الوهابية: أيديولوجيا إخضاع أم أيديولوجيا حكم؟

أزمة الأيديولوجيا في المملكة العربية السعودية

 

حمزة الحسن

 

حين كتب الدكتور تركي الحمد مقالته: (الأيديولوجيا عبئاً) لم يشر في مقالته الى الأيديولوجيا الوهابية بصريح العبارة، فقد ذكر عدداً من الإيديولوجيات الشمولية الدينية والسياسية التي توصل الى الحكم وتتحول فيما بعد الى عبء على الدولة، التي لا يكون أمامها إلا أن تتخلص من الأيديولوجيا تلك وتنتقل الى أخرى، أو الى نظام آخر، أو تواجه مصيراً محتوماً بالإنهيار.

إن مشكلة (أيديولوجيا) الدولة، دينيّة أو سياسية أو غيرهما، لاتزال محور الجدل في المملكة، ولايزال النقاش محتدماً حول علاقة الدين بالدولة، وعلاقة الدين بالإنسجام والدمج الإجتماعيين، وموقف الدولة ـ متعددة الثقافات والمذاهب ـ من تلك الثقافات ومدى إمكانية حياديتها في هذا الشأن كما طالب عدد من المثقفين السعوديين، وبينهم الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي دعا الى حيادية الدولة (مذهبياً). هذا النقاش المستعر حيناً والهادئ حيناً آخر، يشير بوضوح الى حيث أزمة الدولة السعودية، ككيان ووجود، والى أزمة متعلقاتها الأخرى، كوحدة الكيان، وشرعية النظام، وطرق تحصيل تلك الشرعية، إضافة الى ما يمكن أن تفضي اليه الأوضاع من تقاتل داخلي ضمن الخطوط المناطقية والمذهبية.

محور أزمة الدولة يكمن في (أيديولوجيتها) التي يجري توظيفها احياناً في صراع تحت مسمّى العلمانيين والإسلاميين السلفيين، أو العصرانيين والحداثيين والروافض والصوفية من جهة وبين ممثلي الإسلام الصحيح (السلفي بنسخته الوهابية) من جهة أخرى. وبالرغم من صعوبة ـ وقد تكون استحالة، ضمن المعطيات الحاضرة ـ تحول الدولة الى أيديولوجيا أخرى، فإن أزمة الأيديولوجيا أبعدُ أثراً وأعمق جذراً.

شهد محمد أسد صاحب مؤلف (الطريق الى مكة) التغيير الذي طرأ على الوهابية قبيل وبعيد قيام الدولة السعودية الجديدة، كما شهد مصرع حركة الإخوان، التي مثلت الجيش السعودي، وذلك كخطوة حتمية لقيام الدولة في حدودها القطرية، وإلغاء النزعة التوسعية بالقوة العسكرية. وقد كتب أسد كشاهد على عصره يقول بأن الوهابية تعاني من أزمتين حادتين: أولها: الشعور الإحتكاري المغالى فيه بحقانية المذهب واحتكاره للحقيقة؛ والثانية: عدم قدرة رجاله على تطوير الكتابات التي جاء بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب، خاصة بعد أن حققت الوهابية إنجازها بقيام دولة، بالتعاون مع العائلة المالكة.

قد يختزل هذا الرأي جوهر الأزمة التي نحاول مناقشتها في هذه المقالة.

كانت الوهابية، كما كثير من الأيديولوجيات الدينية والسياسية، أداة فعّالة في قيام الدولة. بمعنى أنها تمتلك مقومات (الخضوع: لنخبة أو سلالة حاكمة كيما تستثمرها في إنشاء دولة) إضافة الى مقومات (الإخضاع للجمهور بأدوات دينية وعنفية حادّة، وتطويعه للسلطة السياسية بالقرآن والسنان معاً). فهي ـ أي الوهابية ـ توفّر للحاكم الخبير ـ كما الملك عبد العزيز ـ أداتين بالغتي الأهمية لقيام الدولة: فهي عنيفة جامحة متشددة ضد المجتمع والجمهور المراد إخضاعه دينياً وسياسياً؛ وفي نفس الوقت مطواعة طيّعة لنظام الحكم، وتقوم فلسفتها على الخضوع إلى الملك وطاعته (تقرباً لله تعالى) وتبرير ما يمكن تبريره من أفعاله، والقبول بالحدود الدنيا من ممارساته الدينية، والسكوت عن أخطائه وتأجيل الخروج عليه، أو بالأصح تعطيل أدوات الخروج على الحكم، وهي في المحصلة النهائية تمنح الحاكم الشرعية المطلوبة، بالرغم مما تحويه من (متفجرات عقدية) قابلة للإستثمار وقت الحاجة.

ما يعطل عوامل الخروج على الحكم، ليست النصوص الدينية المنتقاة بعناية لتبرير ذلك فحسب، بل الأهم من ذلك كلّه، هو الإرتباط العضوي بالبيت السعودي ـ دون غيره ـ من البيوتات الحاكمة، الأمر الذي يعني أن الخروج عليه يتضمن (خروجاً على الذات) وإفساداً (لمصالح متحققة للذات) من ذلك الترابط والتحالف. ومما يعزّز الإلتقاء بين الوهابية وآل سعود تحديداً، هو أن الرابط مدعوم بإرث تاريخي؛ فالوهابية لم تجرّب ـ وربما لا تريد أن تفعل ـ تحالفاً مع حكام (حتى في المحيط النجدي) غير الحكام السعوديين، وهي تستسيغ من الأخيرين أخطاءهم وتتحمّل بعضاً من أوزارهم، ولكنها لا تستطيع أن تتحمّل الأمر ذاته من آخرين حتى وإن كانوا في الإعتبار العام وهابيين (حكم آل الرشيد مثلاً).

لقد ولدت الدعوة الوهابية كما الحكم السعودي في يوم واحد، وكأن مصيرهما قد تقرّر منذ ذلك التاريخ، يدعمه شعور مقابل من الحكام السعوديين، بأن مصيرهم مقترن بهذه الدعوة الدينية النجدية، التي يكرر علماؤها دائماً ـ وحتى اليوم ـ أن لا حكم يستقيم لآل سعود بدون الدعوة الوهابية. وفي المقابل يدرك علماء المؤسسة الدينية، أن مصير الحكم السعودي، قد لا يقرر مصير الوهابية كمذهب ديني، بل يقرر مصيرها كمذهب وحيد وسيد في المملكة العربية السعودية. ومن هنا، أصبح المتحالفان ـ رغم تذمّر أحدهما من الآخر بين الفينة والأخرى ـ يدركان بوعي خلفيات ذلك التحالف لمصلحتهما المشتركة: استمرارية حكم آل سعود بشرعية دينية (وإن حصرت في مجملها في محيط نجد)، وهيمنة المذهب الوهابي ورجاله على الحياة الثقافية والإجتماعية عبر استخدام الدولة كـ (أداة للدعوة).

الليونة الطافحة من رموز المؤسسة الدينية تجاه الحكم السعودي القائم، لا توجد لها مبررات عقدية كافية في التراث الديني مجملاً وفي التراث الوهابي خاصة؛ لكن تبرير (المصلحة) كمبدأ عام وفضفاض، إضافة الى مبدأ (سدّ الذرائع) يحققان قدراً من التغطية على أخطاء الحكم القائم. لكن توسّع الأخطاء وتكاثرها، دون وجود مبررات يمكن الإتكاء عليها في تراث المذهب، أدّى في المحصلة النهائية الى إضعاف المؤسسة الدينية الرسمية بين جمهورها، كما هو حاصل اليوم، حيث يبرر العنف ضد الدولة وضد الحكم وضد الآخر مجملاً بذات المفردات الوهابية التراثية وما تحتويه من حجج وأدلة وبراهين، يجد العلماء الرسميون صعوبة بالغة في تفنيدها أو إقناع الجمهور السلفي بها.

وبقدر ما نرى التبريرات الفضفاضة والليونة الطافحة في تراث العلماء الرسميين في دفاعهم عن نظام الحكم ورموزه، والتي يمكن الحصول على كثير منها في مواقع العلماء أنفسهم على الإنترنت وما نجده يتكرر على شاشات التلفزة، نجد في المقابل تشددّاً ونكيراً وتضييقاً على الجمهور، الذي لا يجب أن يكون حبيس (الطاعة) السياسية لولي الأمر فحسب، بل حبيس التعليمات الوهابية نفسها التي يخترقها الحاكم قبل المحكوم؛ بالرغم من أن الحاكم ـ وحسب التحالف ـ مدعوٌ لتسهيل أمر الدعوة ونشرها بأدوات الدولة ومؤسساتها، في حين ليس كل مواطن هو بالفعل مؤمن ومعني بفتاوى المؤسسة الرسمية كونها لا تمثل إلا شريحة من السكان.

والغريب، أن الفشل في حمل الدولة على التزام فتاوى المؤسسة الدينية في بعض القضايا التي ترى أنها مخالفة للشرع، ترتد على المواطن على شكل فتاوى متشددة وقاسية ومخربة للنسيج الإجتماعي؛ فالدولة حسب رأيهم تفعل ما تريد وإن كانوا غير راضين عن ذلك، ولكن على الأرض، فإن المواطن ملزم ـ من وجهة نظرهم ـ بالفتاوى الشرعية بغض النظر عن موقف الدولة ومؤسساتها. فموضوع مثل البنوك (الربوية من وجهة النظر الدينية) لم يلتزم به، ولكن الأتباع ملزمون، بعدم الإيداع، وعدم العمل فيها، وعدم المساعدة في أي عمل يتعلق بها. والدولة إن كانت ملزمة بقمع (المشرك المستوطن) أي المواطن غير الوهابي، حسب توصيات رجال المذهب، فإنها إن قصرت في هذا الشأن لمصلحة تراها، فإن أتباع المذهب عليهم العمل بالفتاوى: تكفيراً ومضايقة، وعدم التزاوج معهم، أو السلام عليهم أو رد السلام، أو مجالستهم أو مؤاكلتهم أو الإبتسام في وجههم، أو إعانتهم أو منحهم الزكاة أو أخذ الزكاة منهم، أو مصادقتهم أو زيارتهم.. الخ.

 

لحظة الإنتصار.. بداية الهزيمة

يؤخذ على مذهب التشيّع أنه (مذهب معارضة) يمكن استخدام تراثه التاريخي الطويل في محاربة (أنظمة الحكم) وإسقاطها، أي أنه (أيديولوجيا معارضة) وليس (أيديولوجيا حكم ومؤسسة).. فتراثه التاريخي والديني ضئيل في هذا الشأن، ولكنه بقدر ما أثبت أنه قابل لأن يتفاعل مع (الدولة) التي أسسها في إيران، وإن كان هناك من ينظّر الى أزمة الأيديولوجيا في إيران، كون غاية المذهب تكمن في تأسيس الدولة، وبعد أن تأسست، فهو إما أن يصبح (إسلاماً سلطانياً) مثلما كان أيام الصفويين، أي المذهب في خدمة الدولة ومانحاً لشرعيتها، بحيث يجد له من يبحث في تراثه فيجدده بالنحو الذي يتوافق مع مصالح الدولة، ويقدم إجابات دينية تجديدية لأطروحاتها. وإما أن ينكفئ على نفسه ويعود الى مواقعه القديمة (كمذهب معارض) للدولة التي أسسها بنفسه؛ وهناك إشارات تفيد بتنافس الخيارين، وهناك بين القوى الإصلاحية من يسعى لتوضيح الحدود الفاصلة بين الدولة كمؤسسة حاكمة معنية بالمواطن ومصالحه أولاً وآخراً، وبين المذهب الذي يرى البعض انه يجب ان يعود الى قواعده في خدمة المجتمع والسمو بأخلاقه بعيداً عن السياسة.

وبالرغم من أن المذهب طبع الدولة الإيرانية الحديثة بطابعه، إلا أنه هو الآخر وجد نفسه ملزماً بتقديم إجابات على أسئلة مستحدثة غاية في التعقيد تتصل بمفاهيم الدولة الحديثة، ومثل هذه القضايا هي مثار جدل طويل ومستمر في الساحة الثقافية والسياسية حالياً. لكن هناك بالطبع تمييز بين مرحلتين وتراثين: مرحلة ما قبل قيام النظام الحالي، ومرحلة وتراث ما بعده، مثلما وضع الفارق من قبل الدكتور شريعتي حين ميّز بين (التشيع العلوي) و (التشيّع الصفوي). وفي المحصلة فإن الأيديولوجيا في إيران تقع اليوم تحت ضغط مستمر يدفعها إما الى: (1) التجديد بما يتضمن توسعة الأهداف أو استحداث اهداف جديدة غير هدف المعارضة أو هدف قيام الدولة؛ او (2) الإنكفاء والعودة الى معاقل المعارضة القديمة.

وكما يحدث في إيران فإن الوهابية نفسها، وهي أقدم في السلطة اليوم من (التشيع) الإيراني قد أثبتت فشلها في التحول الى مذهب (حكم ومؤسسة) بل هي ـ كما تحكي الأوضاع الحالية ـ تنقض الدولة التي قامت على أكتاف أتباعها، مقاتلين ودعاة. فالمذهب الذي أثبت نجاعته في قيام الدولة السعودية الحديثة، بدأ يرتد عليها، كما لاحظ ذلك مبكراً محمد أسد، وليس أدل على ذلك من ثورات الإخوان الوهابيين المتتالية واضطراباتهم المتكررة (1928-1965-1979-1991-2002 حتى الآن). فما كادت القوة العسكرية النجدية الوهابية تقضي على آخر معاقل المنافسين في الجزيرة العربية (حكم الهاشميين في الحجاز) حتى شبّت الثورة في البيت الوهابي، بين دعاة (الثورة المستمرة) و (الدولة المستقرّة). الأولى قد توسع الدولة وتزيد من مساحتها وقد تأتي بحتفها؛ والثانية تفضي الى ما يسمى بـ (تعطيل الجهاد) الذي لازال العنصر الأبرز في تحفيز المجتمع الوهابي باتجاه التوسع. وقد فشلت الدولة في احتواء هذه النزعة التدميرية، رغم أنها فتحت الباب أمام نشر الدعوة (سلماً) في الخارج كتعويض عن استخدام السلاح، وصرفت المليارات لحل الأزمة الأيديولوجية الداخلية، لكنها لم تخفف من نزعة (السيف) و (جهاد الطلب)، بل أنها وجدت في أفغانستان مخرجاً مريحاً ما لبث أن عاد عليها بأفظع ما توقعته، ولهذا فهي لا تريد تكرار التجربة اليوم في العراق، رغم النوازع الأيديولوجية القوية.

بانتصار الوهابية في الجزيرة العربية عبر إقامة دولة (توحيدية تطهرية) من البحر الى البحر، لم تستكمل الدعوة في الداخل، برغم القبول الأولي من العلماء بالعمل داخل حدود الدولة القطرية (المنكرة والمستنكرة). لكن متطلبات الدولة كانت ولاتزال أصعب من أن تتوافق مع (الأيديولوجيا الوهابية) التي تعتبر ذاتها مذهباً (عقدياً) وليس (فقهياً). هذه الأيديولوجيا تكاد تنسف الدولة من أساسها، فبعد أن كانت (مركباً باتجاه الحكم) أصبحت تقوده باتجاه الهاوية.

فهذه الأيديولوجيا لها قابلية جدّ محدودة على تجديد نفسها، (فالعقدية) هي المحور، وهي الثابت الذي لا يتغير، وإن تغيّر فإن الأيديولوجيا نفسها تنتهي، بمعنى ينتهي تميّزها التطهري التوحيدي. بكلمة اخرى، فإنه لا يتوفر في الأيديولوجيا الوهابية متسع فضاء غير عقدي (تراثي كلامي فقهي) يمكن للآخر (دولة ومجتمعاً) المجادلة بشأنه، او شرعنة النفس والفعل من خلاله، الأمر الذي يترك الدولة ـ بالذات ـ في تصادم حتمي مع (أصول) وليس (اجتهادات) ومع (معتقد) وليس مع (فقه اجتهادي). والنتيجة ان المذهب تمسّك بثوابته (التي يراها كلها تقريباً عقدية) وهو تمسّك نظري، والدولة من جانبها فعلت ما تراه صحيحاً مناقضة بذلك تلك الثوابت. ولَئنْ جرى الصمت من الطرفين على هذا التجاوز، حيث أقرّ كلٌّ منهما الآخر على فعله، فإنه جاء اليوم من ينبش إرث (التجاوزات العقدية) ليكفر الدولة بنصوص من علمائها الرسميين الحاليين.

لتوضيح الصورة، فإن الدولة بحاجة الى شرعنة نفسها على الصعيد الدولي: أن تعترف بالدول كيما يعترف الآخرون بها. بديهية هذه في السياسة. وأن تعترف بالقانون الدولي وبالمنظمات الدولية كوسيلة لشرعنة الدولة وفتح الآفاق لها لإبلاغ رسالتها أو ممارسة دورها في محيطها الإقليمي. لكن للأيديولوجيا الرسمية رأي آخر: فهي ضد الإعتراف بدول الكفر، وضد تمثيلهم في البلاد، وضد رفع أعلامهم، وضد التحاكم الى القانون الدولي، فهو تحاكم الى الطاغوت الذي أُمروا أن يكفروا به، وضد الإنتماء للمنظمات الدولية بل وحتى العربية (جامعة الدول العربية) والمنظمات الإقليمية (مجلس التعاون)، وضد وجود ممثليات على ارض الوطن (هذا ما يفسر بقاء جدة عاصمة البلاد الدبلوماسية منذ تأسيس الدولة حتى عام 1986 بعيداً عن معقل الأيديولوجيا!).

والدولة بحاجة الى قوانين وإجراءات، احتارت في تسميتها ولاتزال! واحتار رجال المؤسسة الدينية في تكييفها دينياً، فالوهابية لا تستطيع أن تنتج قوانين، بل لا ترى ذلك أصلاً، وكما أنها تعيش بفكرها (خارج عصر الدولة القطرية/ الوطنية) فإنها تعيش على الإجتهادات الآنيّة، وترى إدارة الدولة بعقلية الحارة والقرية، مع فسحة لكل مجتهد من المؤسسة، إن أصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر! وقد شنّت الغارات على الدولة لوضعها بعض القوانين والإجراءات (والسعودية من أقل الدول في العالم اعتماداً على قوانين مكتوبة) ولما رفضت المؤسسة التحاكم إليها، شكّلت محاكم خاصة (نظامية أو شبه نظامية!) كمخرج لم يزل غير مقبول حتى الآن، وصار لدينا أنواع من القضاء، لا يمكن دمجها، بسبب الجمود في المؤسسة الدينية نفسها، التي تطالب بالكثير، وهي أقلّ المذاهب إبداعاً في الحلول للمشاكل الحاضرة.

والدولة لها مفاهيمها وآلياتها الخاصة بها، هي دولة العامة، دولة المواطنة، بينما لا تسعف الأيديولوجيا الرسمية صانع القرار بتأسيس هذه المفاهيم وتطبيقها على الأرض، فالفكرة الوطنية مرفوضة في الأصل، ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات ليست مطروحة للنقاش لأنها تخالف أصلاً دينياً لدى أصحاب هذه الأيديولوجيا، والحريات العامة والمشاركة الشعبية في الحكم تخالف أصولاً دينية وليس مصالح فحسب. ولذا، وجدت الدولة نفسها أمام مجتمع متشظٍّ يميل الى التقاتل على قاعدة الطرح الديني/ الطائفي/ المناطقي/ القبلي، بحيث أسس لنزعات انفصالية تنخر عميقاً في جسد الدولة ووحدتها.

وفي حين تسعى الدولة الى جعل المجتمع مسترخياً، بغض النظر عن الأهداف السياسية من وراء ذلك، تأتي الأيديولوجيا لتضيق الخناق عليه، وتحرمه من المباحات، وتتوسع في التحريم تحت مسميات البدع ودرء المفاسد. يكفي أن نعرف أن لعبة كرة القدم حرام، وهناك ما يقرب من المجلد من الفتاوى (في الدرر السنية) يبين الحرمة؛ ولازالت المعازف كلها حرام فضلا عن الغناء والرقص، وإهداء الورد، ولباس البنطلون والقبعة، بل لاتزال المؤسسة تستثار ومشغولة بالعباءات وأشكالها! وصارت الباروكة حرام وكذا وصلات الشعر، وألعاب الأطفال لأنها تماثيل، والتصوير الفوتوغرافي والسينما وحتى التلفزيون صار حراماً جرى على الملأ حرقه (فهو آلة خطيرة وأضرارها عظيمة كالسينما) كما قال الشيخ ابن باز، وزيادة على ذلك فإن التصفيق حرام، والسفر الى بلاد الكفر حرام، ومن يتعلم اللغة الإنجليزية يقع في مشكل، إضافة الى ما عودتنا عليه المؤسسة الدينية من إنكار الحقائق العلمية التي لازال الجدل قائماً بشأنها ككروية الأرض والوصول الى القمر!

كل هذا يشير الى حقيقة أن الأيديولوجيا الوهابية وإن صلحت (كمركبة توصل الى الحكم) فإنها لا يمكن أن تتحول الى أيديولوجيا دولة، بل هي تتناقض معها في الصميم، وإن تمّ تأجيل الصدام لمصالح مرئية حاضرة، فإنها تزود من يريد الصدام بكل المبررات الشرعية لفعل ذلك، وما يقوم به دعاة العنف اليوم، لا يعدو ان يكون تطبيقاً أميناً لتلك الأيديولوجيا. وفي الحقيقة فإن الأيديولوجيا الرسمية، ليست تنطوي على مخزون تراثي ضخم يتعارض مع أسس الدولة وقيامها، فحسب، بل هي ـ أكثر من أي أيديولوجيا أخرى ـ غير قادرة على التجديد من الداخل. بل لديها نفور تجاه ذلك، الأمر الذي جعلها غير قادرة على استيعاب أجنّة الإصلاح الديني او الإجتهاد الديني، في إطارها، وما نزعات تكفير الكثير من هؤلاء إلا دلالة على التآكل الداخلي وعلى أزمة مستعصية على الحل.

بلا شك أن الأيديولوجيات كلها تفرز مشاكل من هذا النوع، لكن نموذج الأيديولوجيا في المملكة أكثر استعصاءاً وأقل تكيّفاً مع المستجدات، وأضعفها إبداعاً رغم أنها تزعم التجديد، أو قامت على التجديد، وشرعنت الإجتهاد من الناحية النظرية.. لكنها في واقع الأمر مختنقة بالتقليد، ويكفي للمتابع أن يقرأ أية كتاب سلفي معتمد ليكتشف النصوص المستوردة من التاريخ والتي تعتبر مقدسة لا يمكن المساس بها.

في النموذج الإيراني، عقدة مشابهة، لكن المذهب بدا وكأنه أقدر على التواؤم مع واقعه السياسي، حيث ميدان الجدل (تجديد الفقه) وفي المملكة ميدانه (العقيدة الثابتة) التي لا يمكن أن تتغير، كما يرى أصحابها. في الأولى جرت محاولات تكييف الفقه مع واقع الدولة كما جرت مصالحته مع المفاهيم الغربية، وبالذات فيما يتعلق بالمواطنة والدستور والحقوق والمشاركة الشعبية وغيرها، كما جرت عملية واسعة لمصالحة التراث الوطني والديني من أجل تصليب الهوية الوطنية. هذا أنتج دوراً قوياً للمرأة غير مسبوق، وأنتج مساواة في الحقوق السياسية، بل ظهر مجتهدون فساووا بين الديات (المواطن المسلم والمواطن غير المسلم) وصارت قانوناً، وظهرت فتوى مساواة (المرأة والرجل) في الدية. وحلّت جزئياً عقدة (التشريع) التي يمارسها البرلمان؛ ومن جهة أخرى لا يحق للقاضي أن يجتهد طالما هناك قوانين مكتوبة وكثير منها موروث منذ عهد الشاه، ولاتزال هناك الكثير من المشاكل في الجهاز القضائي شبيهة بما هو موجود في المملكة. أما قضايا المجتمع، فإن رجال الدين اكتشفوا من خلال (التجربة والخطأ) أن الكثير من الأحكام الدينية لا يمكن تطبيقها، وإن طُبقت تعسفاً جاءت بالمفاسد، كما هو الحال في موضوع فرض الحجاب. لقد اكتشف الفقهاء الإيرانيون ومنذ الأيام الأولى لحكمهم أن (التراث الفقهي الشيعي ـ وربما الإسلامي بمجمله) رغم ضخامته غير متواءم مع الأوضاع الحاضرة، كونه منتج قديم (قبل قرون عديدة) فاجتهدوا في موضوع الغناء والموسيقى واجتهدوا في إيجاد بدائل في هذا المجال كما في السينما التي كانت عند البعض محرمة كما هو في المملكة اليوم. واكتشفوا أن التوسع في قاعدة درء المفاسد تؤدي الى (ردّة عن الدين) والى (صدام مع الدولة) والى خسران أدوات توجيه المجتمع لصالح أدوات التوجيه الخارجي.

ورغم كل هذا، لازالت الأيديولوجيا تشكّل عبئاً على الدولة، رغم الإجتهادات الموسّعة، ورغم المنتج الهائل فيما يمكن تسميته بـ (فقه إدارة الدولة) ولازالت العقول تعمل على (تطويع) التراث من جهة، والخروج باجتهادات جديدة من جهة أخرى وفق قواعد أصولية متعددة، يعترض فيها من يعترض، وينزوي فيها من ينزوي. فالأزمة هنا تنبع من وجود أيديولوجيا بقيت لقرون تعيش عالم المعارضة، عالماً خارج الدولة والحكم بما تتضمنه من ترميز للفكر وغيره.. وفي ظلّ نزعة المقاومة والمعارضة الطاغية، أصبح الفقه فقهاً للأفراد وليس للجماعات او للمجتمع، فقهاً لا علاقة له بالدولة وآلية الحكم، بقدر ما كان مهتماً بأيديولوجيا الجهاد والمقاومة واستثارة الحس بالمظلومية والتهميش. الآن، انتهت تلك المرحلة، فاكتشف المؤدلجون بأن ما لديهم أقل من أن يدير دولة، ولا يمتلك مقومات التمأسس كأيديولوجيا حكم. إن ذلك يتطلب تراثاً مختلفاً، واجتهادات جريئة، تحت ضغط الحاجة، والشعور بالمأزق والخطر.

الغريب في المملكة، انه بالرغم من (مأسسة العمل الديني الرسمي) فإن الوهابية استفادت من الإطار، أي من الشكل والتنظيم كجزء من مؤسسات الدولة، ولكنها في محتواها لم تتغير إلا في الحالات النادرة. التمأسس، أعطى دفعة قوية لأيديولوجيا غير قادرة على خدمة المجتمع والدولة، فقد انتهت مهمتها بقيام الدولة، وبدأ عبؤها يتصاعد منذ ذلك الحين؛ وفي الوقت الذي لا تبدو فيه الأيديولوجيا قادرة على (الإبداع) تتحول شيئاً فشيئاً الى أيديولوجيا مناهضة للدولة (معارضة)، أو على الأقل (مفرّخة) للعنف ضدها. ومن جهة نظام الحكم، فإنه حتى اللحظة غير قادر ـ وربما غير راغب ـ لا في تجاوز الأيديولوجيا الرسمية، ولا في تطويعها والدفع باتجاه إصلاحها الداخلي، فهي كالعصا، قد تُكسر بدل أن تطوّع. من الإستحالة بمكان أن تكون هناك دولة تحتكر كل تفاصيلها أيديولوجية شمولية، ولكن يمكن أن تتوفر دولة تهيمن عليها أيديولوجيات تعيق تقدم الدولة وقد تخنقها، ونظنّ أن (الوهابية) كأيديولوجيا وصلت الى طريق قد يكون حلّ مأزقها الداخلي بتدمير بنية الدولة نفسها. فهذه الدولة، كمنتج مذهبي، أصبحت بنظر الأتباع مجرد مولود شاذ يجري حثيثاً التبرؤ منه، أو التخلّص منه لصالح مولود جديد يجري التبشير به.