ما بين العودة والحكومة السعودية

مُفتون من خارج الحدود

 

 

حاولت الحكومة السعودية الإنتقام من الشيخ سلمان العودة، وادّعت بأنه تراجع عن فتوى الجهاد في العراق، وروجت الأكاذيب ضدّ الرجل بعد أن عجزت عن محاججته في فتواه على أرضية التراث السلفي الوهابي.

 لم تكن الإثارة ضد الشيخ سلمان العودة بشأن إبنه معاذ، والذي أُشيع أنه كان يحاول مغادرة المملكة من أجل (الجهاد) في العراق، سوى ضجّة مفتعلة، وكلّ خطأ الرجل ـ إن كان له خطأ ـ هو أنه أبلغ المسؤولين الأمنيين عن (احتمال) وجود نيّة لدى إبنه ليغادر البلاد، بناء على رسالة جوال تحتمل أكثر من معنى كان قد بعثها الى أهله؛ وقد تبيّن لاحقاً أن الإبن لم يغادر ولم يكن في نيته (الجهاد!) خارج الحدود، وهذا رأي أبيه سواء فيما يتعلق بأفغانستان أو في العراق.

لماذا الضجّة إذن؟!

المشكلة لم تكن تزيد عن تصفية حساب، ليس من قبل من نشر الخبر، والذي استقيت معلوماته من مصادر رسمية أمنية (المباحث) كان غرضها التشهير بالشيخ العودة، وبفتواه التي وقعها مع خمسة وعشرين آخرين من مشايخ السلفية والتي قالت بالجهاد في العراق.. وإنما تصفية حساب مع الحكومة السعودية نفسها.

لمّا كانت الحكومة السعودية غير قادرة على منع المفتين من الفتيا، المؤصّلة سلفياً، ولما كان نقضها صعباً بالإستناد الى التراث السلفي بالذات، لم تجد الحكومة سوى اللجوء الى (المفتي) والى بعض أعضاء هيئة كبار العلماء، كي يقوموا بتسويد صحائف المفتين، الذين أحرجوا الحكومة، وربما ورطوها ـ وهي التي تدافع عن نفسها في الغرب ـ في صدام جديد مع الولايات المتحدة، التي تتهم الحكومة السعودية ومشايخ السلفية بتفريخ وتصدير الإرهاب، رجالاً وفكراً وفتيا.

المفتي آل الشيخ، لم يفنّد فتاوى مشايخ الدرجة الثانية، الذين هم في مجملهم لا يقولون بالخروج على النظام السعودي، ولكنهم لا يمنحونه شرعية مطلقة، بل هم في قرارة أنفسهم يرونه نظاماً فاسداً.. المفتي في لقائه مع صحيفة عكاظ لم يفتي بحرمة الجهاد في العراق، وإنما قال بأن الراية التي يقاتل تحتها غير واضحة، وطلب من المتحمسين بأن لا يرموا بأنفسهم الى التهلكة، وهذه نصيحة أكثر من كونها فتوى، وهي قابلة للنقض بسهولة اعتماداً على التراث السلفي الذي تتبناه الدولة ويتبناه مشايخها ومفتوها.

لقد اعتبر البعض الموقعين لفتوى الجهاد في العراق، أصدق مع تراثهم الديني، وأكثر تمثيلاً للتيار السلفي، ولذا عدّ هؤلاء بمثابة (بيت الإفتاء) الحقيقي للشارع السلفي، وليس المؤسسة الدينية الرسمية ومشايخها، الذين فقدوا الكثير من مصداقيتهم في السنوات الأخيرة، خاصة بعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن باز. ومشكلة الدولة أنها لم تصل الى تفاهم مع هؤلاء، فهذا التفاهم يكلفها كثيراً، ولكنها في الوقت نفسه لم تمنح سلطة كافية لعلمائها كيما يظهروا أنفسهم بوجه مستقلّ عن الدولة.. وبدلاً من ذلك عمدت العائلة المالكة الى تشويه سمعة المفتين من الجيل الثاني انتصاراً لسياساتها ولمشايخها، فكانت الإثارة المفتعلة ضد الشيخ العودة، وكان التعريض به بحجة مخالفته لفتواه، حين يدفع بالمواطنين الآخرين في بحار الدم في الوقت الذي يستبقي إبنه في أحضانه. ومثل هذا القول ليس فقط مخالفاً للحقيقة، بل أن ما زيد عليه أيضاً مخالف لذلك، وهو القول بأن الشيخ العودة تراجع عن فتواه، والحقيقة أنه لم يفعل، رغم الدعاية الحكومية التي تحاول أن تتحصل على أية مكاسب تردّ بها غائلة الدعاوى والإنتقادات الآتية من الخارج.

كل هذا لا يعني أن الفتوى مقبولة وصحيحة، إذ لا خلاف على (حق) العراقيين في الدفاع عن وطنهم ضد الإحتلال الأمريكي وغيره. فهذا الثابت لا يختلف عليه أحد حتى بين العراقيين أنفسهم، بمختلف مرجعياتهم الدينية. ومشكلة فتوى علماء السعودية الـ 26، تندرج في الآتي:

1 ـ أنها فتوى خارجية، لم يوقعها شخصية واحدة، بل مجموعة كبيرة لها أثرها في الساحة المحلية، بحيث أكّدت على أن ما يجري في العراق له امتدادات خارجية، خاصة السعودية، التي يعترف الجميع اليوم أن مواطنيها مشتركون في (دوامة الجهاد). ومثل هذه الفتوى، تورّط الدولة في معارك خارجية لا تستطيع تحملها. وهذا لا ينطبق فقط على مواجهة الأميركيين، إذ ان هؤلاء المشايخ بإمكانهم، واستناداً لتراثهم، ان يفتوا ضدّ كل الأنظمة العربية، ويصمونها بالكفر، ومحاربة الدين وأهله، وأن جهادهم واجب على كل العرب كلٌ في موقعه وضد نظام الحكم الذي يليه. وكانت المؤسسة الدينية قد فعلت شيئاً من هذا، ضد صدام وضد العقيد معمر القذافي وضد حافظ الأسد وضد الخميني وعبدالناصر وربما ضد بورقيبة، وكذلك كما فعلت مع الجماعات والتيارات الإسلامية التي اتهمت بالكفر والزندقة والهرطقة ابتداءً بالشيعة والصوفية والأحباش مروراً بالأباضية والإسماعيلية والدروز والمهدوية وربما جماعات التبليغ الإسلامي والإخوان المسلمين وحزب التحرير وغيرها. إن المخزون الفقهي والعقدي السلفي في المملكة يتسع لتكفير كل الأنظمة العربية والإسلامية، وكذلك تكفير كل الجماعات والمذاهب، ومثل هكذا فتاوى ـ وإن كانت منسجمة مع التراث الوهابي ـ فإنها غير منسجمة مع مصالح الدولة التي تحمي ذلك التراث، ولاتزال الحكومة السعودية تعاني من هذه الفتاوى الى اليوم.

2 ـ هذا بالطبع لا يعني أن يتحول الإفتاء حسب طلب الحكومة بحيث يخدم سياساتها ومصالحها، فيقوم المشايخ بتقديم فتاوى سياسية، مرة ضد صدام وأخرى ضد القذافي أو عبد الناصر وثالثة ضد الخميني وهكذا، وإنما يعني أن لا يتصور السلفيون ـ الرسميون وغير الرسميين ـ أنهم مسؤولون عن إصلاح العالم، وأن من حقّهم ـ دون غيرهم ـ الإفتاء السياسي، ذلك أن أكثر الدول العربية والإسلامية يوجد بها مفتين (رسميين وغير رسميين) ويوجد بها مؤسسات دينية تتولى شؤون الفتيا في تلك الدول، وإن إقحام رأي المؤسسة الدينية السعودية عليها ـ وهي الخارجية غير المدركة بفقه الواقع ـ يورطها من جهة، وقد يدفع بالآخرين للإفتاء ضد المذهب السلفي وضد الدولة السعودية. لنفترض جدلاً، أن المؤسسة الدينية في ليبيا أو في سوريا أو مسقط عُمان، أفتت بكفر المنتمين لـ (الوهابية) وأفتت بكفر ومجاهدة الدولة السعودية الداعمة لها باعتبارها دولة كافرة تدعم الأجانب وتقوي الأعداء، فماذا سيكون حال المفتين الـ 26؟ هل سيقبلون، وهل سيدافعون عن الدولة السعودية، أم هل سيقال لهم: وما دخلكم أنتم؟ ومن أنتم حتى تفتون لنا وبيننا العلماء والفقهاء؟!

3 ـ وتأتي القضية الخاصة بالعراق لتؤكد حراجة الموقف، وعدم إدراك ما يسمى بـ (فقه الواقع). والسلفيون يشنعون على الآخرين ويدينونهم بأنهم لا يفقهون الواقع ولا تنزيل النص عليه، ثم إنهم يتهمون نظراءهم في الوطن، وشركاءهم فيه بأنهم يتبعون (ملاليهم في النجف وقم).. فلماذا غاب هذا المقياس عندهم؟ كيف تفتي من الخارج لشعب في أكثريته يتبع فتوى محلية مناقضة لما تفتي به وله رؤية مختلفة وفهماً مختلفاً للواقع الذي يعيشه؟ فإن قيل أن الفتوى تخص من يستمع إليها، وهم هنا السنّة العرب دون الأكراد، فكيف تجازف بوضع مشروع جهادي عنفي للأقليّة قبالة الأكثرية في صدام قد يترتب عليه إضرار بالطرفين، هذا مع الإعتقاد بأن (أقليّة الأقلية) هي سلفية او يمكن أن تستمع الى الفتوى السلفية، والحقيقة أنها لم تنتظر رأيها، وباشرت بما تراه صحيحاً وفق مصالحها أكثر مما يتوافق مع مبادئها. لنتصور جدلاً، أن يفتي مراجع الشيعة في النجف لأتباعهم في المملكة بالجهاد ضد الوجود الأميركي المعلن أو المستتر في البلاد، هل يمكن أن يكون هذا مقبولاً ومنطقياً؟

4 ـ لقد أدّى هذا النوع من الفتيا الى اختطاف القرار الديني والسياسي السنّي نفسه بيد السلفيين المفتين من الخارج والسلفيين المقاتلين القادمين من وراء الحدود، وها هم علماء السنّة في العراق يكتوون بنيران الفتاوى من الخارج، كما بنيران القادمين من الخارج وفي أدمغتهم فتاوى لا يمكن نقضها، تستبيح دماء من يخالفهم، فضلاً عمن ينتقدهم. ولئن حاولت فتوى الـ26 إلفات (مجاهدي السلف) بأن لا يعتدوا على الأبرياء، وأن يصبروا على من يعمل لدى الحكومة، وأن لا يتعرضوا للأجانب الابرياء خاصة اولئك الذين جاؤوا بغرض (الإغاثة).. فإن هذه (الطبطبة) غير كافية لوضع حدّ فاصل واضح بين (مجاهدة الإحتلال) وبين قتل الأبرياء العراقيين قبل غيرهم. الشيء المؤكد أن الفتوى السعودية هذه تأتي في وقت التبست فيه الأمور بين قاطعي الرؤوس ومفخخي السيارات ورجال الإغتيالات، بين البعثيين والصداميين والطائفيين الداخليين والخارجيين وايضاً بين الوطنيين. فلمن كانت هذه الفتوى موجهة، هل لهؤلاء جميعاً؟ أم أن المعني هو نوعٌ واحد جاء من خارج الحدود، وله بعض الوجود في الداخل؟

هذه وغيرها من الإشكالات تجعل فتوى علماء السعودية في غير زمانها وغير مكانها ولغير أهلها، بل هي تطفّل على وضع غير مدرك.. وصدق من اتهم هؤلاء المفتين بأنهم (ملاقيف)!