الـثقـافـة الـسـيـاسـيـّة

 

إعداد: عبد الله الراشد

 

الأقوى، حسب روسو، ليس قوياً بدرجة كافية ما لم ينجح  في تحويل القوة الى حق والطاعة الى واجب. إن محاولات تنشئة الولاء للنظام ليس مقتصرة على دول محددة دون غيرها، فهي موجودة في كافة دول العالم.  إن دراسة كيف ينظر الشعب الى سياسات بلاده هي فحص في الثقافة السياسية. إن مفهوم الثقافية السياسية لا يرجع الى المواقف حيال لاعبين محددين مثل الرئيس الحالي او رئيس الوزراء، ولكنه يلمح الى كيف ينظر الناس الى النظام السياسي بصورة كلية. وهذا يتضمن ما اذا كان المواطنون يرون النظام بكونه شرعياً، أي ان حكامه يتمتعون بالحق وهكذا القوة. ولذلك، فإن أحجار بناء الثقافة السياسية هي: الاعتقادات، والآراء، والعواطف الخاصة بأفراد المواطنين تجاه شكل حكومتهم. ويعرّف باي (Pye) الثقافة السياسية على أنها (مجمل القيم الاصلية، والمشاعر والمعرفة التي تعطي شكل وجوهر العملية السياسية).

 الثقافة السياسية والاستقرار السياسي

 إن الثقافة السياسية الداعمة، والمتراكمة عبر الاجيال تساهم في استقرار الأنظمة السياسية. فالنظام القائم على الحق يمكن له أن يدوم فترة أطول، لكونه في الحد الأدنى أشد تأثيراً من ذلك النظام الذي يعتمد على القوة وحدها. إن تأثير الثقافة السياسية على الاستقرار السياسي كما يكشف عن ذلك كتاب ألموند وفيربا (الثقافة المدنية الصادرة عام 1963) والمستند على عمليات مسح أجريت خلال عامي 1959 ـ 1960 في الولايات المتحدة وبريطانيا، والمانيا الغربية، وايطاليا والمكسيك. وكان الغرض من عمليات المسح تلك هو تعريف الثقافة السياسية التي كانت في أغلب الاحتمالات تعيش وتتطور فيها الديمقراطية الليبرالية.

وقد استطاع الموند وفيربا التمييز بين ثلاثة أنواع نقية من الثقافة السياسية: الأبرشية أو المحدودة (parochial)، التابعة، والمشاركة. في الثقافة السياسية الابرشية، فإن المواطنين يعون بصورة غير محددة وجود حكومة مركزية فحسب، ويصدق هذا على القبائل المعزولة والتي لا يتأثر وجودها وبقاؤها بالقرارت الوطنية التي تتخذها الحكومة المركزية. في الثقافة السياسية التابعة، فإن المواطنين ينظرون الى أنفسهم غير مشاركين في العملية السياسية، وإنما كتابعين ورعايا للحكومة، كما هو الحال بالنسبة للشعوب التي تعيش تحت نظام ديكتاتوري. أما في الثقافة السياسية الأكثر شهرة، وهي القائمة على مفهوم المشاركة، حيث يؤمن المواطنون بأنهم قادرون على المساهمة في النظام وأنهم أيضاً متأثرون به.

إن الفكرة الجوهرية في كتاب الموند وفيربا هي أن الديمقراطية أثبتت بأنها أكثر استقراراً في المجتمعات التي تزوّد فيها الثقافات المحدودة والخاضعة بثقل مضاد من حيث الجوهر للثقافة المشاركة. وهذا الخليط يطلق عليه (الثقافة المدنية ـ civic culture). في هذا التركيب المثالي، يكون المواطنون فاعلين بدرجة كافية في السياسية للتعبير عن خياراتهم المفضّلة لحكامهم ولكنهم ليسوا ضالعين في رفض قبول القرارات التي لا يتفقون معها. في دراسة الموند وفيربا، تقترب بريطانيا والى حد أقل الولايات المتحدة، من هذه الفكرة المثالية. في هذين البلدين، شعر المواطنون بأنهم قادرون على التأثير في الحكومة ولكن غالباً ما يختاروا عدم فعل ذلك، وهذا ما يعطي الحكومة فسحة من المرونة.

وبطبيعة الحال، فإن الزمن يتغير، ومنذ تاريخ الدراسة الفريدة التي قدّمها الموند وفيربا، فإن كثيراً من الديمقراطيات الليبرالية قد اصطدمت بمياه عاصفة: فيتنام، النشاط الطلابي، الكساد الاقتصادي، الحركة المناهضة للنشاط النووي، جماعات البيئة، تقلّصات في دولة الرفاة. وكما لاحظ الموند وفيربا عام 1980 خلال تحديثهما للعمل الاصلي، بأن هذه الاحداث تركت أثرها على الثقافات السياسية الغربية. في بريطانيا، والولايات المتحدة فإن الثقة في الحكومة تراجع كثيراً. وأن ثلاثة أرباع الاميركيين قالوا عام 1964 بأنهم وثقوا بأن الحكومة الفيدرالية (تقوم بعمل ما هو صحيح) ولكن في عام 1996 لم يكن هناك سوى الثلث من يعتقد ذلك. في بريطانيا، فإن القسم الذي يثق في أن الحكومة تقدّم البلاد قبل الحزب سقط من 39 بالمئة في عام 1974 الى 22 بالمئة في عام 1996. تكشف هذه الارقام عن تحوّل كبير في الثقافة المدنية باتجاه سلوك ارتيابي جوهري في السياسة. يبقى، في الولايات المتحدة كما الحال في الديمقراطيات الرصينة، فإن الحكومات تواصل عملها الحكومي. وفي معظم العالم الديمقراطي، فإن الحكام كانوا قادرين على خصخصة الشركات العامة وتخفيض المعونات دون تهديد استقرار النظام السياسي. إن مثل هذا التذمر الظاهر يسلّط الضوء بدرجة أكبر على أداء الأحزاب الحاكمة والقادة أكثر مما يسلط الضوء على العملية الديمقراطية نفسها.

إن هذه النقاط تثبت بأن الديمقراطيات المستقرة لها بنك من الرأسمال السياسي والذي بمقدروه تعزيزها في الفترات الحالكة. وكما لاحظ ميكافيلي (1469 ـ 1527) في كتابه (الأمير) فإن (الامير يجب أن يكسب الشعب الى جانبه، واذا كان العكس هو الصحيح، فليس له عون في اللحظات  الصعبة)، وقد ذكر انجلهارت (Inglehart) نقطة مماثلة بقوله:

حتى وإن كانت الديمقراطية لا تملك جواباً على سؤال: (ماذا فعلت لأجلي مؤخراً؟)، فإنها قد تتعزز عن طريق المشاعر المنبثّة بأنها من حيث الجوهر أمر جيد. إن هذه المشاعر قد تعكس من جهة نجاحات اقتصادية وغيرها والتي قد شهدها أحد ما منذ فترة طويلة أو تعلّمها من طريق آخر كجزء من المشاركة الاجتماعية المبكّرة للفرد.

وقد طوّر بوتنام (Putnam) عام 1993 مقاربة ألموند وفيربا، مستعملاً إيطاليا كمثال له. وقد أوضح كيف ان الثقافة السياسية الداعمة تعزز بصورة مباشرة أداء وأيضاً إستقرار أي نظام سياسي. في العمل الاصلي لكل من الموند وفيربا، صوّر الأخيران ايطاليا على أنها بلد يشعر سكانه بأنهم غير مضطلعين بالسياسة ومعزولين عنها. لقد عاد بوتنام الى هذا الموضوع ولكن أولى اهتماماً أكبر للتباين داخل ايطاليا، وشرح كيف أن الثقافات السياسية المتباينة في البلاد أثّرت في نشاطية عشرين حكومة اقليمية كانت قد أقامتها ايطاليا في السبعينيات. وعلى اية حال، فإن العشرين حكومة المتشابهة في تركيبتها وسلطاتها الرسمية اختلفت بدرجة متعاظمة من حيث الاداء. البعض منها (مثل إيميليا روماغانا في الشمال) أثبتت بأنها مستقرة وفاعلة، وقادرة على صناعة وتطبيق السياسات الابداعية. أما البعض الآخر (مثل كالابريا في الجنوب) فقد حققت القليل. والسؤال: مالذي يفسّر هذه الاختلافات؟

لقد عثر بوتنام على جوابه في الثقافة السياسية، إذ يعتقد بان الأقاليم الأكثر نجاحاً لديها ثقافة سياسية ايجابية، أي ثقافة ثقة وتعاون والتي تنتج مستوى عالياً مما أصطلح عليه بـ (الرأسمال الاجتماعي ـ social capital). في المقابل، فقد لوحظ بأن الحكومات الاقل فاعلية موجودة في المناطق التي تفتقر لأية ثقافة تعاون ومساواة. في ظروف كهذه، فإن بإمكان الحكومات تحقيق القليل وأن مخزون الرأسمالي الاجتماعي، الذي هو في الاصل محدود، سيتضاءل بصورة أكبر.

والرأسمال الاجتماعي يعرّف على أنه ثقافة الثقة والتعاون التي تجعل العمل الجماعي ممكناً ومؤثراً. وكما يقول بوتنام (إنها قدرة المجتمع على تطوير الانا الى نحن. إن الثقافة السياسية ذات رصيد من الرأسمال الاجتماعي يمكّن المجتمع من بناء المؤسسات السياسية بقدرة حقيقية لحل المشاكل الجماعية. وحيث تكون الثقافة السياسية شحيحة، فإن حتى الحكومة المنتخبة سينظر اليها على أنها تهديد للمصالح الفردية).

ولكن السؤال: من أين يأتي الرأسمال الاجتماعي ذاته؟ وتماماً كما الحال بالنسبة لكل من ألموند وفيربا قبل ذلك، فإن جواب بوتنام هو تاريخي. إنه يرجع، بصورة خلافية الى حد ما، التوزيع غير العادل للرأسمال الاجتماعي في ايطاليا الحديثة الى الاحداث العميقة في تاريخ كل إقليم. إن الحكومات الاكثر فاعلية في الشمال تستند على تقليد الحكم الذاتي الجماعي الذي يرجع الى القرن الثاني عشر الميلادي. أما الادارات الأقل نجاحاً في الجنوب فهي مثقلة بتاريخ طويل من الحكم الاقطاعي، الاجنبي، البيروقراطي، والتسلطي. وعليه، فإن تحليل بوتنام للثقافة السياسية يصبح الجهاز الذي من خلاله يفرض الماضي تأثيره على الحاضر.

ولكن تأثير الثقافة السياسية على الحكومة يسري في كلي الاتجاهين. فالثقافة المدنية تساهم في استقرار وفعالية الديمقراطية، ولكن  الديمقراطية التي تقدّم ـ حرفياً ـ الصالح تخلق مواقف داعمة وستعزز النظام السياسي في المستقبل. وقد كتب دايموند وليبست عام 1995 (من أجل نجاح طويل المدى للديمقراطية، ليس هناك بديل للاستقرار الاقتصادي والتقدّم). إن نجاح المانيا الغربية في ترجمة معجزة اقتصاد ما بعد الحرب الى مواقف مفضّلة في ديمقراطيتها الجديدة هو اختبار لسلطة الاداء الاقتصادي في تشكيل الثقافات السياسية. على العكس، كان على البلدان الشيوعية سابقاً التعاطي مع الانهيار الاقتصادي في سنواتها الاولى، وهو تعديل لا بد أنه إختبر الالتزام العام لتفريخ الديمقراطية. ولذلك من الاهمية بمكان إدراك أن الثقافة السياسية نفسها تتشكل من قبل تاريخ الامة والاداء الاقتصادي.

 النخبة والثقافة السياسية

 بالرغم من أن تأثير الثقافة السياسية الجماهيرية على الاستقرار السياسي قد جرى النقاش حوله بصورة واسعة، فإن أهمية الثقافة السياسية للنخبة لم تُطرح غالباً الا بدرجة قليلة. يبقى أنه في الدول التي تسود فيها الثقافة السياسية الأبرشية او المحدودة أو ثقافة الخضوع، فإن الثقافة السياسية للنخبة تعتبر رئيسية. وحتى حين تكون مواقف الجمهور حيال السياسة متطوّرة جداً كما هو الحال في الديمقراطيات الليبرالية الرصينة، يبقى أن وجهات نظر النخبة هي التي تفرض الأثر الأكبر المباشر على القرارات السياسية. وكما ذكر فيربا (1987) فإن قيم القادة السياسيين يمكن توقّع أن يكون لها (انسجام وتداعيات). على سبيل المثال، فإن النخب كانت مركزية بالنسبة للتحولات الديمقراطية الأخيرة.

وتتألف الثقافة السياسية للنخبة من اعتقادات، مواقف، وأفكار حول السياسة التي تتبنى من قبل اولئك القريبين من مراكز السلطة السياسية، إن قيم النخب هي أكثر تماسكاً وجزماً من قيم السكان بصورة عامة.

إن ثقافة النخبة تتجاوز بكثير كونها جزءا تمثيلياً لقيم المجتمع الأوسع. إن أفكار النخبة، في كل انحاء العالم، متميزة عن الثقافة السياسية الوطنية، رغم أنها تكون متداخلة معها. على سبيل المثال، النخب تأخذ بصورة عامة خطاً أكثر ليبرالية في القضايا الاجتماعية والاخلاقية. ويؤكد هذه النقطة المسح المشهور الذي قام به ستوفر (Stouffer) عام 1954 عن مواقف الاميركيين من حرية الكلام. وقد أظهر ستوفر بأن أكثر قادة المجتمع يؤمنون بحرية الكلام بالنسبة للملحدين، الاشتراكيين، والشيوعيين في وقت كان فيه مواقف المجتمع أقل تسامحاً بكثير. وفي مسح لاحق ظهرت زيادة مفاجئة في دعم المجتمع الاميركي لحرية الكلام (راجع سوليفان، بييرسون، وماركوس 1982). وبالرغم من ذلك، فإن من الضروري بالنسبة لقضية حرية الكلام في الولايات المتحدة أن غالبية النخبة السياسية بقيت ملتزمة في وقت كان فيه المبدأ يتعرض لهجوم قوي من حملة مناهضة الشيوعية التي قام بها السناتور جو ماكارثي. وفي اسلوب مماثل، فإن كثيراً من قيادات البلدان الشيوعية سابقاً قبلت الحاجة للانتقال الشامل الى اقتصاد السوق حتى حين تبقى الثقافة الشعبية اكثر تعاطفاً مع مساواة الفقر المعمول به تحت الشيوعية.

وهنا سبب واحد بالنسبة للنظرة الليبرالية المعقّّدة لدى النخب هو مستواهم التعليمي. في الديمقراطيات الليبرالية، أصبحت السياسة مهنة الخريج (الجامعي). إن تجرية التعليم العالي التي تخلق نظرة ايجابية للطبيعة الانسانية تقوي القيم الانسانية وتشجّع على الايمان في قدرة السياسيين على حل المشاكل الاجتماعية، حسب أستن (1977). في حقيقة الأمر، إن التقابل بين قيم النخبة المتعلّمة والقسم الأقل تعليماً من السكان هو مصدر التوتر في أكثر الثقافات السياسية.

في تقييم تأثير الثقافة السياسية للنخبة على الاستقرار، هناك ثلاثة أبعاد حاسمة:

ـ هل لدى النخبة إيمان بحقها في الحكم؟

ـ هل تقبل النخبة فكرة المصلحة الوطنية، والفصل بين الطموحات الفردية والجماعية؟

ـ هل كافة أعضاء النخبة مع قوانين اللعبة، وخصوصاً أولئك الذين يديرون عملية انتقال السلطة؟

إن مكوّناً رئيسياً للثقافة السياسية للنخبة هو اعتقاد الحكام في حقهم في الحكم right to rule. إن الثورات التي اندلعت في أوروبا الشرقية عام 1989 تصوّر كيف أن انهيار الثقة بين الحكّام أنفسهم قد يؤدي الى سقوط الانظمة، كما أشار الى ذلك سكوبفلين (1990).

إن النخبة التسلطية تعزز نفسها في السلطة ليس فقط عن طريق القوة والتهديد باستعمال القوة، ولكن الأكثر أهمية، لأن لديها رؤية للمستقبل والتي بها تستطيع تبرير نفسها لنفسها. ليس هناك نظام يستطيع البقاء طويلاً دون أن يحمل فكرة ما حول الهدف.

في المرحلة الاولى للتصنيع، كان لدى الحكام الشيوعيين سبب وجيه للاعتقاد بأن اقتصادياتهم التخطيطية الجديدة كانت تفضي الى نتائج ما. ولكن مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، فإن التقدم قد إنتهى الى انهيار: فالاقتصاديات التخطيطية قد بلغت طريقاً مسدوداً. وحتى الدعم اللفظي من المفكرين قد تلاشى، حيث أن مسؤولي الحزب بدأوا يفقدون الثقة في حقهم في الحكم. وفي الأخير، سقط الحكم الشيوعي بسهولة لأنه تم إضعافه من الداخل. إن قيم النخبة توقفت عن دعم نظام الحكم، وكان الحكام الشيوعيون مدركين أنهم قد أصبحوا عقبة وليس مصدر تقدّم.

من أجل استقرارٍ طويل المدى، فإن النخبة السياسية يجب أن تقبل وتعمل على تفسير (ما) للمصلحة الوطنية. في هذا السياق يأتي سلوك الحكّام إزاء مناصب الحكومة التي يتولونها. هل يُنظر الى الخدمة العامة كطريقة فحسب لخدمة المصلحة العامة؟ بعض الأجهزة البيروقراطية الوطنية، من فرنسا وحتى باكستان، قد شهدت  بروز خدّام الأمة الى حد حماية البلاد من (السياسيين) أنفسهم. وفي الغالب، على أية حال، فإن الدولة ينظر اليها من قبل الطبقة الحاكمة على أنها درزة لمصادر شحيحة يجب أن تكون ملغومة لمنفعة الحكام، ولعوائلهم، ومرشحيهم، وجماعتهم. في العالم النامي حيث المصادر الاقتصادية شحيحة ومؤسسات الدولة ضعيفة فإن هذه المقاربة تكون سائدة غالباً. في البلدان الشيوعية سابقاً، كان المسؤولون الذين شهدوا سقوط النظام القديم يكسبون شخصياً من الاحتياطي العام في عمليات خصخصة فاسدة. وهذا يعكس ثقافة الكلاب المتناحرة والسلوك الطارد تجاه (ملكية الشعب). ومن السذاجة بمكان افتراض ان السياسيين في أي مكان  مقيّدون فحسب بالمصلحة الوطنية. وعلى اية حال، فإن قيم النخبة، في الحد الادنى، لا يجب أن تعذر المصلحة الذاتية، والتي تهدد الصالح العام. إن الفساد، حال فضحه، يجب أن يولّد نقداً وليس مجرد تربيت على الاكتاف.

إن البعد الأشد خطورة في الثقافة السياسية للنخبة ربما يكون المواقف التي يتنباها السياسيون في قوانين اللعبة rules of the game. هناك طائفة من الاحتمالات هنا: هل أن المنافسة بين النخبة مطلقة، كما في بلدان مثل ايرلندا الشمالية، حيث ان (المكاسب) لطرف ما (البروتستانت او الكاثوليك) يتم النظر اليها على أنها (خسائر) بالنسبة للطرف الآخر؟ في ظروف كهذه ليس هناك قوانين متفق عليها تحدد المنافسة السياسية. أو هل ان نزاع الحزب القوي يكون معتدلاً بموجب الاتفاق على تلك القوانين، كما في بريطانيا ونيوزلندا؟ إن نتائج هذين الموقفين من اللعبة السياسية على درجة كبيرة من الاهمية. خذ، على سبيل المثال، فضيحة ووترجيت في اميركا خلال ضلوع الداعمين للرئيس نيكسون في أنشطة غير قانونية مثل الاختراق والتنصّت على المكالمات ضد خصومهم الديمقراطيين. لقد عكست تلك الانشطة نظرة الرئيس للسياسة: (نحن) ضد (هم). فقد كان نيكسون على استعداد للتخلي عن القوانين الاعتيادية من اجل أن يكفل بأن خصومه قد (أصابهم ما يستحقونه). إن ديمقراطية تسود فيها هذه التصرفات بين النخبة ليس لها سوى أفق محدود للبقاء.

في المقابل، حين يشاء حزب او مجموعة قيادات للاتفاق على السماح للتعبير عن المصالح والقيم الاخرى، فإن توقعات الاستقرار السياسي ستتحسن. يعتقد ليجفارت (Lijphart:1977) بأن المواقف المتعايشة بين ممثلي الجماعة في مجتمعات منقسمة مثل النمسا وهولندا يقدّم وصفة للحكومة المستقرة في الخمسينيات والستينيات. ومع أن الدين قد قسّم بقوة هذه البلدان الا أن سياسيي الحزب الذين يمثلون مجتمعات متباينة قبلوا حق كل قوة اجتماعية في الحصول على حصة عادلة من مصادر الدولة. هذه الجماعات ـ الكاثوليك، البروتستانت، والعلمانية ـ قد أصبحت حرة في توزيع هذه المصادر تماماً كما يريدها قادتها. إن هذا السلوك (عش ودع غيرك يعيش) قد أستوعب بنجاح الانقسامات المتفجّرة وكشف أهمية قيم النخبة في المساهمة في استقرار الديمقراطيات.

 التأهيل السياسي (Political Socialization)

 يعرّف التأهيل السياسي على أنه عملية نتعلم من خلالها السياسة، وهي تتعلق باكتساب العواطف والهويات والمهارات وايضاً المعلومات. إن الابعاد الرئيسية في عملية التأهيل هي ماذا يتعلم الناس (المحتوى)، ومتى يتعلموا (التوقيت والتسلسل)، ومن أين يتعلموا (الادوات او الوسائط). إن اكثر الدراسات المتعلقة بالتأهيل السياسي مشتقة من النموذج الاولي (primacy model)، القائم على فرضية أن ما نتعلمه في حال الشباب يزوّدنا بمنظار نفسّر عبره التجربة اللاحقة.

إن التأهيل السياسي هو وسيلة يتم من خلالها نقل الثقافة السياسية عبر الاجيال، إنها عملية عالمية. فمن اجل البقاء، فإن كافة المجتمعات يجب ان تتعلم المهارات المطلوبة بالنسبة للشعب كيما يؤدي أدواراً سياسية، تتفاوت من التصويت في الانتخابات الى ادارة البلاد. إن النقطة المركزية في موضوع التأهيل السياسي هي كونها والى حد كبير عملية غير منضبطة وغير قابلة للانضباط. فمهما حاول الحكّام فإنهم يجدوا أنفسهم عاجزين عن السيطرة على هذه العملية او محتويات التأهيل. من الناحية الطبيعية، لذلك، فإن التأهيل السياسي يسهم في طي الوضع القائم للوراء. ونتيجة ذلك، فإن الثقافة السياسية تصبح قوة توطيدية، وتزوّد بمانع رئيسي ضد التغيير المخطط.

إن تعلّم الثقافة السياسية يختلف تماماً عن اكتساب المهارة الاكاديمية، مثل معرفة التاريخ. إن التعليم الرسمي يتعلق باستيعاب وتعلّم كيف نستعمل المعلومات المنقولة من المدرّس الى الطالب في الاطار التعليمي. إن التأهيل السياسي منبث، وغير مباشر، وغير مرسوم او غير مخطط. إنه يتعلق بتطوّر العواطف السياسية والهويات (ماهو وطني؟ ديني؟ حزبي؟) الى جانب اكتساب المعلومات. إن التأهيل السياسي يتموضع عبر مؤسسات مختلفة، العائلة، الجماعة المتماثلة، ومكان العمل  الى جانب التعليم الرسمي. إنه يتأثر الى حد كبير بسياق التواصل وهكذا محتواه. على سبيل المثال، إن سلوك الاطفال ازاء السياسة سيكون منفعلاً الى حد كبير بواسطة تجربتهم في السلطة داخل البيت والمدرسة وهكذا بواسطة ما يقوله لهم الآباء والمدرسون حيال نظراتهم كيف يجب ان تكون.

إن النظرة الاولية للتأهيل السياسي هي أن الولاءات السياسية الاساسية تتشكل في مرحلة الشباب. إن التعليم في مرحلة الطفولة هو (تعليم عميق) لأنه يشكّل إطاراً لتفسير المعلومات المكتسبة في مرحلة البلوغ. إن الهويات السياسية الاصلية تتطور في الطفولة المبكرة، حيث تكون العائلة هي مصدر التأثير الحاسم في الطفل. أما في الطفولة المتأخرة، فإن هذه الملحقات مضافة عن طريق الزيادة الملحوظة في المعلومات. إن المؤثر الرئيسي في المراهقين هي في اعادة تصفية الادراك المفهومي للطفل، بناءً على المعلومات التي حصل عليها. إن هذه المراحل الثلاث من التأهيل: الطفولة المبكرة، الطفولة المتأخرة، والمراهقة، تؤهّل الطفل للمشاركة السياسية في حياة البالغين السياسية. إن تجربة البلوغ ستتطور ولكنها لا تحوّل عادة النظرة المؤمّنة في مرحلة الشباب. إن النموذج الاولي لمقاربة التأهيل تعمل بصورة أفضل في الفترات المستقرة مثل الخمسينيات.

والمثال على النموذج الأولي هو تحليل باي (Pye, 1985) للثقافات السياسية الاسيوية. يجادل باي بأن حجر الزاوية في بناء السلطة في الثقافات الاسيوية هي الولاء لجماعة أو المجموع. خارج إطار الحاجة للانتماء، فإن انضواء الفرد في هوية جماعية هي السلطة المتشكلة في الثقافات الاسيوية.

ولكن ما هو جذر هذه الحاجة للانتماء والتوافق؟ يقترح باي بأن الجواب يكمن في تجربة الطفولة. إن الطفل الآسيوي يعثر على حب غير مفنّد واهتمام من العائلة: فالطفل يحترم ولا يسأل عن السلطة الأبوية، ما يؤدي الى إذعان مماثل منه للحكام السياسيين في مرحلة لاحقة في الحياة. إن هذا القبول للقيادة الخيّرة هي خاصية فرضية في (الديمقراطية الاسيوية).

وبالرغم من أن معظم البحوث حول التأهيل السياسي تسلِّط الضوء على الاطفال، فإننا يجب ان نتذكر بأن عملية التأهيل هي ممتدة على طول الحياة. إن النظرات السياسية الاساسية تنضج في رد فعل على الاحداث والتجربة وأن التعليم السياسي لا يتوقف عند نهاية مرحلة الطفولة (أنظر كونفور وسيرنج: 1994). في القرن الثامن عشر الميلادي، لحظ مونتسكيو بأنه: نحن نتلقى ثلاثة أنواع من التعليم، واحد من عوائلنا، والثاني من معلمينا، والثالث من العالم، وأن الثالث يتناقض مع ما يعلّمنا إياه الاول والثاني.

بعض خبرات البالغين مثل السفر للخارج هي شخصية، ولكن الاحداث الجماعية مثل الكساد والحرب تحتفظان بأهمية سياسية. وعليه بإمكاننا معارضة النموذج الاولي ببديل آخر هو النموذج الجدّي (من جديد) أو الحديثي (model recency). إنها الفكرة القائلة بأن المعلومات الحالية تحمل ثقلاً أكبر فقط لأنها معاصرة وحديثة. فما نراه في التلفزيون اليوم يكتسب أهمية أكبر من ذكريات الطفولة المبكرة. إن واقع البلوغ يختزن أكثر بكثير من أساطير الطفولة.

إن المقاربة الحديثة تعمل بصورة أحسن خلال فترات التحوّل السياسي السريع كما في الثمانينات والتسعينيات، ولكن يجب أن يكون هناك بعض الجدارة العامة حيث من الواضح ان الثقافات السياسية تتغير، حتى وإن كان التغيّر بطيئاً. ليس هناك جيل يفهم السياسية بنفس الطريقة التي كان تفهمها الاجيال السابقة. في واقع الأمر، إن التحوّل الجيلي هو بلا شك آلية رئيسية للتغيير الثقافي. إن جيل الستينيات الذي جاء بدون ذاكرة الحرب العالمية الثانية إستطاع تطوير قيماً متميزة والتي أثبتت بأنها على درجة عالية من الاهمية حيث ان هذه الكتيبة تحركت الى مواقع السلطة.

  الدين والثقافة السياسية

 إن النقاش حول الثقافة السياسية يكون ناقصاً دون تقييم دور الدين. وكمصدر للقيم الاساسية، فإن الدين يعتبر مكوّناً هاماً في الثقافة السياسية في دول عديدة. وهذا يعود الى سلطة الدين في شرعنة او نزع شرعية السلطة العلمانية. وكونه يتموقع فوق العالم العلماني، فإن الدين يمنح الشرعية ولا يستمدها، فبإمكان القادة الدينيين المسؤولين عن تفسير العقيدة أن يتحولوا في اقصى نفوذهم الى حرّاس الثقافة السياسية.

إن هذا الدور الفريد أجبر الحكّام على تكريس اهتمام بالغ لعلاقاتهم بـ (المؤسسة الروحية). في العالم ماقبل الحديث كان الدين يشرعن بصورة مباشرة كافة مناشط ووجه الحياة في المجتمع. وقد لحظنا بان الدين والحكومة شكّلا نظاماً متكاملاً، فالدين الى حد كبير هو ثقافة سياسية. في العالم النامي، أصبح الدين ثقافة المحرومين، وأنه جهاز رئيسي بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالابعاد من المجتمع، إنهم قادرون على الافصاح عن احباطهم. وبالنسبة للفقراء بخاصة في مجتمعات غير متكافئة او متساوية فإن الدين يعتبر الصوت القوي للمعارضة السياسية.

في هذه المرحلة، إن الدليل الدامغ على أهمية الدين يبرز من خلال إنبعاث الاسلام. إنه الدين الأسرع انتشاراً في العالم، وهو الدين الذي تستمد منه كافة القوى السياسية ثقافة الاحتجاج ضد الديكتاتوريات وسياسات الهيمنة واخيراً ضد الغرب الاستعماري. لقد ازدادت أهمية الاسلام كمصدر رئيسي للثقافة السياسية لشعوب الشرق الاوسط وربما لأكثر من مليار مسلم في ارجاء العالم منذ عقدين على الاقل، حيث بات استعمال الخطاب الاسلامي ضرورياً في الحرب من اجل المصالح الخاصة او العامة.