك الدعاوي غير مقبولة، أو غير موثوقة، أو ان ثقافة هذه الجماعة تنبذ أي نوع من التحريض الخارجي والتدخل الاجنبي في شؤونها الداخلية، وليس النبذ بالضرورة مؤسساً على مشاعر وطنية.

ولكن يبقى للعامل الخارجي دوراً مؤثراً في ظل تصدعات سياسية تشهدها الدولة بحيث يكون حتى مجرد الاحساس بالحد الادني من الارتباط ضعيفاً للغاية، الامر الذي يجعل الانشغال شبه التام بالمصلحة الخاصة هو القانون السائد.

 

الثقافة الخاصة

ونعني بذلك تلك الثقافة المشتملة على توجيهات انعزالية ومن ثم انشقاقية في وقت لاحق، وهي الثقافة غير القابلة للانسجام مع الثقافات الاخرى او الانضواء في الثقافة الوطنية ـ إن وجدت ـ.

وفي حالة السعودية، فإن اتكال الدولة على ايديولوجية دينية يحفّز الانتماءات الدينية لكافة الجماعات السكانية الاخرى، ويجعلها تلوذ بتراثها الديني باعتباره الانشط والاشد تأثيراً في حفظ وحدة الجماعات، وفي مواجهة ايديولوجية الدولة، وقد يوظف التراث في مرحلة لاحقة في تطوير خطاب سياسي ديني انفصالي، تماماً كما هو الخطاب الديني للدولة بنزعته الانشقاقية.

ان الدين قد يتحول الى اداة بيد الدولة لاقناع القسم الأكبر من السكان للتماهي في مجتمع الدولة للحصول على فرص أفضل للتوظيف او التعليم. فالدولة، بالعمل عبر القيادات الدينية، تهندس تعيين مدرّسيين لنشر التعاليم الدينية التي تربّي المجتمع على القبول والرضا بالوضع القائم، وبالتالي تحييد وتهميش الخطابات السياسية والدينية الاخرى المخالفة.

وعلى أية حال، فإن الثقافة الخاصة هي محرّض نشط على النزاعات الداخلية وقد يتحوّل في مرحلة ما الى عامل انشقاقي، فالتمييز الثقافي ضد الاقليات يزرع شعوراً بالاغتراب والفصل التدريجي عن المحيط العام، فالقيود المفروضة على استعمال وتدريس الثقافة الخاصة بالجماعات السكانية الاخرى، يدفع بالاخيرة الى تبني استراتيجية ثقافية متعارضة مع الاستراتيجية الثقافية للدولة، وهذه من شأنها تنمية مشاعر انفصالية على على المدى البعيد. وبالرغم من أن الهوية الثقافية للمناطق تكون بعض الاحيان غير متبلورة او ضامرة في مقابل المظاهر الثقافية العلنية للدولة والتي تبدأ من الغزارة الاتصالية المعبّر عنها في انبثاث الكتب والمجلات والجرائد الدعائية، والرموز الدينية في المسجد والمحكمة وحملات التبليغ والارشاد، واسماء الشوارع، والزي الرسمي، وغيرها الا أن هذه المظاهر تفقد مفعولها حين تخضع لاختبار التأثير أو الاختراق في الثقافات الخاصة، أي حين تعزز الاخيرة تحصيناتها بدرجة تحول دون تسرّب عناصر أجنبية الى داخلها.

ولذلك جاء الاستقلال الثقافي، في المقابل، كأحد الحلول لنزع فتيل اي نزاع اهلي على خلفية ثقافية، والاستقلال الثقافي هو نظام يمنح اعضاء جماعات محددة حقوقاً وواجبات خاصة فيما يتصل بالحكومة، وهذا يستعمل في دول عديدة في العالم. ويلزم التذكير هنا بأن الاستقلال الثقافي ليس مؤسساً بالضرورة على قاعدة اقليمية، حيث يتم منحه لأي جماعة متجانسة ثقافياً وان كان أفرادها متباعدين.

السؤال هنا: هل مطالب جماعة سكانية معينة (الشيعة في السعودية مثالاً) تتجه الى الانفصال او مشاركة اكبر في حكومة الدولة المركزية؟

إن السلوك السياسي العام للجماعة الشيعية ممثلة في رموزها السياسيين يكشف في الوقت الراهن، وبوضوح شديد، عن أن المطالب الشيعية لم تصل الى الحد الخروج (الاستقلال الاداري أو الانفصال) وإنما تدور في اطار زيادة مستوى المشاركة في حكومة الدولة المركزية، وتحقيق التوازن في مستوى التمثيل السياسي، وتوزيع الثروة، والخدمات العامة، اضافة الى مزاولة الحريات الدينية والثقافية.

وعلى اية حال، فإن تأثير هواجس الانفصال يتضاءل حال وفّرت الدولة اطاراً نشطاً للاندماج بحيث يكون التمثيل السياسي متعادلاً وتوزيع الثروة متكافئاً بحيث يشعر الجميع بالمصلحة المشتركة، بما يجعلهم شركاء في الدفاع عنه وحمايته.