الانتخابات

الحكومة والرسالة المزدوجة

 

مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية نقترب من نقطة تحوّل افتراضية ايذاناً بمرحلة سياسية جديدة.. حتى اللحظة لم تتبدل مواقف كثير من المتطلعين نحو اصلاح سياسي شامل، فالآمال ليست معقودة بنواصي تجربة مازالت تحبو على قدمين هزيلتين، فالنكوصات المتراكمة تضع الدولة امام امتحان الاقوال والافعال، فالسجل الكامل لقضية الاصلاح لا يدفع للمراهنة على خيارات ليست مؤكدة فضلاً عن كونها مأسورة لمنهج في التعامل المحفوف بكل مبررات الريبة.. فالانتخابات البلدية تأتي في ظروف غامضة، بحجم الغموض المحيط بقضية الاصلاحيين المعتقلين في سجن عليشة.. ليس من باب التشاؤم التحفظ على كل ما يصدر عن الدولة، ولكن لم تقدم الاخيرة ما يكفي من الادلة الراجحة على الاعتقاد بأن صبح الاصلاح بات قريباً.

وعلى أية حال، فإن أول ما تبديه عملية الانتخابات، أن ثمة إشكالية حقيقية تواجه الحكومة، وهي إشكالية جد دقيقة وعلى درجة كبيرة من الحساسية وتتطلب موازنة ذكية في الموقف، فبين الممانعة العنيدة لدى الطبقة الحاكمة إزاء تطور ثقافة سياسية ذات إيحاءات ديمقراطية تشق طريقاً نحو انخراط عدد كبير من الافراد في الحياة السياسية وصولاً الى مرحلة شراكة حقيقة وفاعلة في عملية صناعة القرار وبين الرغبة الجامحة في إعادة طلاء صورة النظام في الخارج، عبر ايصال رسالة للمجتمع الدولي بأن ثمة (عصراً سياسياً جديداً) بحسبما وصفه الامير تركي الفيصل قد بدأ في السعودية، وأن الحكومة التمثيلية او المشاركتية ((participatory government قد أُرسيت أركانها، هناك يتحدد الاشكال الجوهري في مبيّتات الحكومة. إن المأزق هنا يكمن في ممانعة الدولة حيال دخول قطاعات واسعة من الشعب في المضمار السياسي ورواج ثقافة الانتخاب والمشاركة وبين السعي الدؤوب لاستبدال الانطباعات السائدة في الغرب حول المملكة كونها محكومة بنظام سياسي شمولي يشجّع الارهاب ويعارض الاصلاح الديمقراطي وحقوق الانسان وفي المركز منها حقوق المرأة والمشاركة السياسية والحريات العامة بما فيها حرية التعبير والاعتقاد.

إن الموازنة المعقودة بين موقفين متعارضين او رسالتين بهدفين متناقضين تجعل المراقب امام حالة جديرة بالمتابعة الدقيقة لرسم ملامح تطور تجربة الانتخابات، وستعين بالتأكيد على التنبوء بما سيؤول اليه مشروع الاصلاح السياسي في السعودية، فالتغييرات الحاصلة خلال العام الماضي وعلى وجد التحديد منذ السادس عشر من مارس 2003 حين طويت صفحة زاخرة بالنشاط الاصلاحي الوطني، وفرضت وزارة الداخلية تدابير أمنية صارمة ضد العمل السلمي بدأت باعتقال رموز قياديين في التيار الاصلاحي الوطني ثم طالت التدابير حرية التعبير والصحافة، تجعل ـ أي هذه التغييرات ـ عملية الاصلاح عملية عسيرة ومريبة، لأنها تتم بمعزل عن الارادة الشعبية والوطنية. 

إن إحدى الاشكاليات الكبرى في عمليات التغيير السياسي التي تجري في الدول  التي تلج مرحلة التحوّل الديمقراطي حديثاً تتصل بالضرورة بالجانب المفهومي. في الانتخابات كما في غيرها من الموضوعات ذات التفسيرات المتشابهة أو المواربة نواجه اشكالية المصطلح والمعنى. في حقيقة الأمر، إن التعارض بين المصطلحات المستعملة والشائعة والمعاني المنوطة بها تظل إحدى موضوعات الجدل ليس في السعودية فحسب بل في كثير من الدول التي حاولت أن تسبغ على تدابيرها الاصلاحية وسام الديمقراطية، حيث تقوم بعض الدول بالدخول في لعبة المصطلح والمعنى، فتقوم بسلخ المعنى من المصطلح وتدسّ اليه معان لا تمت اليه بصلة أو تهدمه من داخله. وشأن كثير من المصطلحات التي جرى افراغ محتوياتها مثل الوطنية والحرية والمشاركة فإن الانتخابات يظل مصطلحاً مهدوم المعنى في كثير من الدول سيما حين يخضع لعملية مقارنة مع تجارب الانتخابات الحقيقية الرئاسية والبرلمانية. إن ما تكسبه الحكومة من انتخابات المجلس البلدي انها ـ أي الحكومة ـ باتت في نظر الحكومات الغربية الديمقراطية المنتخبة وفي نظرالمؤسسات الدولية ومنها الامم المتحدة مصنّفة منذئذ في قائمة الدول السائرة نحو الديمقراطية ، فقد أصبحت السعودية وفق هذا التصنيف تعتمد مبدأ الانتخابات، وهو بلا شك تصنيف يضفي عليها رداء الديمقراطية.. بالنسبة للدول الحليفة والغربية منها بوجه خاص والولايات المتحدة بوجه أخص، فإن اعتماد السعودية مبدأ الانتخابات يوفّر مبرراً صلباً لعملية التحالف، فالدول الحليفة والولايات المتحدة أبرزها يهمها تبرير علاقاتها بالسعودية.. فقد ظلت الولايات المتحدة تواجه اشكالية العلاقة مع نظام معروف في الادبيات الاعلامية والسياسية الاميركية بأنه من أعتى الديكتاتوريات في الشرق الاوسط، فالانتقادات ضد الادارات الاميركية المتعاقبة تدور دائماً حول التناقض الشديد بين شكلي النظام السياسي لدى الحليفين الاستراتيجيين. لاشك أن اعتماد السعودية مبدأ الانتخابات في شكله البدائي سيلقي عن كاهل الادارة الاميركية تبعات التحالف مع السعودية، وسيبرر لها أيضاً الاستمرار في دعمه، فالاعتراض على النظام السعودي لم يعد قائماً من وجهة نظر الادارة الاميركية، فقد دخلت السعودية عصر الديمقراطية وبدأت أولى خطواتها نحو فتح باب المشاركة الشعبية في العملية السياسية.. إن معادلة المصالح المتبادلة تفعل فعلها الفادح في عملية الاصلاح في الشرق الاوسط، وستظل الولايات المتحدة في نظر رواد الاصلاح مسؤولة عن دعم أنظمة شمولية ساهمت هي بصورة مباشرة في تأخير حركة الاصلاح، عن طريق الامداد السياسي والاستراتيجي، تماماً كما تتحمل ـ أي الولايات المتحدة ـ قسطاً من المسؤولية حيال تفجّر ظاهر العنف في السعودية.

بالنسبة للقوى السياسية والاجتماعية الوطنية في السعودية، فإن الانتخابات البلدية لم تحدث تغييرات جوهرية في عقلية النظام الحاكم ولا تقدّم مبررات كافية للاعتقاد بأن ما يجري هو بدء (عصر سياسي جديد).. إن عزوف التيار الاصلاحي الوطني عن تعضيد أي مبادرة سياسية من جانب الحكومة له ما يبرره، فالانتكاسة الكبيرة في حركة الاصلاح منذ السادس عشر من مارس من العام الماضي عصفت بالمزاعم الاصلاحية الرسمية، ثم جاءت التشويهات اللاحقة (لجنة حقوق الانسان الوطنية مثالاً) لتؤكد أن زمام الأمر كله بيد الدولة..فمازال رواد الاصلاح اما في المعتقل او محرومين من الافصاح عن آرائهم في مجمل الموضوع الاصلاحي، بل ومحرومين من السفر أيضاً.

إن المناقشة في الانتخابات تسترعي الانتباه الى البيئة التي تجري فيها وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية. فالمعروف من تجارب الديمقراطيات الراسخة أن الانتخابات في شكلها الديمقراطي تصبح مناسبة لتنافس القوى السياسية والاجتماعية وتفتح المجال لتمظهر الانشقاقات في المجتمع، فالحملات الانتخابية والاجندات المعلن عنها في هذه الحملات هي ترجمات أمينة لتفاوتات اجتماعية وسياسية وايديولوجية، فيما تصبح صناديق الاقتراع وحدها الفيصل في حسم خيارات المجتمع.

هذا يعني، وبتطبيق ذلك على الواقع السياسي السعودي، أن الانتخابات تخلق فرصاً لاستعلان التنوع الداخلي الاجتماعي والسياسي والايديولوجي. فمن الناحية التاريخية، قامت السعودية على أساس إحتواء أو بتعبير أدق كبت التناقضات الاجتماعية وفي الوقت نفسه الافادة مها في توحيد السلطة وتعزيزها..إن ثمة إيهاماً بتوحّد الدولة والمجتمع وانسجامه التام ستبدده الانتخابات فيما لو أخذت مساراً ديمقراطياً حقيقياً، وهذا أمر اعتيادي.. فمن طبيعة الانتخابات وأهدافها أنها تزيل القشرة الخارجية عن المجتمع وتدفع بكافة تنوعاته وتمزقاته للسطح. وما يدرك عادة على أنها من سلبيات العملية الانتخابية كونها مناسبة لانفجار التناقضات الاجتماعية بفعل حدة التنافس بين الناخبين لا تعدو كذلك، فالأمر على غير نحو ما تفترضه الطبقة السياسية، فالانتخابات شأن االانشطة السياسية التنافسية تصبح مرآة صادقة لواقع المجتمع، ودرساً يتعلمه الجميع في كيفية التعامل مع تناقضاتاهم.

وفق هذه الحقيقة، ستظل الانتخابات فرصة لكشف الاختلافات الايديولوجية على الصعيد السياسي بما فيها من أشكال حادة وعنيفة ومعتدلة، وستلقى كافة القوى السياسية نصيبها الشعبي من خلال العملية الانتخابية الحرة. وبطبيعة الحال، فإننا نتحدث عن عملية انتخابية حرة ومفتوحة ونزيهة، يمارس فيها المرشحون كامل حرياتهم في الترويج لبرامجهم الانتخابية.

ثمة تباينات وانشقاقات بين سكان المملكة، على قاعدة مذهبية وقبلية ومناطقية، وهي قائمة قبل وبعد قيام الدولة السعودية.. إن درجة حدتها صعوداً وهبوطاً يعود الى قدرة الدولة على تخضيد تناقضات المجتمع والارتقاء عليها، فالتمزقات الداخلية لم تضمحل او تنضوي في دوائر أكبر، وأن إخفاق الدولة في تحقيق الاندماج الحقيقي يجعل من الانتخابات أو أي عملية تنافسية وسيطاً كيميائياً مناسباً لانبعاث إنشقاقات المجتمع ونزعاته المتضاربه او المتباينة في مستويات عدة ثقافية وسياسية.

إن شياع ثقافة الانتخابات ينجب ميولاً لدى قطاعات واسعة من الشعب في تبني واستعمال وسيلة الانتخاب في مستويات أخرى لا تقف عند مجلس الشورى بل تصل في مراحل لاحقة الى رأس السلطة. إن تعويد الافراد على التفكير والعمل بصروة ديمقراطية تستبطن تهديداً مستقبلياً لنظام اعتاد على الحكم والسيطرة عن طريق الاملاءات والانفراد بعملية صناعة القرارات.

ثمة فكرة لصيقة بالانتخابات وهي مبدأ (التناوب)، فالجمود والصرامة والتوحد في الوسائل والآليات والاشخاص كسمات عامة للحكم في المملكة غير قابلة للاستمرار في المستقبل ولا مكان لها في مرحلة التحول الديمقراطي، فالشعب الذي لم يكن يختار بالمعنى الحقيقي والعملي للكلمة رئيس الدولة ونواب البرلمان (وفي حالة السعودية أعضاء مجلس الشورى) أو أعضاء مجالس المناطق هاهم الآن يخوضون عملية الاختيار في مستوى منخفض ولكنه بالتأكيد سينمي ثقافة من نوع ما حول الانتخابات، ولأن الاخيرة تخلق حوافزها لدى الناخبين، فإن ثمة نزوعاً تلقائياً من المقدر له أن ينمو ليمتد في مجالات أخرى، وان منطق التاريخ وحركته تخبران عن أن هذه المشاركة المنخفضة ستفضي حتماً الى صعود التطلع الشعبي نحو المشاركة في تقرير المصير المشترك، بما في ذلك تقرير من يحكم.

  في المقابل، إن الاقبال الضعيف على الانتخابات كما تكشف عنها سجّلات الناخبين واستطلاعات الرأي المنشورة على شبكات الانترنت والمعبّرة عن وجهات نظر فئات اجتماعية متعددة ومتباينة يعكس دلالات ذات أهيمة بالغة، ومن أبرزها انعدام الثقة في الحكومة، وضآلة المكسب المرجو من الانتخابات.. على عكس ما يشاع أن الناس غير مكترثة للعملية الانتخابية أو بموضوع الاصلاح السياسي أو أن العائلة المالكة تقف في مرحلة متقدمة في صعيد الاصلاح السياسي من المجتمع يعتبر تزويراً متعمداً لشهادة المجتمع، وإن هذا الرأي يتم الترويج له من قبل الرسمية السعودية في الغرب من أجل تبرير التدابير الاصلاحية الخجولة.. وحقيقة الأمر، إن الخطوط الضئيلة في طريق الاصلاح السياسي تعتبر متخلفة بالنظر الى التوقّعات المتقدمة لدى عموم المجتمع.. مثل هذه الخطوات بالتأكيد لا تحظى بمباركة القوى الاصلاحية الوطنية.

قد يفهم من إستثناء الاطفال والمجرمين الذين ارتكبوا مخالفات ضد القانون والأجانب والعسكريين من العملية الانتخابية ولكن استثناء النساء ليس له ما يبرره اذا وضعنا في الاعتبار ان الانتخاب يقوم على مبدأ حرية الارادة والاختيار. فمازالت المرأة المحرومة الى حد

 كبير من حقوقها الاجتماعية والاقتصادية تشهد حرماناً من نوع آخر، وان استمرار الحال سيجعل المرأة في موقع متأخر في المستقبل السياسي لهذا البلد.

يلزم النظر دائماً الى أن الانتخابات تهدف الى تحسين الأداء وتطوير آلية لمراقبة عمل الموظفين، وأن المجالس البلدية قد تكون مسرحاً لمواجهة المجتمع مع الدولة، وقد يأخذ عمل المجالس مساراً مختلفاً وربماً متطوراً اذا لم تسمح الحكومة بفتح مجال المشاركة والانتخاب في مجلس الشورى. ومع التنبيه الى إن التجربة الانتخابية الوليدة ستفرز دون شك أخطاءها، وسيكون من الخطأ الفادح توفير عناصر الفشل قبل بدء التجربة ولاشك ان غياب المرأة واحدة من أخطاءها الفادحة.. وفي الاحوال كلها فإن علامة الاصلاح هي مشاركة الشعب بكافة فئاته في تقرير المصير السياسي العام.